لا شك أن الأغنية أثبتت على مر العصور، أنها واحدة من أنجع وسائل الإعلام، إذ تتحول إلى كبسولة تغني عن نشرة فكرية أحيانا، حين تحمل رسالة مؤثرة، فقد أحدث فاعلية في الأفقين العاطفي والإنساني وكذلك في الأفق الوجداني، فكيف بها في الأفق الوطني والجهادي!
في الحِمل الوطني لعبت الأغنية العسكرية دورا تحميسيا كبيرا، وتجلى تأثيرها في أغاني ثورة يوليو في مصر، ثم في أغاني الثورة الفلسطينية حيال حرب النكسة وحولها، وكذلك في حرب أكتوبر 1973، وتلت ذلك فترات الانتفاضتين الأولى والثانية، ثم حرب تموز 2006، التي أعادت إلى الذاكرة كل الأغنيات العسكرية التي شدا بها اللبنانيون في حروبهم مع إسرائيل، وثمة فصل عراقي أيضا، تمدد في الفترة منذ 2003 إبان غزو العراق، تشابه كثيرا مع أغان اتخذت حيزا في حربي الخليج.
في الحالة الفلسطينية ثمة تمثلات عدة للأغنية الحربية أو العسكرية، ولكن ثمة خصوصية تمتعت بها أغنيات حركة حماس، أو الأناشيد كما يفضّل فريق غرباء للفن الإسلامي، المتصل بالحركة، أن يسميها، ومن بين تلك الأناشيد، أنشودة "جودي بدمك يا حماس"، أو "جند وقادة مرابطين" أو "عهد القادة"، ودليل تأثير هذه الأغنية، حذفها ومثيلاتها المستمر عن منصات الأغاني ومن بينها يوتيوب، وعن مواقع التواصل أيضا.
خصوصية الأغنية تنبع من كونها تشكل دستورا حمساويا، يجّلي بالتفصيل سطورا من فكر الحركة وأهدافها، بل يجمل خطها العقدي بصورة تجعلها أقرب لنشرة حزبية، صالحة لتنظيم المستمع.
تبدأ الأغنية بمقطع:
"جند وقادة مرابطين … ما نهاب المنية
حنا رجالك فلسطين … ورجال القضية
ع الحق إحنا ظاهرين … رايتنا إسلامية
جندك يا طه الأمين … هالقسامية"
ويمكن عد هذا المقطع توطئة للتعريف بخط الحركة، فهي لا تفرق في ساعة الحرب بين الجند والقادة، فكلاهما يرابط حينئذ، ثم تأتي جملتا "حنا رجالك فلسطين" و"رايتنا إسلامية" منسجمتين مع تيار الحركة الوطني والإسلامي في آن، إذ تُعجز هذه الخلطة العدو في كل مرة، فثمة بعد وطني يستوجب النضال والكفاح والتضحية، وثمة بعد ديني يعمل مسكّنا ضد صدمات الحزن بعد كل تضحية، فقتلانا في الجنة وقتلاهم في النار، وفقا للمعتقدين بعقيدة حماس، مما لا يترك للعدو ثغرة لفتّ عضد الالتفاف حول مشروع الحركة التحرري، عبر تذكيره الفلسطينيين بحجم الويلات التي تجرها عليهم "مغامرات" هذه الحركة، كما يسميها.
ثم تتبنى الحركة قيادة المشهد الجهادي، وتحويل النظرية إلى عملية، من خلال المقطع الثاني:
"جودي بدمك يا حماس للقدس الأبية .. ما يهمك نبح الأنجاس عُملا وصهيونية
رايتك هي الأساس ما دام إسلامية .. جماهيرك خلفك حرّاس.. هالحمساوية"
فلا تضع الأغنيةُ الحركةَ موقع المُنظّر، إنما موقع الفاعل والمضحّي الأكبر، من خلال حض أبنائها على الجهاد والاستشهاد، وفي سبيل القدس، ذات البعدين الوطني والديني، ولا تجبر الفلسطينيين كلهم على الانخراط في تأييد المشروع، بل تكتفي بشحذ همم جماهيرها الحمساوية، وفي ذلك نزول عند حق التعددية.
ولانخراط الحركة في المنظومة السياسية فصل في هذه الأغنية، يعبر عنه المقطع:
"لما خضنا الانتخابات فزنا بأغلبية .. كتبنا بكل الساحات: حماس الشرعية
رفضنا التنازلات وحفظنا القضية .. هيات بتركع هيهات هالحمساوية
فوضنا الشعب الشريف حملنا الأمانة .. جلسنا على الرصيف وما رضينا الخيانة
صبرنا على الرغيف تحمّلنا الزنزانة .. صدينا العدا بالسيف يالحمساوية"
وفي ذلك شرح واف، لقرار الحركة بخوض الانتخابات، وتوصيف لما جرى، من تمسك بالحكومة، برغم الانقسام وتداعياته، إذ تقول الحركة –وفقا للأغنية- إن تمسكها بالحكم سببه تفويض الشعب لها، ومسؤولية صون هذه الأمانة، حتى النفس الأخير، فبعد أن حوصر وزراء حكومتها، صبروا على كل ذلك، واستمروا في "حمل الأمانة"، حتى دقت ساعة الاستحقاق، والتي عبرت عنها الحركة، بتخليها عن الحكم عام 2014، أي بعد مرور 8 سنوات على فوزها بالانتخابات، وهو ما يعادل ولايتين انتخابيتين، الأولى فازت بها عبر الصناديق، والثانية استأثرت بها بسبب تعطّل العملية الانتخابية، وبمجرد انتهاء الثانية، لم يبق مبرر قانوني للتمسك بالولاية، فسلمت الحركة الولاية للسلطة الفلسطينية، وتشكلت حكومة رامي الحمد الله.
وتفسر حماس من خلال الأغنية، الفارق الجوهري بين "الإرهاب" و"الإسلاموفوبيا"، من خلال مقطع:
"لما حكّمنا الكتاب والسنة النبوية .. صنّفونا بالإرهاب وقالوا إرهابية
حماس العزة ما تهاب كل البشرية .. باعتها لرب الأرباب هالحمساوية"
واضعة بذلك قانونا جديدا لا يعرفه العالم الغربي، الذي سرعان ما انساق خلف الرواية الصهيونية.
وتفرض حماس في الأغنية واقعها الجديد، بالقوة لا بالمفاوضات، مذكرة جماهيرها، بغنائم القوة، عبر المقارنة بين واقعين، الأول قبل انطلاق مشروع الحركة، والثاني بعد تبدّي المشروع على أرض الواقع:
"كنا بالقوة ننساق ع جيب الدورية .. صرنا نمشي بالأنفاق ونأسر صهيونية
وينو جيشك هالعملاق وينو الجولانية .. للحور العين بتشتاق هالقسامية
بالحجارة وبالسكين قاومنا عادينا .. صار الـM75 نصنعه بيدينا
فضلك رب العالمين على مجاهدينا .. جندك يا طه الأمين هالقسامية
بالمولوتوف والمقلاع صدينا الأعادي .. طوّرنا سلاح الدفاع من صنعك يا بلادي
طائراتك ما تنفع مع جيل الشهادة .. لغير الله ما بتركع هالقسامية"
وتباهي بالطبع، بالصناعة العسكرية الوطنية، التي لم تسبقها إليها حتى الدول في العالم الثالث، وترجع الفضل في ذلك إلى الله، وإلى سواعد كتائب القسام، ممن يبذلون أرواحهم فداء للوطن وطلبا للجنة والحور العين، في تفسير عقدي لا يمكن هزّه.
أما المقطع الأخير الذي لا يجده الباحث على مواقع البحث دائما، إلا في نسخة واحدة بثتها قناة الأقصى، فيحتفي بسرد التضحيات، لا سيما على مستوى القادة، والتذكير بما بذلته الحركة من أجل الحفاظ على وجودها، وتحقيق مشروعها التحرري، إذ يبدأ من مرج الزهور على الحدود اللبنانية، موقع إبعاد 376 قياديا في حركة حماس و40 آخرين من حركة الجهاد الإسلامي، عام 1992 في ظروف قاسية وغامضة وغير إنسانية، وذلك بعد أسر كتائب القسام جنديا إسرائيليا، والمطالبة بالإفراج عن أسرى الحركة وعلى رأسهم الشيخ أحمد ياسين، قبل مرور 3 أيام، والتهديد بقتل الجندي في حال عدم الانصياع لمطالبهم، وبعد مرور الأيام الثلاثة قتلت حماس الجندي فعلا، فاتخذ الاحتلال الإسرائيلي قرارا باعتقال هؤلاء القادة من الضفة الغربية وغزة، ومن بينهم عبد العزيز الرنتيسي وإسماعيل هنية ومحمود الزهار وحسن يوسف وسامي أبو زهري وسعيد صيام وصلاح دروزة ومحمود أبو هنود وفوزي برهوم وعزيز الدويك وآخرون، وإبعادهم بطائرات هيلوكوبتر إلى منطقة "مرج الزهور" اللبنانية، أي خارج فلسطين.
وقد استثمرت الحركتان جميع قنوات الاتصال لإدانة فعلة الاحتلال، حتى أصدر مجلس الأمن قرارة رقم 799 واصفا الحدث بانتهاك إسرائيل التزاماتها بموجب اتفاقية جنيف للعام 1948، وهو ما أرغم الاحتلال على إعادتهم على دفعات. ويقول المقطع:
"عشنا في مرج الزهور أيام وليالي.. أبعدونا عن الدور وعن وطنا الغالي
عدنا وأعلننا الدستور يا رايتنا لالي.. شعبك يا غزة منصور هالحمساوية
صمدنا رغم الإبعاد ورجعنا قوافل.. هزمنا قيد الجلاد حطما السلاسل
علينا راية البلاد في كل المحافل.. بدلنا ألف بجلعاد يا الحمساوية"
وبالطبع يحتفي المقطع بالرحلة الصعبة ونتيجتها كانتصار، احتفاءه بنجاح الاستراتيجية ذاتها لاحقا، أي استراتيجية أسر الجنود الإسرائيليين ومبادلتهم بأسرى فلسطينيين، ضاربا جلعاد شاليط مثالا، والذي أفضى أسره إلى صفقة وفاء الأحرار التي حررت ألفا ونيفا من الفلسطينيين، وعلى رأسهم يحيى السنوار، الذي أدار بعد 12 سنة معركة طوفان الأقصى وهجوم 7 أكتوبر، الذي أفضى إلى أسر مئات الإسرائيليين، ومن بينهم جنود، وقد أفلحت الاستراتيجية مرة أخرى، في تحقيق صفقات تبادل، ولكن هذه المرة تحت نار الغضب والهجمية الإسرائيلية، التي أودت حتى الآن بنحو 32 ألف شهيد، و72 ألف جريح، في غزة، التي يوجه لها المقطع ذاته تحية واصفا أهلها بالشعب المنصور، في ما يشبه الانتباه إلى تضحياتهم الجسيمة، والتي لا يمكن إلا أن تؤدي إلى نصر محتوم.
وإذا أسقطنا هذه الأغنية على الواقع منذ أن كانت حماس حتى الآن، سنجدها بمثابة وثيقة ترصد نشاط الحركة، جنبا إلى جنب مع شرحها لعقيدتها ومشروعها التحرري.