«نبي المخيم»، عنوان أطلقه الشاعر الشاب عصام خليل على مجموعته الشعرية الأولى الصادرة عن منشورات الملاك (٢٠٢٤). هي مجموعة من الصور المستوحاة من واقع مأساوي، تظهر فيها كائنات نلمحها في الحياة اليوميةيعرف آلامهاأولئك الذين شهدوا الحروب وعايشوا آثارها، وتعايشوا مع الموت الذي تستحضره الحرب، والموتى وذكرياتهم. عن جغرافية مدينة سنجار وتوزيع المصاعب على السكان المهجرين بطريقة تفوق قدرتهم على التحمل، فتتحول حيواتهم إلى مشاهد تختزلها كلمات مكتوبة بعناية الأنبياء في "نبي المخيم".
تتحول الكتابة في "نبي المخيم" إلى وسيلة نجاة، إذ أن الكلمات على الورق، تشبه إلى حدٍ ما؛ سكاكين ملطخة بالدماء، انتزعها الشاعر من جسد العالم وعمَّر بنية القصيدة بربط ذكرى الموتى بين سكاكينه.
هي قصائد عن القتل، عن أبيه، القاتل البريء، الذي يصاحب القتل والموت رغمًا عنه، فمن ذا الذي بوسعه مقاومة جبروت الموت؟ لا الأنبياء يستطيعون، ولا آبائهم. نقرأ في القسم الأول من الكتاب المعنون "أبي قاتل بريء":
"في حياته
حمل التوابيت أكثر من ابنه الصغير
اليوم حملهما معًا
رحلته على غير العادة إلى المقبرة تبدو أخف،
والزاوية التي يقف تحتها من التابوت فارغة.
**
حزين جدًا ومتعب،
لكنه يفكر أيضًا باستمرار بالذين سيحملونه حين يموت،
من ذا الذي بوسعه حمل مقبرة؟"
يصور عصام خليل آلام الآباء المدونة تحت طبقات صدورهم الخشنة، يحفر أعماق الأرض بحثًا عن كلمة تصف الرجل، النبي المنسي في زمن الحروب الكثيرة. ويستحضر أمثلة لا منتهية مستخدمًا شخصية الأب، وهي شخصية تكررت كثيرًا في الأدب، لدى فرانز كافكا، وتشارلز بوكوفسكي، وبول بولز، وسركون بولص ، لكن الأختلاف مركزي وشاعري هنا، إذ يتجسد الأب كغيمة مثقلة بالذكرى، سوداء تقطر رذاذًا ناعمًا، تعصف على نفسها ولا تسقط أبدًا.
"تربط القصص الجميلة والنكت بالمعاناة،
تتحدث عن زواج أحدهم وتذكر ابنك قائلا: "كان سيتزوج"،
وتضع حتى "كان" في موقف محوج ومأساوي،
تسرد لنا نكتة من أيام الحرب العراقية الإيرانية،
وتربطها بعيد ميلاد ابنتك التي "كانت سترتاد الكلية"،
عائلتك تعيش معك منذ ثلاث سنوات،
كلهم يعيشون معك باستخدام أدوات الفعل الماضي،
ولأنك تخاف من فقدانهم حتّى من ذاكرتك
تقرر أن تعود بالزمن كثيرًا،
والآن تعيش معهم داخل رأسك والجيش العراقي يهاجم إيران والكويت والله".
"نبي المخيم" هو الكتاب المقدس للاجئين، النازحين، وأولاد الشوارع، وهو لا يدعو للقتل، بل الاستمتاع بالألم، معانقته، وحتّى الابتسام له.
"أبي كان جنديًا في الجيش العراقي عام 1988،
كان جنديًا لعدة سنوات،
يقول لي كلما استذكر: إنه لم يطلق رصاصة واحدة،
لم يشارك في أي معركة، (كنت جنديًا وحسب)،
كان من الواضح أن أبي لم يحب العسكرية،
كان عليهم أن يفهموا أن البندقية ليست لفلاح مثله،
ليست لرجل قروي بسيط،
أنا وأخواني أيضًا لا نعرف شيئًا عن الحرب، وعن تركيب الأسلحة، لأن ذلك مستحيل
نحن لم نحمل بندقية يومًا،
ولكن أتذكر مرة واحدة فقط،
عندما كنا محاصرين في الجبل في عام 2014ـ كنت أمسك بندقية قديمة،
جاهلاً بما يتوجب عليّ فعله،
حسبت أن الخيار الوحيد هو تصويبها نحو قلبي والضغط على الزناد حين يهاجمونا الإرهابيون........"
قصائد جائعة، تلتهم الورقة وقارئها، وتتغذى على قلوب الأمهات اللواتي ثكلن أطفالهن بحروب مستمرة منذ الأزل. قصائد لا تشبع من قضم القلوب كلما أعدت قراءتها، وتتعود على الدماء الحارة، تلك التي تلوث يد القتلة وتلتصق بضمائرهم إلى الأبد.
"أفتح الجروح كلما شعرت بالملل،
من المخيم،
من صوت جارتي التي تصفعني بقولها أنني قروي،
توقظ ذاكرتي،
تعيدني إلى حيث مسقط رأسي،
تعيدني إلى مطبخنا في القرية،
جالس هناك
جائعًا جدًا،
أحدث بعيني قاتل في الأواني الفارغة أمامي".
**
"أفتح الجروح كلما تذكرت أن شنكال تعج بالمقابر،
وأن الدماء التي على شوارعها صارت مثل زينة، وصارت مثل الرسومات الكارتونية التي كانوا يرسمونها على جدران مدارسنا،
أفتح جرحًا ما، جرحًا عميقًا
وأدعه يلتهمني على أقل من مهله".
**
"الجروح تفتح لوحدها أحيانًا،
تخلع عني ملابسي،
تجبرني على الركض عاريًا إلى عتمة ما،
وهناك تصبح كل الثقوب مكشوفة ومرئية،
بإمكان أي إله رؤيتها من الأعلى من السماء،
تلك الجروح المضيئة،
مثل مصباح
يعمل ببطارية فولطيتها عالية أكثر مما ينبغي".
هي صور عن الحب، العنيف منه، وتموضعه فوق حافة الهاوية، حيث لا حضور سوى الغياب، ولا غياب سوى الحب. عن امرأة، أو نساء متوزعات على امرأة واحدة، يغبن كلهن دفعة واحدة، ويظهرن دفعة واحدة. عن كره امرأة والوقوع في حب ذكرياتها. جاء في الجزء الثاني من الكتاب المعنون: ثلاث خطوات على قلبي:
"نلتقي في الساعات التي تكون فيها الآلهة نائمة،
أو تتبادل الرسائل الغرامية الأخيرة لها،
في الأحلام التي لم تنضج بعد،
عندما نلتقي، نصنع أحلامًا خاصة بنا
نربيها كطفل وحيد،
نربيها مثل طفل تدخل في نهاية الأمر بيننا،
مثل طفل قرر أن يكون سببًا في إنقاذ أمل ضئيل لعلاقة ميتة،
وجعلها ممكنة في إطار الأحلام نفسها،
رغم كونك في القاطع الأول من المخيم في الوقت ذاته تحلمين برجل آخر،
رجل يحقق لك أحلامنا".
[غلاف الديوان].
الحوار:
عصام خليل خدر شڤان، التولد ٢٠٠٠ سنجار/ مجمع خانصور/ قرية بهرافا. بدأ عصام كتابة الشعر بعد عام ٢٠١٤، أي بعد المأساة التي حلت بالمنطقة التي كان يعيش فيها. التهجير والنزوح والإبادة الجماعية أثرت بشكل كبير عليه وعلى ما يكتب. يعيش في مخيم النازحين (الذي يبدو كمعسكر اعتقال) منذ الإبادة وحتى الآن.
يحاول عصام ترجمة هذه التجربة الشخصية من خلال الشعر الذي يمكن تسميته بالسلاح الذي يستخدمه للدفاع عن نفسه أمام الحياة، وأمام الموت الذي يبدو أنهما يلاحقانه وليس العكس حسب قوله، صدر كتابه الأول في أواخر عام ٢٠٢٣ عن منشورات الملاك تحت عنوان "نبي المخيم". يحمل شهادة الدبلوم في الصيدلة من جامعة دهوك التقنية، ويعمل الآن موظفاً في مستشفى سنوني العام.
جدلية (ج): لماذا نبي المخيم؟
عصام خليل (ع. خ.): كتبت أغلب النصوص في مخيم النازحين، هذا سبب ولكنه ليس السبب الوحيد في اختيار هذا العنوان للكتاب.
أشعر أن الذين حولي لا يشعرون بالوقت الذي قضيناه في مخيمات النازحين، كأنهم فقدوا الإحساس بالوقت عاماً بعد عام، والآن صار الوضع عادياً بالنسبة لهم. المخيم وطن للكثير من الأطفال، تزوجوا، وأنجبوا الأطفال هنا، والآن أطفالهم في المدارس، شيء اعتيادي، حياة كاملة في مخيمات النازحين. أما أنا فكنت أموت هنا يومياً، لم أشعر بالدفء منذ عقد أو أكثر، حتى في فصل الصيف، لقد كنت وكيلاً و كفيلاً و نبياً و إلهاً على كل هؤلاء الناس. لا أعيش، كما هو مطلوب و مفترض، بدلاً عنهم جميعاً، كأني الوحيد الذي يشعر بالسنوات التي تخدش حياتنا و تخرأ عليها ونحن نعيش/ نموت في مخيمات النازحين، كأني نبي هولاء الناس، وهذه مسؤوليتي.
(ج): ما الذي يدفعك إلى الكتابة في عمر صغير، ألا ترى الكتابة تحتاج إلى تجربة شخصية يمكن أن تستمر للثلاثين من العمر كما هو شائع، فما هو الدافع الذي لا يمكن مقاومته للكتابة؟
(ع. خ.): كانت مجرد خربشات صغيرة وتافهة في البداية. بعد عام ٢٠١٦ صار الأمر جدياً، كأن الكتابة كانت نتيجة اضطراب ما بعد الصدمة الذي أصابني في عمر صغير. استوعبت فكرة فكرة تشردنا، أو هذا ما أحاول استيعابه من خلال الكتابة.
كبرنا مبكراً، كتبت الشعر في عمر ال١٤ و ١٥ بشكل تدريجي وصولاً إلى السادسة عشر، لكن ربما كان عمري ٥٠ سنة وقتها، أو أكثر، حتى أشعر أنّي تأخرت في الكتابة، لم أكتب في عمر صغير، بل على العكس تماماً.
أحيانا أقول لنفسي كيف هدرت وقتي في كتابة بعض الخربشات في سن مبكرة، كان عليَّ أن أترجم هذا الموت، كان عليَّ أن استغل كل دقيقة ممكنة في شرح هذا الموت، لأنه أمر عسير على الفهم والاستيعاب بالنسبة للآخرين، و يحتاجون إلى الكثير لتفهم و رؤية القليل من كل هذا.
وقعت في الحب أيضاً في وقت مبكر، و كتبت، ربما كان عمري ٤٠ سنة أو أكثر، على الرغم من أنني لم أتجاوز الخامسة عشرة.
الكتابة مثل الشهوة، تناديك، لا أعرف ما الدافع الذي لا يمكن مقاومته للكتابة، لكني أظن أن الدافع هو الشهوة، ليس من الضروري أن تكون شهوة جنسية، شهوة تجاه هذا الفن، هذه المقابر التي لا تحصى، هذا التعذيب البطيء في مخيمات النازحين، القرى التي تركناها، القرى التي لا تغيب عن بالي.
الذي يدفعني إلى الكتابة؛ اشتهاء وجه بنت الحرام التي أحببتها، اشتهاء دمها الحار اللذيذ، حضنها الدافئ أكثر من الجحيم.
(ج): اتخاذ المخيم مسرحًا للكتابة خطوة خطرة، أولاً لصعوبة الاتكاء على أحداث واقعية لحياة شعب كامل. وثانيًا شبه انعدام الصور الشعرية. لكنك قمت بذلك على أكمل وجه، وبنيت على الركام كائنات شعرية وصورية تتحرك وتعيش وتموت. ما السر وراء ذلك؟ وكيف يمكن استنزاف أجساد الموتى لتقطير كلمات قصيدة أخرى؟
(ع. خ.): المخيم مكان جيد للكتابة، وقد يدفعك إلى الإنتحار أيضاً، وقد يدفعك للكتابة، كونه يدفعك للانتحار بطبيعة الحال، يمكنك تجاهل كل ما يحدث، والعيش مثل الخرفان، هذا أيضا خيار شائع.
وهناك خيار التنفس من خلال الكتابة، هذا ما أردته، هذا ما كان مناسباً لي، أردت أن أكتب، أن أنفجر، أن أكتب في مسرح الجريمة نفسه، تحترق مجموعة من الخيم في قاطع من المخيم، أكتب أنا عن مراهقة تافهة في القاطع المقابل، أسمع الأصوات، أركض، تركض الكائنات التي خلقتها ورائي، تحاول احتواء النار، تحاول قلب السماء و ما عليها، لتطفئ النار وتنقذ لحماً سليماً كافياً للدفن.
هذه كانت صورة واضحة، صورة يمكن الاعتماد عليها، الشعر سهل جداً في المخيم، ليس عليَّ سوى أن أكتب عن هذه اللحظات التي ذكرتها، محاولاً الفرار من الخوف المستمر و الرعشة التي تصيبنا عند احتراق إحدى الخيم فجأةً.
في أيام الشتاء، في أيام المخيم الشتوية الباردة، يمكن الاعتماد على المخيلة للذهاب إلى القرية من جديد. التجمع مع العائلة كلها حول"الصوبة"، يمكن تخيل ذلك، وثم الكتابة عن ذلك، أحياناً أفعل ذلك ولا أريد أن أعود. هذه صورة شعرية يمكن الكتابة عنها، هذه حياة يمكن العودة إليها، لكن الجدة في المقبرة، أخي الأكبر في أمريكا الشمالية، أخي الآخر في أوروبا، جارنا قُتل، ابنة عمي مختطفة، الكلب لا يعوي أمام الباب، حتى الهواء لا يصفع وجهك كما اعتاد، البرد في المخيم يمكن أن يفعل الكثير، العيش في العراء يمكن أن يفعل الكثير، هذا البرد و الشتاء في المخيم يجلدنا ويلهمنا.
يمكن أن أكتب كثيراً عن الحب، لكني أكتب بعنف مبالغ فيه، أمرر سكيني على الجرح لأذكره بما هو عليه.
أعيش في المخيم، و ليس صعباً على الإطلاق الكتابة عن هذه الجثث المشوية، والكائنات التي أفهمها جيداً، أنا أعيش في المخيم، أكتب من مسرح الجريمة نفسه، وهذا ما يسهل عليَّ المسألة.
(ج): الحروب تحتل مكانة كبيرة في تاريخ العراق، وتعددت الكتب والقصائد عن الحروب، ما الذي يميز هذه الحرب بالذات ويدفعك للكتابة عنها؟ حرب داعش والمخيم، نأخذ بعين الاعتبار السؤال الآخر وهو: كيف يمكن للكلمة أو النص الشعري مداواة الجرح أو مواساة الضحايا؟
(ع. خ.): قرأت عن الحروب الماضية، وسمعت أبي يتحدث كثيراً عن الحروب، كونه عاش الحرب العراقية الايرانية، وشارك في حرب الكويت، سمعته يتحدث كثيراً عن هذه الحروب بحسرة و خيبة أمل، كأنه أرشيف الحروب، وكاتبها.
أنا الآن أيضا مثل أبي أتحدث بحسرة وخيبة عن هذه الحرب، رأيت ما حدث بأم عيني، أحاول أن أنقل ما حدث وأحمله معي أيضاً، لا يمكنني الوثوق بالذاكرة والنسيان. أحاول أن أحمل هذه الحرب معي وأكبرها معي، وأغذيها بما تشتهيه مني، تتآكل أعضائي، تبيدني الذكريات وتعيد جرح نفسها، لكني أغذّيها على أي حال. أكرر ما حدث، أريد أن أحتفظ بجرحنا هذا. أريد أن التقط اللحظة التي سال فيها دمنا، اللحظة التي كان الدم فيها لم يزل حاراً. أريد استعادة صرخة امرأة إيزيدية اغتصبت. أريد أن أعيش شعور (أ.ت) الذي نجا وحده من مقبرة جماعية. أريد أن أكتب على الأقل ما شعر به وهو مدفون حياً تحت جثث عائلته بأكملها.
هذه الحرب كانت إثباتاً، ودليلاً حياً، على أن الأيزيدي بشكل خاص مطارد من الله وأنبيائه في هذا البلد، مطارد من الكل بدون استثناء، والإنسان العراقي بشكل عام.
هذه المعمعة والفوضى، نبيهم أفضل، نبينا أفضل، نبي أولئك الناس ربما أفضل، أو ربما إله هولاء أفضل، أنا نبيهم ، أنا ربهم، هذه المعمعة كانت تحتاج لتدخل آخر، أن يدخل نبي آخر على الخط، لكني لا أقتل، أفضحهم، وأكتب عن مهابل أخواتهم.
ما يميز هذه الحرب هو أنها حدثت على مهل، دون عجلة، الكل كان يشاهد، كأننا انتظرنا أن يأتوا إلينا للقضاء علينا، أريد أن أفهم ذلك أكثر. أريدهم أن يروا ذلك أيضاً، هذه الحرب لم تحدث فجأةً، قالوا إنهم سيقتلوننا، سمعنا، لم نكن نعرف ماذا نفعل، لم يكن بيدنا حيلة، والبقية اكتفوا بالمشاهدة، استمتعوا بهذا العرض من القتل والتهجير وسبي النساء واستعادة أمجاد الماضي وترك الكثير من المقابر الجماعية لنا. هذه الحرب أتت بقوة دون أن يحاول أي أحد ردعها، لماذا؟ هذا ما يميز هذه الحرب، لا أقصد حرب داعش على العراق كافة، بل على شنكال، على الأيزيديين خصيصاً. نعرف كيف حدثت بقية الحروب، لكن هذه الحرب على شنكال كانت مثل الفتوحات تماماً. أريد أن أكتب عن فتوحات أبناء الحرام في القرن الواحد والعشرين.
لا يمكن مداواة جروح الضحايا ومواساتهم بأي شكل من أشكال الكتابة. لكني أنقل المشهد ليراه الناس، أنقل أنا نفسي لأبدو حياً في النص الشعري، أن يتحسسني القارئ، أنا أيضاً ضحية أخرى. أحاول أن أكتب عن موتي لأبدو حياً في النص الشعري، لأني أموت الآن حين أتذكر ما قاله لي الإرهابي "إحنا الدولة الإسلامية، لا تكول داعش، شنو عبالك إحنا وحوش".
أموت الآن حين أتذكر ما قالته أختي وهي تبكي حين كنا مختطفين لدى الدولة الإسلامية "إنهم يأخذون النساء، ويقتلون الرجال".
لم أسمع الجملة الثانية وقتها، متنا كثيراً، بطرق عديدة، وبعضنا يبدو حياً حتى الآن.
أكتب بصدق تام، وهذا ما تتطلبه الكتابة الحقيقية برأيي.
(ج): يتخذ الحب في "نبي المخيم" شكلاً مغايرًا للشائع، وهو بشكلٍ ما يمجد العنف فيه، الألم، والذكرى. يتمركز مفهوم الحب الأساسي حول قدرة تحمل الألم، وتمثيل الروح ينبثق فيها كرجلٍ وحيدٍ معتقل في جسده، لا ينتظر شيئًا، بل يعيش ليتذكر. ماذا تريد أن تقول عن هذا؟ ولماذا ترى الحب بهذه الطريقة؟
(ع. خ.): الحب في مخيمات النازحين يختلف، يتجمد من البرد مثلنا، يحترق تحت حرارة الشمس مثلنا، الحب في شنكال أيضاً مختلف، في القرى البعيدة، الحبيبة يمكن أن تكون مختطفة، الحبيبة يمكن أن تكون مصابة بالجرب في "مخيم الفئران للنازحين"، الحبيبة يمكن أن تكون قد قتلت أو اغتصبت، الحبيب يمكن أن يكون في مقبرة جماعية، ويمكن أن يصارع الكآبة في مخيمات النازحين، يلعن الآلهة في طابور لتوزيع المواد الغذائية والإهانة معاً، أو يحاول أحدهما النجاة من الغرق والتيه عند الهجرة والهروب من البلد، بطرق غير شرعية، هذا حب مختلف، الحب هكذا هو موت جميل.
لا يمكننا الحديث عن الحب بشكل عادي، نحن أبناء المخيمات والمقابر الجماعية، نحب بشكل عادي واعتيادي ولكننا لا نخون الدم أبداً. نذكره بأننا أوفياء له كل مرة، اكتب بعنف مبالغ به عن الحب، أنا ابن المخيمات والمقابر الجماعية.
كتبت، وأكتب كثيراِ عن الحب، لحسن الأسف، لكني أريد أن أكتب عن الحب أيضا كما لو أنني اقاتل؛ كما أقول في إحدى نصوصي. لا أريد أن تظهر للقراء قصة حب أسطورية مثالية سطحية عندما أكتب، بل أريدهم أن يروا الألم عن كثب، أن يفتحوا الجروح معي، أن يواعدوا الجروح مثلي.
لا أرى الحب بغير هذه الطريقة، بالعنف، بالجثث والدم، حتى العناق أريده أن يكون عنيفاً، أن يلتحم أحدنا بالآخر، أن يخترقه مثل سكين، أن يقطعه ويمحوه، أن يكتمه، و من خلال قبلة أريد أن أشرب دم حبيبتي، وأتركها كأنها ذبحت مثل دجاجة أو رجل عراقي.
السؤال يجب أن يكون لماذا لا أرى الحب سوى بهذه الطريقة، لأنني أريد أن أشرح هذا الموت وهذه اللاحياة التي حولنا، حتى من خلال الحب، أريد أن أقرب الناس من هذا العنف وهذه القسوة بكل الطرق الممكنة.