كتب: الجسد في مصر؛ من السياسة إلى الاستهلاك

كتب: الجسد في مصر؛ من السياسة إلى الاستهلاك

كتب: الجسد في مصر؛ من السياسة إلى الاستهلاك

By : Ahmed Abdel Halim أحمد عبد الحليم

(جسور للترجمة والنشر، عمّان، 2024)


جدلية (ج): كيف تبلورت فكرة الكتاب وما الذي قادك نحو الموضوع؟

أحمد عبد الحليم (أ. ع.): تبلورت فكرة الكتاب، ضمن اهتمامي بالكتابة عن الجسد وعلاقته بالفضاءات من حوله، والذي شجعني أكثر على على الكتابة، حالة الموات السياسي، الفكري والتنظيمي، التي أصابت المجتمع المصري بسبب قمع النظام الحالي. ومن هنا، حاولت الإجابة عن سؤال، كيف وصلت مصر إلى هذه السُلطوية؟ وهذا من خلال الاشتباك مع الجسد وتمثِيله المُتعدد، عبر استدعاء تاريخيّة فلسفة "حق امتلاك" السُلطوية في مصر لأجساد المواطنين، كيف بدأت سيادتها وسياستِها، في استخدام أجساد المواطنين وتسخيرها وعزلها وفنائها، من أجل بقاء السُلطوية وهيمنتها، مع التركيز على سُلطوية ما بعد الثالث من تموز/يوليو 2013، مُستندا على الكثير من المرويات الميدانية والنظرية الشاهدة على هذه السُلطوية والمُفسّرة لها، كي أبحث من خلالها في رؤى مُختلفة فيما يخص السياسة والاستهلاك وتمثيلاتهِم وتفاعلاتِهم المُتداخلة والمتباينة على الجسد.

(ج): ما هي الأفكار والأطروحات الرئيسية التي يتضمنها الكتاب؟

(أ. ع.): سُلطوية ما بعد الثالث من تموز/يوليو 2013، ركّزت على امتلاك الجسد، من خلال تقسيمه إلى مُعارض وتابع ومؤيد (مُحايد) وفائض. القتل أو الإخفاء أو العزل (السجن) في حالة الجسد المُعارض. الصناعة والتدريب والتجهيز في حالة الجسد التابع، وهو بمثابة أداة لتفعيل الاستثناء. والتدجين من نصيب الجسد المُحايد، كي يُصبح مؤيدا أو على الأقل يحتفظ بحياديّته، واللوم والتحذير من نصيب الجسد الفائض. ومن هنا، رأيت السياسة في الجسد منذ بدء تأسيس الدولة الحديثة في مصر، ولا سيما سياسة السُلطوية الحالية، تحديداً، كانت هي الأكثر تمركزاً على الجسد، من السُلطويات السابقة لها.

هذا التمركز، جعل السياسة فضاء مجففا بعيدا، لا يقترب منه أحد، خوفا على الجسد. هذا لأن الاقتراب من السياسة، تناسب طرديا من الاقتراب بهلاك الجسد، سواء بموته، أو إخفائه أو عزله (سجنّه) أو تشويهه (تعذيبه). أو حتى هندسته، أي هدمِه كذاتٍ وإعادة بنائه مرّة اُخرى، كما يحدث داخل الفضاء السِّجنّي. وخلال السنوات الماضية، وإلى الآن، كان الحديث السياسي الشاغل عن "السجن". تصريحات سُلطوية تنفي وجود سجناء سياسيين أو حتى توعد بإطلاق سراحهم، وجماعات ومنظمات سياسية وحقوقية تُطالب بخروج هؤلاء السياسيين من السجن، ما عنى أن السياسة كان جزءا أساسيا منها هو السجن. والسجن ما هو إلّا جسد مُقيد مُراقب مُهندَس مُعاد إنتاجه، فكانت السياسة في الجسد. والسياسة ذاتها، وبفعل أدواتٍ عدة، باتت استهلاكية. والاستهلاك تتشكّل تمثُلاتِه عبر الجسد، أي تَمظهره وتسلّعه. ومن هنا حاولت تفكيك وقراءة التقاطع الراسخ بين السياسة والاستهلاك، كما انتقال الجسد بينهُما عبر تمثّيلاته المُتباينة.

هذه القراءة، انطقلت من الممارسة، الممارسة هي نقطة الارتكاز، كما هي الانطلاق نحو الاشتباك والنقاش والتحليل. وأقصد بـ"الممارسة"، أي الذاتية، المُتمثلة في التجربة الشخصية الواقعية، من احتجاج وسجن ورقابة ومَنفى ومن ثم قراءةٍ ونقاش، وممارساتٍ "ذاتيات" أُخرى كان الجسد فيها، فاعلا هاما في كل تلك المشاهد.

سمّيت الذاتية "ممارسة"، لأنها ليست ذاتية فردية تخصني وحدي، بل ذاتية انطلقت ولم تقف مُتمحورة حولي، وجمعتْ ذاتيّات جماعاتية معها. إذ وفي خلال السنوات الماضية، أجريت عشرات المُقابلات، نتج منها عشرات الحوارات والشهادات، في موضوعات كثيرة.

هذه الذاتية الجماعاتية، حاولت حفظها، كي تُصبِح تاريخا اجتماعيا بشكل أساسي، وكجزء رئيسي لا ينفصل عن التاريخ السياسي لسلطوية ما بعد الثالث من تموز/يوليو. هذه الشهادات، والتي اعتبرها شهادات من واقع الحياة بأوجهه، السياسي والاجتماعي والفكري والنفسي، لا تؤرِخ فقط لما حدث، بل هي إضاءة أساسية لتحليل منهجية هذه السُلطوية، المَنهجية الغير مرئية "غير المُعلنة" حول فلسفة الحق في امتلاك الجسد، كما هي نقطة انطلاقة لفهم أكثر إدراكا واتساعا، عن الدولة المصرية وتاريخية علاقتها بالأجساد من حولها، الجسد الأساسي دائماً، والسياسي منه في حالة الاستثناء.

كما كانت خطابات وتصريحات رئيس ومفكر السُلطوية العُليا عبد الفتاح السيسي، محل إضاءة أساسية للإجابة على سؤال، كيف تعمل السُلطوية؟ في الأفضية المُتباينة للمجتمع، بما أنّها سُلطوية غلبتْ عليها الطابع الفرداني الشخصاني، المتمثل في رأسها الأعلى، لآخذ هذا الخطاب وأضعه محل اشتباك وتحليل لمنهجية هذه السُلطوية ونظرتها وطريقة عملها حيال السياسة والمجتمع، كما استعرض بعض منه، في خاتمة الكتاب.

أما عن بنية الكتاب، ففي الفصل الأول، وضعت تمهيداً في البحث عن تاريخيّة العلاقة بين السُلطوية وأجساد مُواطنيها، عبر تاريخ الدولة المصرية الحديث والمُعاصر. إذ عاملته السُلطوية الأولى، ضمن أدواتها الحيوية، كأنّه آلة إنتاج، تُساعدها في البقاء والهيمنة، ما عرّفه الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو بالبيوسُلطة (PIO POWER). جسد (رقم) وسط أجساد (أرقامٍ) أُخرى، في تشابه كبير في فلسفة تُعامل السُلطة السِّجنّية حيال أجساد سُجنائها، حيث تستفيد منهم قدر إمكانها كونهم أجساداً خاضعة لها. ومن هنا، ناقشت كيفية هذا التعاطي تاريخياً وفلسفياً وممارساتياً، مع التركيز على سُلطوية ما بعد الثالث من تموز/يوليو، بما أنّ سياستها (سيادَتها بوصف المفكر الإيطالي جورجو أغامبين) جمعت بين إدارة الأجساد كُلها، بل وقسّمتهم إلى أربعة أنماط جسدية معارضة وتابعة ومؤيدة وفائِضة. وعزلت الجسد السياسي (المعارض) منها، من خلال مُخاصمته عبر قتله أو احتجازه أو ابتلاعه كُلّية. وأهّلَت التابع لها لاستخدامه في فرض الهيمنة، وأرهَبت المؤيد لبقائه على التأييد أو على الأقل الحياد، وحذرت الفائض من زيادته. ومن ثم انتقل، لتوضيح ما هو التمييز كما الاستثناء في القمع، الذي فعّلته السُلطوية بحق فئات مُتباينة من المُجتمع. أيضاً شملت السُلطوية مُستندة على تطويع التشريع، قمع الاحتجاج الحركي، إذ أرصده وأتتبع تفصيلاته، عبر القوى الإسلامية وغير الإسلامية، كما فضاءات أُخرى، عمرانية وصحافية وإعلامية وجامعية ومؤسساتيّة تابعة للدولة، أيضاً فئات آُخرى كمُوظفي الدولة، وروابط الأولتراس الرياضي والسياسي. وكما استندت أن سياستها، أي السُلطوية قامت عبر تفعيل حالة استثناء على الجسد السياسي، بقتله وإخفائه وسجنه، فَأقرأ تمثّلات ما بعد هذا الاستثناء، تحديداً ما بعد السجن، حول كيف أصبح خروج الأجساد المصرية "المعارضة" من السجن أصعب من دخولها، وعن المُنعتقّين منه، كيف دخلوا في فلكة الأمننة التي وظّفتها السُلطوية ورعتها بدقّة، بهدف إخضاع الأجساد وتأميم أي فكر أو ممارسة قد تصدر منها.

وفي الفصل الثاني، ناقشت الهُوية التائهة للسُلطوية، فيما افترضت أن هذه السُلطوية لا تعتني أو تُمثل هُوية مُستقلة بحد ذاتها، فلا هي امتداداً ناصرياً عروبياً قومياً، ولا ساداتيّاً أو مباركاتيّاً، ولا حتى فرعونياً، بل تأخذ ما يناسبها من كل السرديات المصرية السُلطوية السابقة، لكن كانت هُويتها الأساسية تتمثل في الاستثناء، أيديولوجية وعقلية وسرديةٍ وممارسة تُبرر سُلطويتها، ومن ثم بقائها وهيمنتها على الحكم. هذا الاستثناء، قرأت تمثيله، في تأميم السردية الثقافية "الغير حركية" بالمعنى الاحتجاجي المباشر، بما تشمل فضاءات عدة، فنية تخص الدراما تحديداً، كما تعليمية وتربويّة كالمدارس الحكومية والغير حكومية.

وفي الفصل الثالث، ناقشت التجلّيات المُباشرة التي أحدثتها السُلطوية، والتي طالت مئات الآلاف من المصريين المُعارضين، خاصة الشباب منهم. إذ ناقشت تحولات المشاعر والأفكار داخل سنوات السجن، ومن ثم انتقلت إلى خارج السجن بل وخارج مصر (المنفى)، كي أرى جزءاً من الشباب، أي المُنتمي إلى الإخوان المُسلمين، كيف كانت تجلّيات المرحلة عليهم. ومن ثم خرجت من الخاص إلى العام، لأرى اتجاهات ومسارات الشباب الخارج من الاستثناء ومن السياسة كُلّية، سواء من بقيَ منهم داخل مصر أو من خرج منها. كما ناقشت الاستثناء في المُعارضة، فيما يخص فلسفة السُلطوية في التعامل مع المُعارضة، الإسلاميين كأخصام سُلطة، ومستقبلهم في الحياة الاجتماعية ومنها السياسية، كما مستقبلهم داخل سجون سُلطوية السيسي. وعن غيرهم كمُعارضة من التيارات الغير إسلامية، والتي يمكن الحديث معها والعفو عنها، كما التلاعب بها، لأرى تمثلات ما بعد مشهد الحوار الوطني، التي أطلقته السُلطوية مع المعارضة المدنية في أواخر شهر نيسان/أبريل 2022. بعد ذلك، اتجهت إلى تمظهرات الاستهلاك وصعوده مُقابل مَوات السياسة وفكرها وتنظيمها وممارساتها، بل وتحوّل السياسة ذاتها إلى سياسة استهلاكية. هنا ضربت المثل، بالمعارضة المصرية، خاصة المُقيمة خارج مصر، كي أرصد وأحلل كيف تحولت إلى مُعارضة وظيفية استهلاكية من حيث التنظيم والفكر والممارسة، لا مُعارضة ثقافية صلبة إصلاحية أو ثورية. ومن ثم ناقشت مفهوم الذات السياسية وتحولاتها من الواقعي إلى الافتراضي، وما تجلّيات هذا التحول على ماهية السياسة في راهن المشهد المصري ومُستقبله، كما ضمّنت سؤال كيفية انتقال الجسد من كونه جسداً سياسيّاً إلى جسداً استهلاكياً. ومن ثم وضعت بدلاً من خاتمة، تحاول نقاش ما هو قادم حول مشهدية السُلطوية في مصر، بعد هيمنة الرئيس السيسي على الحكم إلى عام 2030.

(ج): ما هي التحديات التي جابهتك أثناء البحث والكتابة؟

(أ. ع.): المقابلات بشكل أساسي، كانت من ضمن تحدياتي، كما ذكرت اعتمد بشكل أساسي في كتاباتي على سماع سرديات الناس، الذين تعاملوا أو مورس عليهم أفعال السُلطوية، أيضا بسبب الوضع الأمني في مصر، وهو وضع شديد القمع والترهيب، كان يخاف الكثير من إجراء أي مقابلات أو إدلائهم أي شهادات ناقدة للنظام. كذلك تحدي النشر، إذ حاولت نشر الكتاب في مصر، لكن لم تأخذه أي دور نشر، لأن محتواه ناقدا لممارسات السُلطوية ورئيسها، وتخاف دور النشر من القمع بسبب نشرها هذا المحتوى، كما تخاف من خسارتها المادية، فلو منع الكتاب، ستخسر الدار حق طباعته. ولذا، كان لا مفر من نشر الكتاب خارج مصر، وكانت بيروت هي الحاضنة، كما اشتهر عنها تاريخيا بأنها مكان نشر نصوص الأدبية والبحثية الممنوع إصدارها.

ركّزت سُلطوية ما بعد الثالث من تموز/يوليو 2013 على امتلاك الجسد، من خلال تقسيمه إلى مُعارض وتابع ومؤيد (مُحايد) وفائض

(ج): كيف يتموضع هذا الكتاب في الحقل الفكري/الجنس الكتابي الخاص به وكيف سيتفاعل معه؟

(أ. ع.): الكتاب يتبع حقل الاجتماع السياسي، ويمكن أن نعتبره أيضا، ضمن دراسات الجسد. على ما أظن، سيتفاعل معه، كل من يهتم بمعرفة علاقة الجسد بالسلطة السياسية، لاسيما في البلاد القمعية، التي تتشابه أدوات سيطرتها وإخضاعها لأجساد مواطنيها، خاصة الأجساد التي تمارس عملا معارضا، سواء سياسيا بشكل مباشر أو غير مباشر.

(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الفكرية والإبداعية؟

(أ. ع.): الكتاب هو مؤلفي الخامس، والرابع من حيث التركيز على موضوعات الجسد، حيث نشرت من قبل رواية قصيرة بعنوان "أجساد راقصة" (أمم للتوثيق والأبحاث، بيروت، 2021)، تناولت حركة الجسد وتشكّله داخل السجن. كذلك كتاب من يمتلك حق الجسد: قراءة في الحياة السجنية"، عن ذات الناشر (2022)، وقد تناول، بشكل بحثي، صور الجسد المُشكّلة في تباينها وتشابهها داخل السجن كنتاج لمرئيات الحياة السجنّية. أيضا نشرت كتاب "تمثلات المُجتمع المصري: في الذات والجسد والهُوية" عن دار رياض الريس، بيروت، 2023، وهو كتاب يناقش ويقرأ التمظهرات والمتغيرات التي طرأت على المُجتمع المصري في فضاءات مختلفة، مثل التقنية (وسائل التواصل الاجتماعي)، السينما، الإعلام، النيوليبرالية، العمران. لذا كان هذا الكتاب، ربما، مكملاً لتلك الفضاءات، بما أنه اشتبك مع فضاء السياسة وسُلطويتها في مصر.

(ج): من هو الجمهور المفترض للكتاب وما الذي تأمل أن يصل إليه القراء؟

(أ. ع.): كل من يهتم بالسياسة في مصر، وطرق إدارتها، لاسيما بعد منتصف 2013، كما كل من يهتم بالجسد وعلاقته بالسياسة في مصر، فضلا عن مجتمعات البحث والأكاديميا والسياسة وحقوق الإنسان وغيرهم، وبشكل أساسي، من القراء الذين لا ينتمون إلى أي تصنيفات، غير أنهم مواطنون مصريون، يتعاملون مع السُلطة السياسية والأمنية، وربما مورس على أجسادهم أفعال كثيرة من قبل السُلطوية في مصر.

(ج): ما هي مشاريعك الأخرى/المستقبلية؟

(أ. ع.): في الوقت الحالي، أعمل على كتابة رواية بعنوان "التابع وسليمان: ثرثرة في المنفى"، أحاول من خلالها توضيح العلاقة بين التابع (المهمَّش)، بوصف أنطونيو غرامشي، وبين رئيس الدولة المُستبد، الفيلسوف، "الفهمان كل شيء"، عبر العقود الماضية في مصر، من خلال سرد روائي، يتمثل في حكايات التابعين، كما حكايات السياسة، السجن، المنفى، الحب، الجنس، السلطة، الاستهلاك، وغير ذلك من مفاهيم وتمثلات.

مقتطف من الكتاب

"ليس القمع فقط، هو الذي يُجفف منابع السياسة عند الناس، بل بالتوازي معه، عملت الثورة التقنية وعرض الحيوات المرئية، على تغيير اتجاه الناس نحو السياسة. بمعنى، أن العمل سواء السياسي أو الثوري وتداخلاتِهما من أجل الإصلاح والتغيير السياسي، كان المخرج الوحيد لفئات عمرية متباينة، غير مرئية ومهمشة وغير مهمشة. حاليا، هذه الفئات تجد في عرض حيواتها، بوابة للخروج من الزاوية "المهمشة" إلى المركز ونيل الاعتراف الاجتماعي، منذ ولادتهم، لم يحظَ هؤلاء الناس بأي اعتراف اجتماعي، سواء من الدولة أو مؤسساتها الاجتماعية أو الثقافية، بل الغالبية منهم، تُنسب إلى التابع (Subaltern) بوصف الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي،أي الذين ليست لهم انتماءات فكرية أو تنظيمية، وفي الغالب يتبعون الدولة ودوائرها السلطوية من الاجتماعات العُليا في القرار السياسي كمقامٍ أول[1]. لذلك كان بث يومياتهم، ووجودِهم ولو على سبيل الصدفة كـ"ترند" (TREND)، أعطى لهم فرصة لا تُعوض أو بمثابة فعل استراتيجي، ثوري اجتماعي، إن جاز التعبير، تمسّكوا به مثل محمد عامل النظافة، أو هيثم "ويجز الغلابة" وغيرهم المئات، الذين يناضلون من أجل الاعتراف (The Struggle for Recognition)، وهذا للانتقال من الحياة اللامرئيّة (Invisible Life) إلى الاعتراف الاجتماعي وسط الفئات المُختلفة المتواجدة في الفضاء الافتراضي، كي تعرفها وتتفاعل معها، بل وتحبها، وهذا ضمنيّاً ما اعتبره الفيلسوف الألماني أكسل هونيث شكلاً من أشكال السعي للاندماج والظهور من أجل الاعتراف[2]؛ إذ ومن خلال عرض هذه اليوميات ووصولها للجمهور، يبدأ الجمهور في مشاهدتهم ومعرفتهم والحديث معهم وعنهم. كذلك الخروج من التهميش من خلال كسب المال، عن طريق مشاهدات يوتيوب أو إعلانات فيس بوك واستضافات البرامج المتنوعة على القنوات التلفزيونية، ويصبح هذا الظهور (الترند)، بديلاً نضاليّاً لهم، وتُحل الشاشة كفضاء بديلاً من مقرّات الأحزاب والعمل السياسي.

هذا أيضاً تداخل مع صعود الفردانية كفلسفة وممارسة، الالتفاف حول الذات "الجسد"، وحصر وجودها وبقائها بالإنجاز، ضمن ما يُعرف بـ"مجتمع الاحتراق النفسي"، الذي يعيش فيه الإنسان صراعاً مع الزمن، احتراقاً عقليّاً ونفسيّاً من أجل الإنجاز الذي لا يرضى عند محطة بعينها[3]. "أسطورة البطل التي اخترعتها الرأسمالية وتروّج لها، في ما سمّاه أستاذ علم النفس برايان ليتل بـ"أسطورة البطل المُنفرد" الذي يلهث الجميع من أجل الوصول إليه، لا عن إبداع حقيقي في مجال بعيّنه، بل عن فردانية شوّهت، ومن خلال النرجسية الشديدة، تُحب أن يَنظر إليها الجميع في هوسٍ بها[4]. هذا بدوره، فكك العمل ضمن التنظيم الجماعي، الذي يعني العمل من أجل الجماعة/الآخرين، لا العمل من أجل الذات وفقط. لذلك تبنى الكثير مقولة "لا حاجة لنا للتنظيم وللسياسة وأوجاعها"، خصوصاً إن كانت السُلطة تدير الحياة بالقمع، وبما أن تمثيل الذات في أحيانٍ كثيرة، يتشكّل عبر تمثيل الجسد ذاته، وجوده المثالي، وهذا ما يخلق تضاداً آخر للوجود السياسي، حيث السياسة في ظل الاستثناء تقضي على الجسد، بقتله أو سجنه أو ابتلاعه، ومن هنا هوس الحفاظ على الجسد، بما أنّه "رأس مال رمزي" للذات، وافتقاده يعني افتقاد الذات وجودها تحت هيمنة الفردانية ومنظومتها[5].

وهذا ما ترجم واقعيّاً، عبر إحصاءات قامت بها مجموعة من الباحثين في عام 2016 تحت رعاية مؤسسة فريدريش إيبرت ومعها مجموعة من الشركاء، في إثر مقابلات مع تسعة آلاف شاب من ثمانية بلدان عربية، هي مصر والأردن والبحرين ولبنان وفلسطين واليمن وتونس والمغرب، إضافة إلى "اللاجئين" السوريين في لبنان، في ما يخص اهتمامهم ونظرتهم إلى عدة قضايا، منها الاهتمام بالسياسة بكل أبعادها. وجاءت النسبة الإجمالية أن 18 في المئة من الشباب إجمالاً مهتمون بالسياسة. في مصر كانت النسبة 23 في المئة فقط، ما عكس عزوف معظم الشباب في مصر عن السياسة وكل ما يخصّها[6]. هذا العزوف، جاء بشكل أساسي نتيجة قمع سُلطوية ما بعد 3 تموز/يوليو، والتي أجهضت أحلام الشباب المصري في التغيير والإصلاح والمشاركة السياسية، بل حتى الاهتمام بالسياسة كُلّها.

وهنا أخذ الجسد تمثيله في الاستهلاك بدلاً من السياسة، إذ انتقلت العلاقات التي كانت تتأسس وفقاً لروابط أخلاقية وفكرية وممارسات ثقافية وسياسية، إلى مأسسة على سلوكيات استهلاكية، ومقاربات من حيث المادة ونوعها وإلى أي براند تنتمي، بل واستبدلت العلاقات الإنسانية ذاتها بلذة الاستهلاك التي أعطت مكانة نفسية واجتماعية ورمزية بدلية عنها أيضاً. ومن مقاربةٍ تاريخيّة سياسيّة، يمكن تشريح حالة الغوص في كافّة اللذات، "أنّها صُنعت من نتاج يأس" وُلّدَ لدى الكثيرين بدافع الظروف الصعبة التي مرّوا بها، سواء كانت حروب أو نزاعات مُسلّحة أو ثورات فاشلة أو قمع شديد عبر السُلطوياتٍ، خصوصاً إن خرجت الناس من تلك الأحداث بنتائج مُخيّبة للآمال وفشل ذريع، مثلما حدث مؤخراً في الكثير من البلدان، استمرار وتوسّع طغيان واحتلال الكيان الصهيوني لأرض فلسطين، الحرب الأهلية اللبنانيّة 1975-1990، الثورة السورية التي بدأت في آذار/مارس 2011، ثورة يناير في مصر عام 2011. جُل هذه الأحداث تركت - بعد معاناتها وفشلها وارتباكها - تأثيراً نفسيّاً بالسلب على الشعوب العربية، والتي استقطبته فضاءات الاستهلاك المُتعددة لدى نفسيّات واجتماعات وفضاءات إنسانيّة وعمرانيّة مُتعددة.

بل وتنتقل السياسة وأجسَادها ومُفرداتها من أماكنها المعتادة إلى ساحات الاستهلاك، من مقرات العمل السياسي والفضاءات الشارعية إلى فضاءات الترفيه والسهرات الليلية. لبنان نموذجاً على هذا الانتقال، ما يُسمّيه أستاذ الاجتماع اللبناني سمير خلف، الانتقال "من ساحة المعركة إلى ساحة اللعب"[7]. في ظل عيش لبنان حالة جمود سياسي تحُكمه الطائفية وسُلطوياتها المُتعددة، سُلطوية أوصلتْ البلد وشعبِها إلى حالة من التردي المعيشي اقتصاديّاً وسياسيّاً وثقافيّاً. وعلى الرغم من ذلك، اعتادت بعض الأجساد على الترفيه، كجزء أساسي من أنماط الحياة الاستهلاكية، فتأخذ السياسة معها، في مفردات إيقاعية، أغنيات ومعازف تسبّ السُلطوية وتتراقص الأجساد في فضاء مُغلق لا تراه السُلطوية، اعتراض عاطفي لا يغيّر من الحقيقة السياسية شيء، لكنه يُشبع الذات بشكلٍ مؤقتْ بطعم الاحتجاج، الاحتجاج الاستهلاكي. وهذا لا يعني أن العمل السياسي الواقعي في لبنان أو مصر أو سُلطويات أُخرى أمر هين، بل هو أمر شديد الصعوبة، لكن هذه هي تكلفة التغيير، ومعوّقاته. سُلطويات شديدة التصلّب والتجذّر، من الصعب اقتلاعها إلى عبر عمل سياسي وثوري طويل المدى".


هوامش:

[1]: يمثل التابع الفئات المُهمّشة، من الطبقات الفقيرة والأَدقع فقراً، بمختلف حِرفهم وأعمارهم ووجودهم الجغرافي في العاصمة والأقاليم. كَثُرت الدراسات التي تتمحور حول "التابع" كمفهومٍ وممارسة، على السواد الأعظم من الشعب الهندي المُستغَل من الطبقات البرجوازية الهندية المُتعاونة مع الاحتلال البريطاني، والحاكمة بعد زواله. مع بداية الثمانينيات برز حقل دراسات التابع، من أشهر منظّريه المؤرخ الهندي "رانغيت غوها" ولحقه شهيد أمين وغيانيندرا باندي وسوميت ساركار ودايفيد هادريمان، وبفضل تنظيرهم المبدئي، اهتم آخرون وصدرت مجلة دراسات التابع (Subaltern Studies). كما في مصر أيضاً تواجد بعض المُهتمين بـتأريخ حياة التابعين، أبرزهم أستاذ التاريخ خالد فهمي، كما في أطروحته "كل رجال الباشا" عن حياة فلاحي مصر، أوائل القرن التاسع عشر، وكتاب السعي إلى العدالة: الطب والفقه والسياسة في مصر الحديثة.

[2]: أكسل هونيث، الصراع من أجل الاعتراف: القواعد الأخلاقية للمَآزم الاجتماعية، ترجمة جورج كتورة (بيروت: المكتبة الشرقية، 2015)، ص 121.

[3]: بيونغ- شول هان، مجتمع الاحتراق النفسي، ترجمة بدر الدين مصطفى (السعودية: دار معنى للنشر والتوزيع، 2021)، ص 58.

[4]: برايان ليتل، أنا ونفسي ونحن: علم الشخصية وفن الرفاه، ترجمة وسام رجب (السعودية: دار معنى للنشر والتوزيع، 2021)، ص 180.

[5]: حسني إبراهيم عبد العظيم، "الجسد و الطبقة ورأس المال الثقافي: قراءة في سوسيولوجيا بيير بورديو،" إضافات: المجلة العربية لعلم الاجتماع (مركز دراسات الوحدة العربية)، مج 2011، العدد 15 (تموز/ يوليو 2011)، ص 65.

[6]: مجموعة مؤلفين، مأزق الشباب العربي في الشرق والأوسط وشمال إفريقيا، تحرير رالف هِكسل ويورغ غرتل؛ ترجمة ماريا الدويهي (بيروت: دار الساقي، 2019)، ص 327.

[7]:

Samir Khalaf, Lebanon Adrift: From Battleground to Playground (London: Saqi Books, 2012), p. 27.

(جسور للترجمة والنشر، عمّان، 2024)


جدلية (ج): كيف تبلورت فكرة الكتاب وما الذي قادك نحو الموضوع؟

أحمد عبد الحليم (أ. ع.): تبلورت فكرة الكتاب، ضمن اهتمامي بالكتابة عن الجسد وعلاقته بالفضاءات من حوله، والذي شجعني أكثر على على الكتابة، حالة الموات السياسي، الفكري والتنظيمي، التي أصابت المجتمع المصري بسبب قمع النظام الحالي. ومن هنا، حاولت الإجابة عن سؤال، كيف وصلت مصر إلى هذه السُلطوية؟ وهذا من خلال الاشتباك مع الجسد وتمثِيله المُتعدد، عبر استدعاء تاريخيّة فلسفة "حق امتلاك" السُلطوية في مصر لأجساد المواطنين، كيف بدأت سيادتها وسياستِها، في استخدام أجساد المواطنين وتسخيرها وعزلها وفنائها، من أجل بقاء السُلطوية وهيمنتها، مع التركيز على سُلطوية ما بعد الثالث من تموز/يوليو 2013، مُستندا على الكثير من المرويات الميدانية والنظرية الشاهدة على هذه السُلطوية والمُفسّرة لها، كي أبحث من خلالها في رؤى مُختلفة فيما يخص السياسة والاستهلاك وتمثيلاتهِم وتفاعلاتِهم المُتداخلة والمتباينة على الجسد.

جدلية (ج): ما هي الأفكار والأطروحات الرئيسية التي يتضمنها الكتاب؟

أحمد عبد الحليم (أ. ع.): سُلطوية ما بعد الثالث من تموز/يوليو 2013، ركّزت على امتلاك الجسد، من خلال تقسيمه إلى مُعارض وتابع ومؤيد (مُحايد) وفائض. القتل أو الإخفاء أو العزل (السجن) في حالة الجسد المُعارض. الصناعة والتدريب والتجهيز في حالة الجسد التابع، وهو بمثابة أداة لتفعيل الاستثناء. والتدجين من نصيب الجسد المُحايد، كي يُصبح مؤيدا أو على الأقل يحتفظ بحياديّته، واللوم والتحذير من نصيب الجسد الفائض. ومن هنا، رأيت السياسة في الجسد منذ بدء تأسيس الدولة الحديثة في مصر، ولا سيما سياسة السُلطوية الحالية، تحديداً، كانت هي الأكثر تمركزاً على الجسد، من السُلطويات السابقة لها.

هذا التمركز، جعل السياسة فضاء مجففا بعيدا، لا يقترب منه أحد، خوفا على الجسد. هذا لأن الاقتراب من السياسة، تناسب طرديا من الاقتراب بهلاك الجسد، سواء بموته، أو إخفائه أو عزله (سجنّه) أو تشويهه (تعذيبه). أو حتى هندسته، أي هدمِه كذاتٍ وإعادة بنائه مرّة اُخرى، كما يحدث داخل الفضاء السِّجنّي. وخلال السنوات الماضية، وإلى الآن، كان الحديث السياسي الشاغل عن "السجن". تصريحات سُلطوية تنفي وجود سجناء سياسيين أو حتى توعد بإطلاق سراحهم، وجماعات ومنظمات سياسية وحقوقية تُطالب بخروج هؤلاء السياسيين من السجن، ما عنى أن السياسة كان جزءا أساسيا منها هو السجن. والسجن ما هو إلّا جسد مُقيد مُراقب مُهندَس مُعاد إنتاجه، فكانت السياسة في الجسد. والسياسة ذاتها، وبفعل أدواتٍ عدة، باتت استهلاكية. والاستهلاك تتشكّل تمثُلاتِه عبر الجسد، أي تَمظهره وتسلّعه. ومن هنا حاولت تفكيك وقراءة التقاطع الراسخ بين السياسة والاستهلاك، كما انتقال الجسد بينهُما عبر تمثّيلاته المُتباينة.

هذه القراءة، انطقلت من الممارسة، الممارسة هي نقطة الارتكاز، كما هي الانطلاق نحو الاشتباك والنقاش والتحليل. وأقصد بـ"الممارسة"، أي الذاتية، المُتمثلة في التجربة الشخصية الواقعية، من احتجاج وسجن ورقابة ومَنفى ومن ثم قراءةٍ ونقاش، وممارساتٍ "ذاتيات" أُخرى كان الجسد فيها، فاعلا هاما في كل تلك المشاهد.

سمّيت الذاتية "ممارسة"، لأنها ليست ذاتية فردية تخصني وحدي، بل ذاتية انطلقت ولم تقف مُتمحورة حولي، وجمعتْ ذاتيّات جماعاتية معها. إذ وفي خلال السنوات الماضية، أجريت عشرات المُقابلات، نتج منها عشرات الحوارات والشهادات، في موضوعات كثيرة.

هذه الذاتية الجماعاتية، حاولت حفظها، كي تُصبِح تاريخا اجتماعيا بشكل أساسي، وكجزء رئيسي لا ينفصل عن التاريخ السياسي لسلطوية ما بعد الثالث من تموز/يوليو. هذه الشهادات، والتي اعتبرها شهادات من واقع الحياة بأوجهه، السياسي والاجتماعي والفكري والنفسي، لا تؤرِخ فقط لما حدث، بل هي إضاءة أساسية لتحليل منهجية هذه السُلطوية، المَنهجية الغير مرئية "غير المُعلنة" حول فلسفة الحق في امتلاك الجسد، كما هي نقطة انطلاقة لفهم أكثر إدراكا واتساعا، عن الدولة المصرية وتاريخية علاقتها بالأجساد من حولها، الجسد الأساسي دائماً، والسياسي منه في حالة الاستثناء.

كما كانت خطابات وتصريحات رئيس ومفكر السُلطوية العُليا عبد الفتاح السيسي، محل إضاءة أساسية للإجابة على سؤال، كيف تعمل السُلطوية؟ في الأفضية المُتباينة للمجتمع، بما أنّها سُلطوية غلبتْ عليها الطابع الفرداني الشخصاني، المتمثل في رأسها الأعلى، لآخذ هذا الخطاب وأضعه محل اشتباك وتحليل لمنهجية هذه السُلطوية ونظرتها وطريقة عملها حيال السياسة والمجتمع، كما استعرض بعض منه، في خاتمة الكتاب.

أما عن بنية الكتاب، ففي الفصل الأول، وضعت تمهيداً في البحث عن تاريخيّة العلاقة بين السُلطوية وأجساد مُواطنيها، عبر تاريخ الدولة المصرية الحديث والمُعاصر. إذ عاملته السُلطوية الأولى، ضمن أدواتها الحيوية، كأنّه آلة إنتاج، تُساعدها في البقاء والهيمنة، ما عرّفه الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو بالبيوسُلطة (PIO POWER). جسد (رقم) وسط أجساد (أرقامٍ) أُخرى، في تشابه كبير في فلسفة تُعامل السُلطة السِّجنّية حيال أجساد سُجنائها، حيث تستفيد منهم قدر إمكانها كونهم أجساداً خاضعة لها. ومن هنا، ناقشت كيفية هذا التعاطي تاريخياً وفلسفياً وممارساتياً، مع التركيز على سُلطوية ما بعد الثالث من تموز/يوليو، بما أنّ سياستها (سيادَتها بوصف المفكر الإيطالي جورجو أغامبين) جمعت بين إدارة الأجساد كُلها، بل وقسّمتهم إلى أربعة أنماط جسدية معارضة وتابعة ومؤيدة وفائِضة. وعزلت الجسد السياسي (المعارض) منها، من خلال مُخاصمته عبر قتله أو احتجازه أو ابتلاعه كُلّية. وأهّلَت التابع لها لاستخدامه في فرض الهيمنة، وأرهَبت المؤيد لبقائه على التأييد أو على الأقل الحياد، وحذرت الفائض من زيادته. ومن ثم انتقل، لتوضيح ما هو التمييز كما الاستثناء في القمع، الذي فعّلته السُلطوية بحق فئات مُتباينة من المُجتمع. أيضاً شملت السُلطوية مُستندة على تطويع التشريع، قمع الاحتجاج الحركي، إذ أرصده وأتتبع تفصيلاته، عبر القوى الإسلامية وغير الإسلامية، كما فضاءات أُخرى، عمرانية وصحافية وإعلامية وجامعية ومؤسساتيّة تابعة للدولة، أيضاً فئات آُخرى كمُوظفي الدولة، وروابط الأولتراس الرياضي والسياسي. وكما استندت أن سياستها، أي السُلطوية قامت عبر تفعيل حالة استثناء على الجسد السياسي، بقتله وإخفائه وسجنه، فَأقرأ تمثّلات ما بعد هذا الاستثناء، تحديداً ما بعد السجن، حول كيف أصبح خروج الأجساد المصرية "المعارضة" من السجن أصعب من دخولها، وعن المُنعتقّين منه، كيف دخلوا في فلكة الأمننة التي وظّفتها السُلطوية ورعتها بدقّة، بهدف إخضاع الأجساد وتأميم أي فكر أو ممارسة قد تصدر منها.

وفي الفصل الثاني، ناقشت الهُوية التائهة للسُلطوية، فيما افترضت أن هذه السُلطوية لا تعتني أو تُمثل هُوية مُستقلة بحد ذاتها، فلا هي امتداداً ناصرياً عروبياً قومياً، ولا ساداتيّاً أو مباركاتيّاً، ولا حتى فرعونياً، بل تأخذ ما يناسبها من كل السرديات المصرية السُلطوية السابقة، لكن كانت هُويتها الأساسية تتمثل في الاستثناء، أيديولوجية وعقلية وسرديةٍ وممارسة تُبرر سُلطويتها، ومن ثم بقائها وهيمنتها على الحكم. هذا الاستثناء، قرأت تمثيله، في تأميم السردية الثقافية "الغير حركية" بالمعنى الاحتجاجي المباشر، بما تشمل فضاءات عدة، فنية تخص الدراما تحديداً، كما تعليمية وتربويّة كالمدارس الحكومية والغير حكومية.

وفي الفصل الثالث، ناقشت التجلّيات المُباشرة التي أحدثتها السُلطوية، والتي طالت مئات الآلاف من المصريين المُعارضين، خاصة الشباب منهم. إذ ناقشت تحولات المشاعر والأفكار داخل سنوات السجن، ومن ثم انتقلت إلى خارج السجن بل وخارج مصر (المنفى)، كي أرى جزءاً من الشباب، أي المُنتمي إلى الإخوان المُسلمين، كيف كانت تجلّيات المرحلة عليهم. ومن ثم خرجت من الخاص إلى العام، لأرى اتجاهات ومسارات الشباب الخارج من الاستثناء ومن السياسة كُلّية، سواء من بقيَ منهم داخل مصر أو من خرج منها. كما ناقشت الاستثناء في المُعارضة، فيما يخص فلسفة السُلطوية في التعامل مع المُعارضة، الإسلاميين كأخصام سُلطة، ومستقبلهم في الحياة الاجتماعية ومنها السياسية، كما مستقبلهم داخل سجون سُلطوية السيسي. وعن غيرهم كمُعارضة من التيارات الغير إسلامية، والتي يمكن الحديث معها والعفو عنها، كما التلاعب بها، لأرى تمثلات ما بعد مشهد الحوار الوطني، التي أطلقته السُلطوية مع المعارضة المدنية في أواخر شهر نيسان/أبريل 2022. بعد ذلك، اتجهت إلى تمظهرات الاستهلاك وصعوده مُقابل مَوات السياسة وفكرها وتنظيمها وممارساتها، بل وتحوّل السياسة ذاتها إلى سياسة استهلاكية. هنا ضربت المثل، بالمعارضة المصرية، خاصة المُقيمة خارج مصر، كي أرصد وأحلل كيف تحولت إلى مُعارضة وظيفية استهلاكية من حيث التنظيم والفكر والممارسة، لا مُعارضة ثقافية صلبة إصلاحية أو ثورية. ومن ثم ناقشت مفهوم الذات السياسية وتحولاتها من الواقعي إلى الافتراضي، وما تجلّيات هذا التحول على ماهية السياسة في راهن المشهد المصري ومُستقبله، كما ضمّنت سؤال كيفية انتقال الجسد من كونه جسداً سياسيّاً إلى جسداً استهلاكياً. ومن ثم وضعت بدلاً من خاتمة، تحاول نقاش ما هو قادم حول مشهدية السُلطوية في مصر، بعد هيمنة الرئيس السيسي على الحكم إلى عام 2030.

جدلية (ج): ما هي التحديات التي جابهتك أثناء البحث والكتابة؟

أحمد عبد الحليم (أ. ع.): المقابلات بشكل أساسي، كانت من ضمن تحدياتي، كما ذكرت اعتمد بشكل أساسي في كتاباتي على سماع سرديات الناس، الذين تعاملوا أو مورس عليهم أفعال السُلطوية، أيضا بسبب الوضع الأمني في مصر، وهو وضع شديد القمع والترهيب، كان يخاف الكثير من إجراء أي مقابلات أو إدلائهم أي شهادات ناقدة للنظام. كذلك تحدي النشر، إذ حاولت نشر الكتاب في مصر، لكن لم تأخذه أي دور نشر، لأن محتواه ناقدا لممارسات السُلطوية ورئيسها، وتخاف دور النشر من القمع بسبب نشرها هذا المحتوى، كما تخاف من خسارتها المادية، فلو منع الكتاب، ستخسر الدار حق طباعته. ولذا، كان لا مفر من نشر الكتاب خارج مصر، وكانت بيروت هي الحاضنة، كما اشتهر عنها تاريخيا بأنها مكان نشر نصوص الأدبية والبحثية الممنوع إصدارها.

جدلية (ج): كيف يتموضع هذا الكتاب في الحقل الفكري/الجنس الكتابي الخاص به وكيف سيتفاعل معه؟

أحمد عبد الحليم (أ. ع.): الكتاب يتبع حقل الاجتماع السياسي، ويمكن أن نعتبره أيضا، ضمن دراسات الجسد. على ما أظن، سيتفاعل معه، كل من يهتم بمعرفة علاقة الجسد بالسلطة السياسية، لاسيما في البلاد القمعية، التي تتشابه أدوات سيطرتها وإخضاعها لأجساد مواطنيها، خاصة الأجساد التي تمارس عملا معارضا، سواء سياسيا بشكل مباشر أو غير مباشر.

جدلية (ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الفكرية والإبداعية؟

أحمد عبد الحليم (أ. ع.): الكتاب هو مؤلفي الخامس، والرابع من حيث التركيز على موضوعات الجسد، حيث نشرت من قبل رواية قصيرة بعنوان "أجساد راقصة" (أمم للتوثيق والأبحاث، بيروت، 2021)، تناولت حركة الجسد وتشكّله داخل السجن. كذلك كتاب من يمتلك حق الجسد: قراءة في الحياة السجنية"، عن ذات الناشر (2022)، وقد تناول، بشكل بحثي، صور الجسد المُشكّلة في تباينها وتشابهها داخل السجن كنتاج لمرئيات الحياة السجنّية. أيضا نشرت كتاب "تمثلات المُجتمع المصري: في الذات والجسد والهُوية" عن دار رياض الريس، بيروت، 2023، وهو كتاب يناقش ويقرأ التمظهرات والمتغيرات التي طرأت على المُجتمع المصري في فضاءات مختلفة، مثل التقنية (وسائل التواصل الاجتماعي)، السينما، الإعلام، النيوليبرالية، العمران. لذا كان هذا الكتاب، ربما، مكملاً لتلك الفضاءات، بما أنه اشتبك مع فضاء السياسة وسُلطويتها في مصر.

جدلية (ج): من هو الجمهور المفترض للكتاب وما الذي تأمل أن يصل إليه القراء؟

أحمد عبد الحليم (أ. ع.): كل من يهتم بالسياسة في مصر، وطرق إدارتها، لاسيما بعد منتصف 2013، كما كل من يهتم بالجسد وعلاقته بالسياسة في مصر، فضلا عن مجتمعات البحث والأكاديميا والسياسة وحقوق الإنسان وغيرهم، وبشكل أساسي، من القراء الذين لا ينتمون إلى أي تصنيفات، غير أنهم مواطنون مصريون، يتعاملون مع السُلطة السياسية والأمنية، وربما مورس على أجسادهم أفعال كثيرة من قبل السُلطوية في مصر.

جدلية (ج): ما هي مشاريعك الأخرى/المستقبلية؟

أحمد عبد الحليم (أ. ع.): في الوقت الحالي، أعمل على كتابة رواية بعنوان "التابع وسليمان: ثرثرة في المنفى"، أحاول من خلالها توضيح العلاقة بين التابع (المهمَّش)، بوصف أنطونيو غرامشي، وبين رئيس الدولة المُستبد، الفيلسوف، "الفهمان كل شيء"، عبر العقود الماضية في مصر، من خلال سرد روائي، يتمثل في حكايات التابعين، كما حكايات السياسة، السجن، المنفى، الحب، الجنس، السلطة، الاستهلاك، وغير ذلك من مفاهيم وتمثلات.

مقتطف من الكتاب

"ليس القمع فقط، هو الذي يُجفف منابع السياسة عند الناس، بل بالتوازي معه، عملت الثورة التقنية وعرض الحيوات المرئية، على تغيير اتجاه الناس نحو السياسة. بمعنى، أن العمل سواء السياسي أو الثوري وتداخلاتِهما من أجل الإصلاح والتغيير السياسي، كان المخرج الوحيد لفئات عمرية متباينة، غير مرئية ومهمشة وغير مهمشة. حاليا، هذه الفئات تجد في عرض حيواتها، بوابة للخروج من الزاوية "المهمشة" إلى المركز ونيل الاعتراف الاجتماعي، منذ ولادتهم، لم يحظَ هؤلاء الناس بأي اعتراف اجتماعي، سواء من الدولة أو مؤسساتها الاجتماعية أو الثقافية، بل الغالبية منهم، تُنسب إلى التابع (Subaltern) بوصف الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي،أي الذين ليست لهم انتماءات فكرية أو تنظيمية، وفي الغالب يتبعون الدولة ودوائرها السلطوية من الاجتماعات العُليا في القرار السياسي كمقامٍ أول[1]. لذلك كان بث يومياتهم، ووجودِهم ولو على سبيل الصدفة كـ"ترند" (TREND)، أعطى لهم فرصة لا تُعوض أو بمثابة فعل استراتيجي، ثوري اجتماعي، إن جاز التعبير، تمسّكوا به مثل محمد عامل النظافة، أو هيثم "ويجز الغلابة" وغيرهم المئات، الذين يناضلون من أجل الاعتراف (The Struggle for Recognition)، وهذا للانتقال من الحياة اللامرئيّة (Invisible Life) إلى الاعتراف الاجتماعي وسط الفئات المُختلفة المتواجدة في الفضاء الافتراضي، كي تعرفها وتتفاعل معها، بل وتحبها، وهذا ضمنيّاً ما اعتبره الفيلسوف الألماني أكسل هونيث شكلاً من أشكال السعي للاندماج والظهور من أجل الاعتراف[2]؛ إذ ومن خلال عرض هذه اليوميات ووصولها للجمهور، يبدأ الجمهور في مشاهدتهم ومعرفتهم والحديث معهم وعنهم. كذلك الخروج من التهميش من خلال كسب المال، عن طريق مشاهدات يوتيوب أو إعلانات فيس بوك واستضافات البرامج المتنوعة على القنوات التلفزيونية، ويصبح هذا الظهور (الترند)، بديلاً نضاليّاً لهم، وتُحل الشاشة كفضاء بديلاً من مقرّات الأحزاب والعمل السياسي.

هذا أيضاً تداخل مع صعود الفردانية كفلسفة وممارسة، الالتفاف حول الذات "الجسد"، وحصر وجودها وبقائها بالإنجاز، ضمن ما يُعرف بـ"مجتمع الاحتراق النفسي"، الذي يعيش فيه الإنسان صراعاً مع الزمن، احتراقاً عقليّاً ونفسيّاً من أجل الإنجاز الذي لا يرضى عند محطة بعينها[3]. "أسطورة البطل التي اخترعتها الرأسمالية وتروّج لها، في ما سمّاه أستاذ علم النفس برايان ليتل بـ"أسطورة البطل المُنفرد" الذي يلهث الجميع من أجل الوصول إليه، لا عن إبداع حقيقي في مجال بعيّنه، بل عن فردانية شوّهت، ومن خلال النرجسية الشديدة، تُحب أن يَنظر إليها الجميع في هوسٍ بها[4]. هذا بدوره، فكك العمل ضمن التنظيم الجماعي، الذي يعني العمل من أجل الجماعة/الآخرين، لا العمل من أجل الذات وفقط. لذلك تبنى الكثير مقولة "لا حاجة لنا للتنظيم وللسياسة وأوجاعها"، خصوصاً إن كانت السُلطة تدير الحياة بالقمع، وبما أن تمثيل الذات في أحيانٍ كثيرة، يتشكّل عبر تمثيل الجسد ذاته، وجوده المثالي، وهذا ما يخلق تضاداً آخر للوجود السياسي، حيث السياسة في ظل الاستثناء تقضي على الجسد، بقتله أو سجنه أو ابتلاعه، ومن هنا هوس الحفاظ على الجسد، بما أنّه "رأس مال رمزي" للذات، وافتقاده يعني افتقاد الذات وجودها تحت هيمنة الفردانية ومنظومتها[5].

وهذا ما ترجم واقعيّاً، عبر إحصاءات قامت بها مجموعة من الباحثين في عام 2016 تحت رعاية مؤسسة فريدريش إيبرت ومعها مجموعة من الشركاء، في إثر مقابلات مع تسعة آلاف شاب من ثمانية بلدان عربية، هي مصر والأردن والبحرين ولبنان وفلسطين واليمن وتونس والمغرب، إضافة إلى "اللاجئين" السوريين في لبنان، في ما يخص اهتمامهم ونظرتهم إلى عدة قضايا، منها الاهتمام بالسياسة بكل أبعادها. وجاءت النسبة الإجمالية أن 18 في المئة من الشباب إجمالاً مهتمون بالسياسة. في مصر كانت النسبة 23 في المئة فقط، ما عكس عزوف معظم الشباب في مصر عن السياسة وكل ما يخصّها[6]. هذا العزوف، جاء بشكل أساسي نتيجة قمع سُلطوية ما بعد 3 تموز/يوليو، والتي أجهضت أحلام الشباب المصري في التغيير والإصلاح والمشاركة السياسية، بل حتى الاهتمام بالسياسة كُلّها.

وهنا أخذ الجسد تمثيله في الاستهلاك بدلاً من السياسة، إذ انتقلت العلاقات التي كانت تتأسس وفقاً لروابط أخلاقية وفكرية وممارسات ثقافية وسياسية، إلى مأسسة على سلوكيات استهلاكية، ومقاربات من حيث المادة ونوعها وإلى أي براند تنتمي، بل واستبدلت العلاقات الإنسانية ذاتها بلذة الاستهلاك التي أعطت مكانة نفسية واجتماعية ورمزية بدلية عنها أيضاً. ومن مقاربةٍ تاريخيّة سياسيّة، يمكن تشريح حالة الغوص في كافّة اللذات، "أنّها صُنعت من نتاج يأس" وُلّدَ لدى الكثيرين بدافع الظروف الصعبة التي مرّوا بها، سواء كانت حروب أو نزاعات مُسلّحة أو ثورات فاشلة أو قمع شديد عبر السُلطوياتٍ، خصوصاً إن خرجت الناس من تلك الأحداث بنتائج مُخيّبة للآمال وفشل ذريع، مثلما حدث مؤخراً في الكثير من البلدان، استمرار وتوسّع طغيان واحتلال الكيان الصهيوني لأرض فلسطين، الحرب الأهلية اللبنانيّة 1975-1990، الثورة السورية التي بدأت في آذار/مارس 2011، ثورة يناير في مصر عام 2011. جُل هذه الأحداث تركت - بعد معاناتها وفشلها وارتباكها - تأثيراً نفسيّاً بالسلب على الشعوب العربية، والتي استقطبته فضاءات الاستهلاك المُتعددة لدى نفسيّات واجتماعات وفضاءات إنسانيّة وعمرانيّة مُتعددة.

بل وتنتقل السياسة وأجسَادها ومُفرداتها من أماكنها المعتادة إلى ساحات الاستهلاك، من مقرات العمل السياسي والفضاءات الشارعية إلى فضاءات الترفيه والسهرات الليلية. لبنان نموذجاً على هذا الانتقال، ما يُسمّيه أستاذ الاجتماع اللبناني سمير خلف، الانتقال "من ساحة المعركة إلى ساحة اللعب"[7]. في ظل عيش لبنان حالة جمود سياسي تحُكمه الطائفية وسُلطوياتها المُتعددة، سُلطوية أوصلتْ البلد وشعبِها إلى حالة من التردي المعيشي اقتصاديّاً وسياسيّاً وثقافيّاً. وعلى الرغم من ذلك، اعتادت بعض الأجساد على الترفيه، كجزء أساسي من أنماط الحياة الاستهلاكية، فتأخذ السياسة معها، في مفردات إيقاعية، أغنيات ومعازف تسبّ السُلطوية وتتراقص الأجساد في فضاء مُغلق لا تراه السُلطوية، اعتراض عاطفي لا يغيّر من الحقيقة السياسية شيء، لكنه يُشبع الذات بشكلٍ مؤقتْ بطعم الاحتجاج، الاحتجاج الاستهلاكي. وهذا لا يعني أن العمل السياسي الواقعي في لبنان أو مصر أو سُلطويات أُخرى أمر هين، بل هو أمر شديد الصعوبة، لكن هذه هي تكلفة التغيير، ومعوّقاته. سُلطويات شديدة التصلّب والتجذّر، من الصعب اقتلاعها إلى عبر عمل سياسي وثوري طويل المدى".


هوامش:

[1]: يمثل التابع الفئات المُهمّشة، من الطبقات الفقيرة والأَدقع فقراً، بمختلف حِرفهم وأعمارهم ووجودهم الجغرافي في العاصمة والأقاليم. كَثُرت الدراسات التي تتمحور حول "التابع" كمفهومٍ وممارسة، على السواد الأعظم من الشعب الهندي المُستغَل من الطبقات البرجوازية الهندية المُتعاونة مع الاحتلال البريطاني، والحاكمة بعد زواله. مع بداية الثمانينيات برز حقل دراسات التابع، من أشهر منظّريه المؤرخ الهندي "رانغيت غوها" ولحقه شهيد أمين وغيانيندرا باندي وسوميت ساركار ودايفيد هادريمان، وبفضل تنظيرهم المبدئي، اهتم آخرون وصدرت مجلة دراسات التابع (Subaltern Studies). كما في مصر أيضاً تواجد بعض المُهتمين بـتأريخ حياة التابعين، أبرزهم أستاذ التاريخ خالد فهمي، كما في أطروحته "كل رجال الباشا" عن حياة فلاحي مصر، أوائل القرن التاسع عشر، وكتاب السعي إلى العدالة: الطب والفقه والسياسة في مصر الحديثة.

[2]: أكسل هونيث، الصراع من أجل الاعتراف: القواعد الأخلاقية للمَآزم الاجتماعية، ترجمة جورج كتورة (بيروت: المكتبة الشرقية، 2015)، ص 121.

[3]: بيونغ- شول هان، مجتمع الاحتراق النفسي، ترجمة بدر الدين مصطفى (السعودية: دار معنى للنشر والتوزيع، 2021)، ص 58.

[4]: برايان ليتل، أنا ونفسي ونحن: علم الشخصية وفن الرفاه، ترجمة وسام رجب (السعودية: دار معنى للنشر والتوزيع، 2021)، ص 180.

[5]: حسني إبراهيم عبد العظيم، "الجسد و الطبقة ورأس المال الثقافي: قراءة في سوسيولوجيا بيير بورديو،" إضافات: المجلة العربية لعلم الاجتماع (مركز دراسات الوحدة العربية)، مج 2011، العدد 15 (تموز/ يوليو 2011)، ص 65.

[6]: مجموعة مؤلفين، مأزق الشباب العربي في الشرق والأوسط وشمال إفريقيا، تحرير رالف هِكسل ويورغ غرتل؛ ترجمة ماريا الدويهي (بيروت: دار الساقي، 2019)، ص 327.

[7]:

Samir Khalaf, Lebanon Adrift: From Battleground to Playground (London: Saqi Books, 2012), p. 27.


بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬