عنوان الكتاب: جذور المقدس والفرجوي في الثقافة الشرقية القديمة (بلاد الرافدين- مصر- أوغاريت- رأس شمرا).
(دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 2024)
جدلية (ج): كيف تبلورت فكرة الكتاب وما الذي قادك نحو الموضوع؟
ماجد الأميري (م. أ.): ثمة وجهان للإجابة عن هذا السّؤال؛ فإنّ كان المقصود بالتّبلور هو التّجسد والظهور والانكشاف الكلي للهيئة والشكل للمحتوى المناط التعبير عنه، فإنّ الكيفيّة ترتبط ارتباطاً علائقيّاً بذاتيّة الكتابة ومسارها من المنطلق إلى المآل. إنّ للكتابة قدرة سريّة على توجيه الكاتب نحو مسارب ومنعطفات لم تك موضوعة في الحسبان لحظة الشروع بالكتابة وإنّما هي وليدة الصراع الوجودي لنحت الشكل وتأسيس البنى وتشييد المعمار الكلي للكتاب. أمّا إذا كان المقصود بالتّبلور، في معناه النفسي والوجودي، المرتبط بقلق الممكن والمحتمل، فإنّ الوقائع الحتمية: اللقى من حيث هي سيمياء المستقبل، والألواح والرقم الطينيّة ومختلف الوثائق الدالة على ثبات تلك الوقائع، تتجاوز كل ألوان الهواجس الرخوة وتنحو إلى تثبيت قوّة الدوال التي حاولت ''المركزيّة الغربيّة'' أو ''الإقليميّة الغربيّة'' ـ بمصطلح جورج بلانديي ـ ترسيخها ونجحت في ذلك لدى جم غفير من المتعلّمين، ناهيك عمن سواهم من غير المتعلمين . كان لي هاجس الخوف من أن يتبنّى هؤلاء المتعلّمون خطاب الآخر، بما ينطوي عليه من تسمية وحكم وتصنيف، فيصبحون أداة لتجسيد "العنف" (بصفته ظاهرة فريدة يصعب تعريفها بدّقة) على أنفسهم وعلى ذوي القربى من بني جلدتهم! وقد تبيّنت لي سذاجة هذا الهاجس، بعد أن خذلنا الهؤلاء إلى درجة صار معها خطاب الآخر مضغة تفوق تصوّر خوفي، وبعد أن اهترأ بألسنتهم في محافل الدرس لكثرة ما ردّدوه فصار ''قضيّتهم الكبرى''. العنف المشتغل في هذه الخطابات يعني سجن الفكر البشري في رؤية واحدة، ونمط واحد، وصورة واحدة، وإنتاج خطاب يرسّخ أنموذجاً يرفع أسوار الصّمت حول نظرات أخرى ممكنة، وتصوّرات مغايرة للواقع الذي كرّسته نظرة الآخر بوصفها كتاباً لا يأتيه الباطل من خلفه ولا من بين يديه. وعليه فإنّ التّحفظ المبدئي من كل تسمية، أو تصنيف، أو حكم يُقدّم أمر واجب ومطلوب، والانتباه لمن يُعرِّف ويسّمي ويصنّف ويحكم ـ أين، ومتى، وكيف ولماذا ـ ومن ثمّة الانتباه للتركيبات السياسيّة والأيديولوجيّة التي تمثّل الخلفيّة الثقافيّة لهذه الخطابات، من منظور الجدليّة المفتوحة في الفهم وفيض التحليل والتفسير. الحصيلة إحساس مأساويّ بمرارة العجز الفردي، لكن، مهما كان غباء التاريخ العربي المعاصر مستفحلاً، ومهما كان لؤم ''القيم" الكونيّة مستحوذاً، فيقيني، من مكر التاريخ، لا حدود له.
أمّا الإجابة على الشق الثاني من السؤال، فإنّ التفكير في الألف الثالث والثّاني وحتّى الأوّل لما قبل الميلاد ـ كمرحلة منسيّة في عصرنا الراهن ـ معناه أن نفكّر فيه كوعاء دالٍّ على آثار مستدمية، أو سميه ''دليل أركيولوجي" تحمل معالمه عمقاً تاريخيّاً تبرز وتعمل في زمن متواتر أو ذي ديمومة مديدة مضطرة للإقامة قبليّاً في حضن الحياة المجتمعيّة التي أنتجتها، والتي تعكس، لوحدها، مادّتها وغايتها أو وظيفتها فيها ـ قبل أن تشع على من/ما يحيط بها ويفيض. إنّ اعتبارنا النّصوص الدّراميّة ـ التي عرّبناها في إثر كلّ دراسة من دراسات الكتاب ـ كعلامات فارقة ستظهر في ضوء نهار آخر، لهو اعتبار مبرّر بعمق القراءة، غير أنّ هذا الضّوء المحتجب قسراً لا يكون ذا قيمة إلّا بقدر ما يكشف، في الحياة المجتمعيّة ـ التاريخيّة نفسها، عن علاقات وتراكيب عميقة ودالة. وكما يقول هيغل "إن تحلّل جوزة معناه أن تفكّكها"، يصح هذا على زمنية النّصوص التي أرادوا لها أن تكون ميّتة، بتسميتها وتصنيفها والحكم المسبق عليها بالعُدّة التّصوريّة التي تم توظيفها للإجهاز عليها. فغالباً ما تتم الإحالة إليها بالرجوع إلى الماضي أو الأصل، فيصير السّؤال عنها ماضويّاً يبحث عن شجرة النسب والجذر "الإثيني" والخلل هنا، فيما أظن، لا يكمن في العودة إلى الماضي بحد ذاتها، بل في تكريس صورة نمطية وجوفاء عنه، وجعله صيغة ماهوية ثابتة للإجابة عن ''نحن'' في سؤال الحاضر الإبداعي المتعثّر. ومن ثمّة نقع في سلفيّة هوياتيّة كرّسها عنا ''الآخر'' فصارت في نظر الـ ''نحن'' المتتابع استمراريّة لأيقونة الأصل التي أتينا منه . ولأنّ هذه الصّورة ليست سوى تراكم للرؤية التي شُكّلت عنا، تتجاوز على رؤيتنا الخاصّة عن العالم ـ سواء كان هذا التراكم استمراريّاً أم قطائعيّاً ـ فإنّ إعادة إنتاجها واسترجاعها إلى حضن الحياة ، ليست إلّا أشكال وعي متوهّم ـ بناء على الإستنتاج السّابق ـ أو لنقل إيديولوجيا الماضي، الذي لا تتحدد ماهيّته (أي الجماعة منظوراً إليها كمتّجهة نحو الماضي) إلّا إنطلاقاً من مضامينها التاريخيّة. وتكمن خطورة هذا الطرح "الماضوي" المُكرّس عن هويّتنا الإبداعيّة ، في كونه ليس شيئاً آخر غير مضامينها التاريخيّة، بحيث تغدو الدعوة إلى مراجعتها أو الدفاع عنها أو الحفاظ عليها من النسيان، لا تميّز بين المُعطى الإيجابي المتمثّل في مقاومة الطمس والتزييف الثقافيين، وبين المعطى السلبي المتمثّل في النزوع المرضي نحو الهويّة الثقافية. هذا الرائز القيمي السلبي يجعل الانزياح عن الهوية النّمطيّة ( الخروج منها أو تجاوزها بإعادة إنتاجها) حاصلاً في تجاوز المضامين التاريخيّة كأنّها نموذج مثالي لصيغة "الحقيقة" المقترحة التي يجب أن نكون عليها، وبالتالي إخضاعنا للعنف الداخلي، بعد العنف الخارجي المبيّن أعلاه .
يتّصل هذا الـ"عنف" الذي كان خاضعاً في موضوعه للمجتمعات المغايرة للمجتمع الأوروبي المالك لجميع شروط القوّة والتحكّم، وأولها قوّة إنتاج الخطاب الخاص بـ ''الآخر'' منظوراً إليه من موقع المُتحكم فيه . فبرغم تجربة الإختلاف والتمايز ـ أو بسببها ـ ظلّ العنف بمختلف أوجهه ودرجاته عالقاً في الأذهان والدلالات، حاضراً لا يرتفع ولا يُرفع في العلاقة بالآخر، وفي النظرة إلى الغير بثقافته وبناه الجماليّة والتعبيريّة، مُشكّلاً بذلك بعداً أساسيّاً للعنف المؤسِّس. فكان تعريف هاته النّصوص ـ في الحقلين الأركيولوجي وعلم الأدب والنقد ـ محكوماً بسياقات هذا الميلاد، كما أن العدّة ''السياسيّة'' التي تم توظيفها في التصنيف ارتبطت بمعايير الدولة / الدول المسيطرة، والأيديولوجيا المتحكمة في رواسبها الدافعة . وهي معايير مخيّبة للآمال لدرجة أنّ هذه العدّة الشديدة الإغراء أحكمت طوقها الشديد ولم يفلت الباحثون اللاحقون ـ العرب ـ من فكّيها . فلم يبذلوا جهداً يذكر في مساءلتها، أو مراجعة معاييرها، ما جعلهم يبقون هذه النّصوص معلّقة على تسميات مُجحفة، مضلَّلة ومُضلِّلة قابعة في وهدة التيه والنسيان.
(ج): ما هي الأفكار والأطروحات الرئيسة التي يتضمنها الكتاب؟
(م. أ.): لعلّه من نافل القول ، إنّ ''الإقليميّة الغربيّة'' قد حجبت حقائق تاريخيّة ساطعة عن الأنظار لأهداف بعينها، وكرّست بخصوص "المسرح" بالذّات، نوعاً من الوهم الذي لا يمكن محوه بسهولة، عبر توظيف النظريّة الأدبيّة للبويطيقا الأرسطيّة توظيفاً بارعاً، بوساطة انزلاق ماكر للآليّات والمعاني، علماً أنّ "شعريّة" أرسطو عاينت الأدب بمكوناته المختلفة معاينة مفصّلة أكثر من معاينتها المسرح كمنظومة رمزيّة متكاملة يشكّل الأدب المسرحي جزءاً من مكوناتها وعناصرها المختلفة. ولربّ سائل يسأل لماذا؟
للإجابة سرّها الخفي والخاص. فلئن كان التركيز على نتاج الكتّاب الأثينيين كفيلاً بتحويل الفضول من وهدة السبات الفكري الذي أوقعته فيها تقوّيات "الإنسانويّة" الغربيّة، فقد بقي هذا السّرّ مطموراً حتّى اليوم، ولا ندري، بالنظر إلى الطريقة التي يعالج بها المحدثون قراءة النّصوص، ما إذا كان السّهو فيها سيّد الموقف، أم اللامبالاة، أم الحذر الخفي؟! أنكون أمام سرٍّ آخرٍ؟ أم أنّ السّرّ لا يزال هو إيّاه؟ لماذا لا يتساءل أيّ منّا عن العلاقات القائمة بين الدّيني والمسرح ـ قبل التجربة الأثينيّة ـ ولماذا لم يتساءل أيّ منّا عن نوع العبادة التي يتعيّن ربطها بالتراجيديا، أيّ تراجيديا وليست الإغريقيّة تحديداً، وما إذا كانت هي العبادة الخاصّة بديونيسوس ـ كما تذهب الإقليميّة الغربيّة بوصفها التاريخ "المقدّس" الوحيد، أم بسواه من عبادات الآلهة الأخرى الأقدم، كأنليل، أو آنو، أو مردوخ، أو إيرّا؟ وفي الأخير، لماذا لم يتساءل أيّ منّا عن مشكلة العلاقة بين الألوهة و "التراجيديا"، أي بين الدّينيّ والمسرح، ولماذا لا ينشأ المسرح إلّا من الدّينيّ حصراً، عندما حصلت تلك النشأة بصورة تلقائيّة؟
هذه باختصار أهم الطروحات والأفكار الرئيسيّة التي يتضمّنها الكتاب، وهي بالمناسبة امتداد للمشروع الذي بدأته منذ عدّة سنوات بكتاب: "نصوص دراميّة من الألفين الثالث والثّاني قبل الميلاد"، و "آلهة فوق الخشبة ـ الدّين ومسرحة المقدّس"، و"المتخيّل الرافديّ الهارب من التاريخ"، و"إنانّا ودموزي ـ دراما الحب والموت"، و"كَلكَامش ـ أنكيدو: الموت ومعنى الوجود"، و"المسرح الدّينيّ في العراق القديم". إلّا أنّ هذا الكتاب الجديد "جذور المقدّس والفرجوي في الثّقافة الشرقيّة القديمة" يشتمل كما يشي عنوانه بالتّوسع والتّوزع على ثلاث حضارات أساسيّة: بلاد الرّافدين ـ مصر القديمة ـ أوغاريت (رأس شمرا)، دراسة وترجمة وتحقيقاً للنّصوص الدراميّة المتنوعة التي شكّلت القاعدة الأساسيّة للمنطلق المسرحي الشّرقي اللامعروف، وصولاً إلى المآل الإغريقي المعروف. وأتمنى من الله أن يسعفني الحظ لإتمام المشروع بسياحة متمّة لدرامات الشرق القديم الأخرى.
(ج): ما هي التحديات التي جابهتك أثناء البحث والكتابة؟
(م. أ.): ما من شك أنّ رحلة بحث تنطلق من الماضي وتتوجّه صوب الحاضر تنطوي على مغامرة محفوفة بالمخاطر، لأنّ إعادة تسمية وتعريف وتصنيف الأشياء المصنّفة هو بمثابة حكم جديد ينطوي على نوع من "العنف"، مثلما هو ترجمة لرهان مفتوح بين من يُعرّف وبين من يتوجّه إليه التعريف بخصوص الأشياء المعرّفة، وثمّة من يربح الرهان ومن يخسره بمناسبة كلّ تعريف. ولعلّ خلخلة "النظرة" الثابتة من الآخر إلى النحن ـ بعوالمه وتعبيراته الفكريّة والجمالية، هي صورة من صور المخاطرة أعلاه، فكل تسمية هي تعريف وكل تعريف هو حكم يحمل في ثناياه مشروعاً وغايات تسوّغ أهدافاً معيّنة للتحكّم في "حقيقتها". صحيح أنّ الإسم في ظاهره شيء بسيط، بالنظر إلى كون المسميّات تحيط بنا من كل صوب مثل حقل شاسع، بيد أنّ هذا الحقل مليء بالقنابل الموقوتة الخفيّة. ولمّا كنّا ننخرط أصلاً في الخطاطة التي تشكلها التّسميات وتؤطّرها وتشكّل دلالاتها: التسمية تكوّن الدّلالة وتسري قوّتها في بنية الظاهرة المُسمّاة، فلا تتوارى علاقة ذلك الترتيب وراء البدايات أو النّهايات أو الأصول التي كوّنتها . فكل بداية تكون باسم تنبثق منه وتتلاشى بزواله، أو تحيل على بداية جديدة تصبغ طابعاً جديداً ينهل من بدايات قبلها، فهي ـ على هذا النّحو ـ متوالية طقوسيّة لا مجال لإنكار ما تستبطن من دلالات وانزياحات داخل سياق التّسمية/التّسميات. إنّ التسمية وإعادة التّسمية علامات فارقة، ووسوم موضوعيّة مرتحلة بين الأجيال، تزجّ المسمّى في خضم دائرة صراع ثقافي تتّسع باتّساع اللغة وتحدّد له مكاناً داخل المجال الاجتماعي ـ التّاريخي . إنّها كشف وترتيب وتمييز، مثلما هي تأريخ للحاضر وإدماج في سلسلة حلقات الماضي وترقّب الآتي، وهي بهذا المعنى "سياسة" لتدبير الموروث في الزّمان.
أليس الحاضر وعاءً يضم بداخله "كلّ هؤلاء الذين كانوا" و"كل هؤلاء الذين مازالوا ينتظرون الولادة"، لأنّه مسكون بـ "الماضي" و"المستقبل" اللذين يفكّكانه فيما هما يثبّتانه ـ كما يقول كاستورياديس.
(ج): كيف يتموضع هذا الكتاب في الحقل الفكري/الجنس الكتابي الخاص به وكيف سيتفاعل معه؟
(م. أ.): ثمّة في هذا الموضوع بالذّات الكثير من الحسّاسيّة نظراً لتشعّب زوايا النظر والمستويات، ناهيك عن الاستراتيجيّات المتنوعة المشتغلة، بالإضافة إلى تعدّد المجالات الدلاليّة للنصوص التي تترجم بشيء من العنف الواسع حتّى بالنسبة للغات الأجنبية الأخرى. الأمر الذي يجعلنا نقف أمام مقاربات عديدة، لا مقاربة واحدة وحيدة، بعكس المقاربات الغربيّة التي تحدّد الحكم النهائي بوساطة الضغط وآليّات الإنتاج والسيطرة والتدبير. المهم كيفما كانت مرجعيّة المقاربة، والأبعاد التي ترتكز عليها، فهي تبقى مقاربة أنثروبولوجيّة إنطلاقاً من موقع "فكري" محدّد يهدف إلى البحث والكشف عن نجاعة التعريف الجديد، وهي مسألة مفتوحة ولا منتهية، مثلما هي خاضعة للنقاش العقلاني المستمر.
(ج): من هو الجمهور المفترض للكتاب ومن القراء الذين تأمل أن يصل إليهم؟
(م. أ.): لعلّ افتراض فئة من الجمهور بعينها، تمثل نوعاً من أنواع العنف، أو لنقل ببساطة تعسّفاً لا يحق للكاتب أن يشترطه كي لا يصبح نوعاً من الحكم والتصنيف الذي أدنّاه في البداية. محتوى الكتاب هو محتوى تتمازج في خلاله رؤى الحضارات التاريخيّة وتعبيراتها الجماليّة منذ أقدم العصور، هنالك حيث نجد تعالق الدّينيّ بالدّنيويّ، السّماوي بالأرضي، الإلهي بالبشري، الأسطوري بالشعري، داخل بوتقة الحياة المسرحيّة. ولمّا كان المسرح بالنسبة للحضارات ليس مجرّد استعراض للفرجة، بل هو شعيرة مقدّسة ترفع المسافة الجماليّة الفاصلة بين عالم الممثلين والنّظارة وتحصر الأحداث التي تقع في عالم متخيّل، فإنّ دائرة المعيش، والتّصور التعبيري عن السياسة ينبني على الإقتناع بأنّ الأدوات الرئيسيّة للحكم تكمن ـ بالإضافة إلى تقنيات الإدارة ـ في فنون العرض. وهكذا تصبح الحياة الشعائريّة في البلاطات، وفي الحياة عامّة نموذجاً يحتذى به للنظام الاجتماعي، بصفته النظام الكوني الماورائي ـ أو العالم اللازمني للآلهة القديمة.
المسرح مليء بالمعاني إذا ما نظرنا إليه من جانب الأسطورة التي تغلّفه بالأفكار والصّور الثريّة لكل سرديّة دينيّة، ومليء بالسّحر وقوّة الأفعال والحركات الخلّاقة المثيرة للعواطف، إذا ما نظرنا إليه من جانب الطّقس. وإذا قبلنا الوجهتين معاً، من حيث المبدأالذي يقوم عليه، فهو ليس شيئاً خامداً، ولا يمكنه أن يكون دليلاً أعمى، لأنّه ينطوي على العناصر المُبصرة اللازمة لفهمه. ولهذا فإنّ دراسة المسرح الشرقي القديم بفرجاته المختلفة ووثائقه النّصيّة الأقدم تاريخيّاً، من شأنها مساعدتنا في تسليط الضوء على شكل المسرح المُهرّب من التاريخ . وتجاوز العلاقة الخرافية المثيرة للجدل بين المدرسة التي تطرح أسبقيّة الطّقس على الأسطورة، أو تلك التي تسبّق الأسطورة على الطّقس، ما يؤدّي لاحقاً إلى اختزال المسألة بمجملها في بحث أيّ من هذين العنصرين كان في أصل المسرح؟ وأنّ المسرح الإغريقي الذي انبثق من "عربة ثيسبس" في ليلة وضحاها وبلا مقدّمات أو شواهد تاريخيّة، هو صورة المسرح المثلى الوحيدة شئنا أم أبينا. إنّ الكتاب لا يتحدّث عن الشّكليّات البدائيّة رغم أنّها تُرسّخ أطروحتنا بكلّ يُسر، ففي المسرح القديم، لا يمثّل الجانب الطّقسي والجانب الأسطوري سوى وجهين لفعل واحد، ما يعني أنّه في المقام الأوّل ظاهرة إجتماعيّة، طالما كان توأم الدين، أو صورته الجليّة، والطابع الإجتماعي للدين أمرٌ مبرهنٌ عليه بما يكفي من قبل السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا وسواهما من ميادين البحث في الدّيني. فالمسرح اجتماعي لا بمضامينه فحسب، بل وكذلك بأشكاله، إذْ إنّ أشكاله من أصل اجتماعيّ حصراً ولا وجود له خارج العمل الجّماعي. ولا يعدو أن تكون النّصوص الخاصّة به محكمة فحسب، بل تمّت كتابتها تحت شروط جماعيّة، وإن كتبت على أيدي أشخاص بعينهم. وهي لا تتكلّم عن أحاسيسهم الخاصّة وعواطفهم الذّاتيّة الجيّاشة، وإنّما عن الأشياء المُقدّسة، والآلهة وعلاقتها بالنّاس، أي عن الأشياء الاجتماعيّة. ومما يدل على أن المسرح في جوهره ظاهرة اجتماعيّة، أيضاً، هو أنّ الأديان الأولى لا تقام شعائرها الدّراميّة إلّا من قبل الجماعة، أو الطبقة الكهنوتيّة المؤطرة للجماعة كلّها، وفي حضور الجماعة.
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الفكرية والإبداعية؟
(م. أ.): يتنزّل هذا الكتاب منزلة أوسع في مسيرة المشروع الفكري ـ التصحيحي، الذي أشتغل عليه منذ عدّة سنوات، برغم الإكراهات والعوائق الماديّة والمعنويّة. فكما تعلم، إنّ المجهود الذي يبذل في هذا المشروع الضخم هو مجهود فردي لا تسنده أيّة منظومة أو مؤسسّة جامعيّة كانت أم هيئات عربية تعنى بالبحث المسرحي. ولك أن تتصوّر وطأة البحث الفردي وتكلفته الماديّة والزمنية وما تستقطبه من جهد هو في أصله وحقيقته جماعيّ بعيد المدى يروم كشف الحقائق المحتجبة للمسرح الشرقي القديم، ناهيك عن تأسيسه لقاعدة بيانات علميّة تسعف الباحثين والطلبة الجادين في مواصلة السعي وترسيخ نظريّة عربيّة تطمح إلى افتكاك الإرث الشرقي، الرافدي ـ المصري ـ الأوغاريتي، من إسار القراءة والتأويل الغربيين، الأحاديين في منطلقاتهما ومآلهما، والمستندين إلى مركزيّة التاريخ الغربي للعالم وتعاقب الحضارات. وذلك عبر التحرّر المعرفي من مضاهاة أو مزاحمة التأويل الغربي، وملامسة النّصوص عبر قراءة جديدة مباشرة، من خلال ترجمة عربيّة هذه المرّة. إنّ المسار الوعر الذي نشقّه ـ وحدنا ـ يتجاوز حدود البحث في تراث العرب المنحدر إلينا باللغة العربيّة، إلى نطاق البحث في التراث الأثري الغائر في القدم إلى ما قبل الجذور الإغريقيّة للحضارة الغربيّة نفسها، متوسلين بمنهجيّات ومفاهيم نضجت أساساً في حقل الدّراسات الأنثروبولوجيّة، وفي شقّها الأركيولوجي على وجه الخصوص. على أنّ وجه التّحول في صياغة إشكاليّة التأصيل التي نرومها تتمثّل في الانتقال من الأساس الثقافي واللغوي الأدبي العربي، إلى الأساس الجغرافي والأثري الذي يتمثّل في البحث عن توطين جغرافيّ لجذور المسرح في الأرض العربيّة وفي الحضارة الماهدة للحضارة العربيّة. لقد خرجنا ـ في سعينا البحثي المعمّق هذا ـ من مسرح في الثقافة العربيّة إلى مسرح في الأرض العربيّة، ومن نطاق الهوية النّصية (المبنية على الانتماء إلى الوثيقة) إلى نطاق الهويّة الأثريّة المبنيّة على الانتماء إلى لقى ما قبل التاريخ.