(المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2024)
جدلية (ج): كيف تبلورت فكرة الكتاب وما الذي قادك نحو الموضوع؟
عبد الكريم بدرخان (ع. ب.): في الحقيقة، خطرتْ إشكالية البحث في ذهني عام 2016، وجاءت نتيجة لتجربة شخصية. كانت تلك سنتي الأولى في النرويج، واحتكاكي الأول مع الأوروبيين في بلادهم، وهو أمر مختلف عن الاحتكاك بهم في بلادنا أو الشرق الأوسط بالعموم، إذ عادةً ما تكون نوعية أولئك الذين نقابلهم في بلادنا محصورةً في نماذج الصحافيين وموظفي الإغاثة والدبلوماسيين، أي المهتمّين بـ "معرفتنا" لأسبابهم المختلفة. في تلك السنة 2016، لاحظتُ أن عبارة "your culture" صارت تتردّد على مسمعي بشكل متكرر، من أصدقاء وغرباء، في سياق الـمُزاح أحيانًا والجِـدّ تارة، وهي تعني فيما تعني تحديد الثقافة -أو ما يُفترض أنها الثقافة- التي أنتمي إليها في بضعة أحكام مُسبَقة، أشاعتْها وسائلُ الإعلام والأعمال الأدبية والسينمائية في العقود الأخيرة. وقد تعني -في بعض الأحيان- إقرارَ أحكام معينة في حقّ مَنْ يُعتقَد أنه ينتمي إلى تلك الثقافة.
ومع مرور السنوات صرتُ ألاحظ شُيوع هذه الظاهرة أكثرَ فأكثر، وهي اختزال ثقافات شديدة الغِنى والتنوُّع؛ ببضع صفاتٍ جوهرانية يُفترَض أنها ثابتة فيها، ثم تعميم هذه الصفات على البشر المنتسبين بالولادة إلى تلك الثقافات.
(ج): ما هي الأفكار والأطروحات الرئيسة التي يتضمنها الكتاب؟
(ع. ب.): الكتاب يعالج مسألة تحول العنصرية من العنصرية البيولوجية القائمة على افتراض وجود أعراق بشرية لها صفات ثابتة ومتوارثة، مختلفة جوهريًّا بعضُها عن بعض، ما يُحتِّم بالضرورة اختلافَ أحوال الشعوب والجماعات من النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية... إلى العنصرية الثقافية التي تقوم على افتراض أنّ للثقافات البشرية صفاتٍ ثابتة ومتوارثة، مختلفة جوهريًّا بعضُها عن بعض، ما يُحتّم بالضرورة اختلافَ أحوال الشعوب والجماعات من النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية كذلك.
ولقد عرضتُ هذا التحوّل في ثلاثة فصول تطبيقية، الأول تناول النظرية السياسية، وهي بالتحديد النظريات التي سطعَ نجمُها بعد نهاية الحرب الباردة مثل "صدام الحضارات" و"نهاية التاريخ". وكذلك قراءة برنارد لويس للتاريخ بوصفه صراعًا مستمرًّا بين ما أسماه "العالم الإسلامي" و"العالم اليهو-مسيحي". لكنني لم أصِفْ أيًّا من تلك النظريات بالعنصرية، بل هي مهّدت الطريق لظهور نظريات مؤامرة عنصرية، ولـشُـيُوع أحكام العنصرية الثقافية في وسائل الإعلام كما في الأكاديميا.
ثم تناولتُ نظريات المؤامرة التي ترى في هجرة غير الأوروبيين -وتحديدًا المسلمين- إلى أوروبا مخطّطًا مدروسًا ومؤامرة قديمة هدفُها احتلال أوروبا وأسلَمتُها، ثم إخضاع أهلها لأحكام "أهل الذمّة". هذا ما قدّمتْه أوريانا فالاتشي في كتابها "قوة العقل"، وما طوّرتْه بات يُور إلى نظرية "أورابيا" التي تزعُم وجود مؤامرة أوروبية-عربية تستهدف إسرائيل.
أما الأدب فهو موضوع واسع ويستأهل كتابًا لوحده، فهنالك رويات درستُها تحت مسمّى "ديستوبيا الهجرة"، ومن أشهرها "معسكر القديسين" و"استسلام". وهنالك روايات "الإرهاب الإسلامي" التي صدرت بعد هجمات 11 أيلول/سبتمبر، وتستحقُّ بعضُها أنْ توصَف بأنها مُنتَجات تجارية، ناهيك عن السذاجة والسطحيّة في مقاربة ظاهرة معقدة كالإرهاب.
(ج): ما هي التحديات التي جابهتك أثناء البحث والكتابة؟
(ع. ب.): التحدي الرئيس الذي أرّقني أثناء البحث هو خوفي من أنني قد لا أجدُ ناشرًا للكتاب بعد الانتهاء منه، وذلك لأنّ مشهد النشر في العالم العربي لا يُطمئن كثيرًا. لكنْ بعد عرض الكتاب على المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وموافقة اللجنة العلمية على نشره، تبدّدت تلك المخاوف.
وثمة تحدٍّ منهجي أيضًا، إذ لم يصدرْ -في حدود اطلاعي- أي كتاب تناول ظاهرة العنصرية الثقافية على وجه الخصوص، رغمَ ذكرها في عدد من الكتب والمقالات الأكاديمية. ولذلك كان عليّ أنْ أجمع شتات العنصرية الثقافية المتناثر في عددٍ لا محدود من النظريات السياسية ونظريات المؤامرة والأعمال الأدبية والتصريحات الإعلامية... لتشكّل بمجموعها المادة الإمبريقية (empirical) الداعمة لإشكالية البحث، ألا وهي تحوّل العنصرية من البيولوجية إلى الثقافية.
(ج): كيف يتموضع هذا الكتاب في الحقل الفكري/الجنس الكتابي الخاص به وكيف سيتفاعل معه؟
(ع. ب.): البحث عبر-تخصُّصي (interdisciplinary)، فلا يمكن حصرُهُ في حقل معرفي معين. هنالك فصول نظرية تضمنّت تعريفات سوسيولوجية لبعض المفاهيم، وعرض تاريخي وأنثروبولوجي لها. وهنالك النظريات السياسية التي تنتمي إلى علم السياسة، بينما تطلّب نقدُ نظريات المؤامرة تبيانَ التهافُت المنطقي الذي تقوم عليه النظرية، ولا ضيرَ بعد ذلك من ذكر الأسباب العلمية للظواهر بدلًا من الأسباب التي اختارها التفسير المؤامراتي. بالنسبة إلى الأعمال الأدبية، فلم يسمحْ لي تعدُّد المواضيع التي تناولها البحث أنْ أتوسّع بدراستها بشكل مفصّل ومعمّق، ولذلك مررتُ عليها مرورًا سريعًا، مُركِّـزًا على تحليل الأفكار أكثر من تحليل الخطاب أو تحليل النصّ.
(ج): من هو الجمهور المفترض للكتاب ومن القراء الذين تأمل أن يصل إليهم؟
(ع. ب.): وضعتُ الكتاب بالعربية لأنني أردتُه موجّهًا إلى القارئ العربي، لكي يكون على اطّلاع ومعرفة بخطورة العنصرية الثقافية وما قد وصلتْ إليه. ولكي يرى في الحداثة "الغربية" جوانبها السلبيّة بالتوازي مع جوانبها الإيجابية كالديمقراطية والنموّ الاقتصادي وسياسات الرفاه الاجتماعي. وأريدُ للكتاب أن يصل إلى الشباب العربي المقيم في الغرب، إذ سوف يجد فيه أسلحة دفاعية تُعينه على التحديات اليومية.
والكتاب - بشكل غير مباشر - نقدٌ لفريق من المثقفين والمفكرين العرب، أولئك الـمُغرِقين في الثقافوية، حينما يُفسِّرون مختلفَ الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية بالثقافة وحدَها، وهم يختزلون الثقافة عادةً بالإسلام. ومنذ هزيمة حزيران 1967 إلى هزائم المنتخبات العربية في المونديال، يتمّ إرجاع مجمَل الظواهر السلبية إلى ما يُسمّونه "الشخصية العربية" أو "العقلية الإسلامية" أو "العقل العربي/المسلم". كما درجَ بعضُهم على تفسير ما يجري في القرن الواحد والعشرين بالعودة إلى ما حدث في سقيفة بني ساعدة.
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الفكرية والإبداعية؟
(ع. ب.): موقع تأسيسي فهو أول كتاب فكري-نقدي لي. سبقَ لي أنْ أصدرتُ أعمالًا أدبية بين ترجمة وتأليف، وكتبتُ دراسات في النقد الأدبي. أما في مجال العلوم الاجتماعية والنقد الثقافي العابر للتخصُّصات؛ فهذا أوّل كتاب يصدر لي.
وما كان لهذا الكتاب أن يُوجد لولا هجرتي إلى دولة أوروبية، واحتكاكي مع واقع جديد بكافة تحديّاته وصعوباته، ولذلك أصاب كارل ماركس حين قال إنّ وعي البشر يتحدّد بظروفهم الاجتماعية. وما كان لهذا الكتاب أن يرى النُور لولا الطريق الواسع والـمُضَاء الذي مهّدهُ لنا الباحثون الكبار في مجال الاستشراق ودراسات ما بعد الكولونيالية.
(ج): ما هي مشاريعك الأخرى/المستقبلية؟
(ع. ب.): ثمة دومًا أفكار جديدة قابلة للتحوُّل إلى مشاريع بحثية، المسألة تحتاج إلى وقت أولًا، إذ لم أكن يومًا متفرّغًا للكتابة أو الترجمة أو البحث، كما تحتاج إلى الدافع والتصميم ثانيًّا. لننتظر ونرى إلى أين سوف تأخذنا الرياح، رغم التحديات الكثيرة ومن أهمها انتشار وسائل التواصل الحديثة، والميل العامّ نحو تحصيل المعرفة عن طريق مشاهدة الفيديوهات بدلًا من قراءة الكتب.
مقتطفات من الكتاب
حتى أن وسائل الإعلام المرحِّبة باللاجئين والمناهضة للعنصرية، قد تستخدم خطابًا ينزع الصفة البشرية عنهم في بعض الأحيان. وذلك عندما يتمّ وصفهم بمفردات مشتقة من عالم المياه والكوارث المائية الطبيعية، إذ يُوصف قدومُ اللاجئين بمفردات مثل: تيّار- تدفُّق- فيضان- طوفان- تسونامي... إلخ، والأكثر شيوعًا هو طوفان "flood". إنّ تشبيه اللاجئين بالكوارث المائية ينزع الصفة البشرية عنهم أولًا، ويوحي ثانيًا أنهم كتلة متجانسة مثل الماء، لا فوارقَ فيما بينهم ولا تمايزات اقتصادية أو اجتماعية أو نفسيّة، إذ هم بشرٌ منعدمو الوجوه والملامح مثل تيّار مائي أو فيضان. كما يُوحي ثالثًا بأنهم كتلة بشرية-مائية لا يمكن إحصاء تعدادها، وهي في حركة دائمة تجرف ما أمامها أو تغرق البلاد المتجهة إليها. وبعد ذلك كيف يمكن حماية البلاد من الطوفان؟ لا بدّ إذًا من بناء سدّ يقف في وجه المياه/المهاجرين، وهو إغلاق الحدود وسياسات هجرة متشددة مبدئيًّا.
إن نزع الصفة البشرية عن جماعة ما هو حجر أساس في صنع خطاب الكراهية، وبعد ذلك تصبح جميع السياسات والممارسات مباحة. فطالما أنهم بشر أدنى درجة، أو ليسوا بشرًا على الإطلاق، فلا يحق لهم (هُم) أن ينالوا من الحقوق ما يحقّ للبشر (نحن).
وكمثالٍ على نزع الصفة البشرية عن اللاجئين، نأخذ قصيدة "فأر المدينة" (Die Stadtratte) للشاعر والسياسي النمساوي كريستيان شيلشر (Christian Schilcher). نُشرت القصيدة في جريدة حزب الحرية اليميني المتطرف (FPÖ) في نيسان/أبريل 2019، وأحدثت ضجّة في النمسا لما فيها من أوصاف تحقيرية للمهاجرين. وقد وصلت القضية إلى مستشار النمسا سيباستيان كورتز الذي دان القصيدة، وأوضح أن مواقف حزبه (حزب الشعب) مختلفة وبعيدة عن مواقف حزب الحرية، رغم أنهما كانا متحالفين معًا في ائتلاف حكومي واحد بين عامي 2017-2019.
تدور القصيدة على لسان فأر يعيش في مجارير مدينة بروناو، ويتحدث إلى إخوته من الفئران القادمين بكثرة إلى النمسا، مطالبًا إياهم إما بالاندماج السريع وتبني القوانين والقواعد والأعراف السائدة هنا أو العودة من حيث أتوا. وبسبب ردود الفعل الكثيرة عليها، اضطُّر شيلشر إلى الاستقالة من منصبه نائبًا لعُمدة مدينة بروناو، وهي مسقط رأسه ورأس الزعيم النازي أدولف هتلر.
إنّ ذكر هتلر هنا ليس اتهامًا مجانيًّا، بل هو مدخلنا إلى فهم القصيدة. إذ سبق لـ هتلر أن أوضح في كتابه "كفاحي" أنّ اختلافَ الأعراق (أو الأجناس) أمرٌ جوهريّ في الطبيعة، إذ يتزاوج فأر البيت مع فأر البيت، وفأر الحقل مع فأر الحقل... إلخ. مضيفًا أنّ أي اختلاط بين أبناء النوع الواحد، سوف يُنتج سلالاتٍ ضعيفة لا تصمد في الصراع من أجل البقاء. ثم ربط هتلر عالم الحيوان بالحضارات الإنسانية، واستنتجَ أن اختلاط الأعراق عن طريق الزواج سوف يُنتج نسلًا ضعيفًا منحطًّا، وهو ما كان السبب الرئيس لزوال الحضارات القديمة (اختلاط الآريّـيـن مع الشعوب المنحطّة).
أما شيلشر في قصيدته هذه فلا يذكر كلمة "عِرق" أبدًا، ولا يتحدث عن خطورة "اختلاط الأعراق"، بل عن خطورة "اختلاط الثقافات" الذي يؤدي إلى إنتاج ثقافة هجينة منحطّة. وفي حال اختلطت الثقافة الأوروبية بثقافات المهاجرين، فسوف تزول الحضارة الأوروبية. وعوضًا عن قانون حماية الدمّ الذي أصدره هتلر عام 1935، يبدو أن شيلشر يريد قانونًا لحماية الثقافة واللغة والدين من المهاجرين، إذ يقول: "عندما نخلط ثقافتين.. فإننا ندمّرهما/ وهذا هو الخطأ القاتل/ تخيَّلْ أنْ نخلط اللغات.. فسوف تفسُدُ اللغات كلّها". ويوضح التمايز بين الأديان: "بعضُهم مُجبَرون بأنْ يتغطّوا ويستَتِروا/ بينما يسيرُ الآخرون أحرارًا/ وهنالك من يؤمنون بالأشباح وبإلهٍ كبير هائل/ لكنْ ما نحنُ متأكدّون منه تمامًا.. أنه في دينٍ ما.. تُسلَبُ المرأةُ حقوقها كاملة/ وفي دين آخر تكون مقدّسة".
***
تقوم العنصرية الثقافية عند ميشيل ويلبيك على الإسلاموفوبيا، وهي ضمنية أكثر من كونها صريحة، لذا كان من الضروري تفكيكها. إنها عنصرية مبنية على موقف إيديولوجي يخلط بين شعوب ومجتمعات وثقافات وتواريخ الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من جهة، ثم يدمجها مع المهاجرين إلى أوروبا -رغمَ الاختلافات الهائلة فيما بينهم- من جهة ثانية، ليصنع من هذا الخليط مفهومًا واحدًا وموحّدًا، سلبيًّا وشريرًا، هو الإسلام ذو الجوهر اللاتاريخي الثابت. ثم يقدّمه بوصفه النقيضَ الدائم لكل ما هو أوروبي-حضاري.
كما أن شخصيات ويلبيك نمطيّة وذات جواهر ثابتة، فالرجل الأوروبي أو الفرنسي عقلانيّ ومثقف، لكنه في الوقت ذاته يعاني من أزمة وجودية، فيعبّر عن آرائه المتشائمة بلغة ساخرة متهكّمة. وفي مقابله يقف المسلم غير العقلاني، الكائن الخاضع والمطيع والميّال إلى العنف والهمجية. وبينما يكون للرجل الأوروبي موقف يعبّر عنه ويصرّح به في الرواية؛ فإن المسلم/الآخَر يظهر دومًا في صورة سلبية، في صورة الآلة التي تُطيع العادات والتقاليد والدين دون تفكير أو مناقشة أو اعتراض. إذ ليس للمسلم لسان عند ويلبيك، فهو الآخر الذي يُوصَف من بعيد، ويُعبَّـر عمّا في داخله على لسان الأوروبي العارف بدواخل النفوس.
وبينما اختار جان راسبيل في "معسكر القديسين" شخصية البروفيسور كالييه، صاحب الثقافة والذوق الرفيعين، كمدافع أخير عن أوروبا أمام غزو الشعوب الهمجية؛ فقد جاء ويلبيك بشخصية البروفيسور فرانسوا الذي لا يقلّ إنسانيةً وتسامحًا ورهافة، كمقاومٍ وشاهد أخير على استسلام أوروبا (أو أسلَمَتها).
تعزّز رواية "استسلام" من أطروحة "صدام الحضارات" بعد نقلها إلى الداخل. فبالرغم من أن الأوروبي وغير الأوروبي (المسلم) يعيشان في المكان ذاته، ويخضعان للقوانين ذاتها، ويذهبان إلى أماكن العمل أو الدراسة ذاتها، إلا أنّ كلًا منهما يعيش في عالم منفصل عن الآخر. فالأوروبي مثقف ومعاصر ويعيش في التاريخ، بينما ينتمي المسلم إلى عالم من التقاليد اللاتاريخية. كما أن حدود الحضارات واضحة وراسخة، إذ لا يحدث أيُّ تفاعل إنساني أو تمازج ثقافي بين النموذجين المختلفين، فكلٌّ منهما يرمقُ الآخر من بعيد ويعرف أنه نقيضُه وعدوُّه.