قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في ٢٠٢٣: "إن الإسرائيليين توحّدوا لاستئصال هذا الشر من العالم. ويجب أن تتذكّروا ما فعله العماليق بكم، كما قال كتابنا المقدس". لم يكن ما فعله العماليق بالإسرائيليين هو النقطة المهمة بل ما طلبه الله من إسرائيل أن تفعله بالعماليق: "فَالآنَ اذْهَبْ وَاضْرِبْ عَمَالِيقَ، وَحَرِّمُوا كُلَّ مَا لَهُ وَلاَ تَعْفُ عَنْهُمْ بَلِ اقْتُلْ رَجُلًا وَامْرَأَةً، طِفْلًا وَرَضِيعاً، بَقَراً وَغَنَماً، جَمَلًا وَحِمَاراً" (صموئيل 15: 3).
قال كثيرون إن هذه اللغة هي لغة الإبادة الجماعية، وهي أيضاً لغة الحرب المقدسة. وفي هذه المقالة القصيرة نكتب كباحثَيْن (أحدهما مختصّ في الحرب المقدسة والآخر في دراسات الشرق الأوسط) كي ندرس نوع السلام المرتبط بالحرب التي أُعْلنت كحربٍ مقدسة. ونفعل هذا عن طريق إعادة قراءة بعض اللحظات الأساسية في التراث الغربي التي تتعلق بالحرب المقدسة وعلاقتها بالخطاب السياسي للحرب والسلام في غزة وأوكرانيا.
السلامُ كحربٍ
يُعَدُّ السلام بعامة كمثل خيرٍ مطلق. لكن، كما ذُكرَ في "كتاب الحكمة" (الذي تم تأليفه في الإسكندرية قبل وقتٍ قصير من ولادة المسيح): "إنهم يدعون شروراً كثيرة وخطيرة سلاماً". لنأخذ مثالاً على ذلك الإمبراطورية الرومانية التي نقشتْ على أوسمتها العبارة التالية: "منحتُ السلام للعالم"، أو لنقتطف كلام المؤرخ الروماني العظيم تاسيتوس الذي عبّر عن الأمر قائلاً: "أن تخرّب وتذبح وتغتصب تحت ألقابٍ مزيفةٍ يدعون هذا إمبراطورية، وحيث يصحّرون الأرض يدعون هذا إمبراطورية".
سبّبَ السلام الرومانيُّ العنفَ والنهب والدمار والخوف. وعاش الرومان، كما قال أوغسطين، في خوفٍ مظلم وشبق قاس محاطين بكوارث الحرب وسفك الدماء، الذي سواء كان دم المواطنين أو الأعداء، هو دم بشري في النهاية. ويمكن تشبيه متعة رجال كهؤلاء ببريق الزجاج الهش، وهم خائفون جداً من أن يتهشّم فجأة.
كانت الحملات الصليبية التي بدأت في "العصور المظلمة" حروباً مقدسة بامتياز أجازتْها "مراسيم بابوية" انتهى مفعول آخرها في ١٩٤٠. إلا أن الروح الصليبية لم تختف بعد انتهاء مفعول آخر مرسوم بابوي. فقد أحدثت الأفكار والصور واللغة وصناعة الأيقونات والعواطف والمواقف المرتبطة بالحملات الصليبية تأثيراً متواصلاً في الحضارة الغربية وفي المؤسسات الغربية أيضاً. ووجّهتْ الروح الصليبية كريستوف كولومبس حين "اكتشف الأميركيتين". وقررت روحُ الحرب المقدسة معاملةَ السكان الأصليين لأمريكا وألهمت الاستعمار والإمبريالية، وعُبئت ضد شعوب أوروبا أيضاً، كما حدث في عصر الأنوار، بين الفلاسفة الذين عُرفوا بعدائهم للدين. لنأخذ على سبيل المثال ردود فعل فلاسفة التنوير على خطة السلام الأبدي في أوروبا التي صاغها ﺷـﺎرل إﻳﺮﻳﻨﻴﻪ ﻛﺎﺳـﺘﻴﻞ دي ﺳـﺎن ﺑﻴري (١٦٥٨-١٧٤٣). فقد اقترح شارل إيرينيه تحقيق السلام في أوروبا عن طريق شن "حملة صليبية شاملة لا تُضاهى منسقة على نحو أفضل وأقوى وأشد من الحملات السابقة كلها". يجب أن ينهي الأمراء الأوربيون الاقتتال فيما بينهم ويرصّوا الصفوف ويكرّسوا طاقتهم لمواجهة التركي وصد الغزوات التي يشنها داخل أوروبا. " كما يجب بناء كثير من الدول المسيحية الجديدة ذات السيادة" على أنقاض الإمبراطورية الرومانية. وبما أن بعض المناطق التركية كانت في أوروبا فإن هذه "العصبة الهجومية لإبادة الأتراك" كانت حرباً مقدسة ضد الأوربيين غير المسيحيين. وشكك فلاسفة تنوير عظماء مثل جوتفريد فيلهلم لايبنتز وإيمانويل كانط بتفاصيل في خطة سان بيري لكنهما لم يعبّرا عن أية مخاوف حيال منطق تطبيقها.
صاغت الروح الصليبية للحرب المقدسة الحملات الأوربية الاستعمارية ضد غير الأوروبيين. فقد صوّر الفرنسيون، على سبيل المثال، استعمارهم للجزائر على أنه حملة صليبية للملك لويس فيليب. وتغذي الروح الصليبية أيضاً الإمبريالية الحالية. وصُوِّرت الحرب العالمية الأولى في كلٍّ من أوروبا والولايات المتحدة بأنها حرب تهدف لإنهاء الحروب كلها، وشكلت استمرارية للحملات الصليبية. ووصف المؤرخ الفرنسي العظيم للحملات الصليبية رينيه غروسيه وصول الجيش الفرنسي إلى الشرق الأوسط بأنه "فرنجة" تطأ أقدامهم سورية من جديد "لتسليم طرابلس وبيروت وصور، مدينة ريمون الصنجيلي، ومدينة جون الإبليني ومدينة فيليب المونتفورتي". وتابع كلامه قائلاً إن القدس "أعيد احتلالها في التاسع من كانون الأول\ديسمبر ١٩١٧ على يد المنحدرين من الملك ريتشارد بقيادة ألينبي". بالتالي، يمكن أن يُعدّ "وعد بلفور" الذي صدر عام ١٩١٧استمراراً للحروب الصليبيةعلى غرار دخول ألينبي إلى فلسطين.
الحرب المقدسة، الحرب العادلة، وقتل الهراطقة
ما الذي تعنيه هيمنةُ الحرب المقدسة في التراث الغربي بالنسبة للسلام الآن؟ للإجابة على هذا السؤال يجب أن نترك الحرب المقدسة قليلاً كي نتحدث عن الحرب العادلة.
يختلف السلام الذي يُطبّق في نهاية الحرب المقدسة عن السلام الذي يُصْنع في نهاية حرب عادلة. تعلنُ الحربَ العادلة، نظرياً، سلطةٌ دنيويةٌ شرعية بغية استعادة بضائع مفقودة سواء كانت مُلكية حقيقية، أو حقوقاً غير مادية. وتُشنّ الحرب العادلة داخل حدود القانون لجبر ضررٍ سبّبه العدو. أما على الصعيد العملي، وكما نعرف جيداً من التاريخ، فقد ارتُكبت أنواع الجرائم كلها في حروب دُعيت عادلة، رغم أن حروباً كهذه كانت مدمرة. كما أن أي حرب تقريباً يمكن أن تُصَوَّر أنها عادلة بسهولة شديدة وفي أي وقت. أما بالنسبة لضحايا الحرب، فإن كونها "حرباً عادلة" ليس إلا "عزاء مؤسفاً" (كما سيقول كانط). على أي حال، لا تمحو الحرب العادلة فكرة السلطة الشرعية والقانون أو العدالة. فبهذه الطريقة يتم الحفاظ على الأوضاع التي يُصبح من الممكن فيها مواصلة حياة المجتمع المحاصر، أو الذي يمرّ في ظروفٍ شديدة الصعوبة.
تُعد الحرب المقدسة فاضلةبالمقارنة مع الحرب العادلة. وكما أعلنتْ الملحمة الصليبية التي تُدعى "أنشودة رولان": "نحن على صوابٍ بيد أن أولئك البؤساء على ضلال". وتُشن الحرب المقدسة باسم سلطة عليا إلهية، تحرّر العنف الإرادي والعشوائي. وتتحرر الحرب المقدسة من أي احترام للقوانين البشرية والأخلاق.
شُنّت الحروب كلها ضد أعداء يتم تفسيرهم وتصويرهم لكن الحرب المقدسة تُخاض ضد عدوٍّ كونيّ ووجودي لا تمكن المصالحة معه. وتتطلب الحرب المقدسة بناء عدو كهذا بدقة ذلك أن العداء يجب أن يكون جوهرياً وشاملاًفي الحرب المقدسة، ولا تمكن المصالحة مع العدو الذي يُصوَّر كبشرٍ لا يستطيعُ من يشنون الحربَ المقدسة أن يعيشوا معهم في وئام. وصوّرتْ الحملةُ الصليبية الأولى المسلمين كأعداء بهذه الطريقة وتم توريث هذه الصورة لأجيال المستقبل وتعيش معنا حتى اليوم.
ينتهك المحاربون المقدسون حدود قوانين الحرب والقانون نفسه. يقاتلون عدواً جوهرياً وجودياً لا يخضع لحماية القانون البشري. ويعدّ المحاربون المقدسون أنفسهم متفوقين على عدوهم كمثل شعب مختار اختاره الله، أو العناية الإلهية، ويصوّرون أنفسهم بأنهم شعب إلهي، وحضارة أعلى، وسلالة أرقى، أو أمة استثنائية "فوق البشر" و"فوق كل شيء". وحين يضع المحاربون المقدسون أنفسهم فوق أعراف وقوانين السلوك البشري فإنهم يجردون بذلك أعداءهم من أي نوع من الحماية القانونية. وبعد أن يصدّقوا أنفسهم بأن سلطة عليا خوّلتهم، يعدّ المحاربون المقدسون أعداءهم أدنى من البشر ويعاملونهم من خلال تعمّد تجريدهم من الإنسانية. ذلك أن تجريد العدو من الإنسانية، أو إنكار أنه يتمتع بصفة إنسانية، سمة جوهرية للحرب المقدسة التي تتجدد مرة بعد أخرى في الفضاء اللانهائي بين بدايتها ونهايتها. إن استئصال العدو هو الخاتمة المنطقية فحسب: الحرب حتى الموت، حرب من أجل الإبادة. وفي الحرب المقدسة لا يُعدّ قتل العدو جريمة. ليس إلا قتلاً للهراطقة، وقضاء على الشر.
نحت برنارد الكليرفويّ مصطلح "القضاء على الهراطقة"، في القرن الثاني عشر في مديحه للمحاربين المقدسين. وتعني كلمة قتل الهراطقة في الحروب المقدسة قتل ما يُزعم أنهم أعداء أساسيون أدنى من البشر وتدمير الشروط الأساسية لوجودهم. ولا عجب أن هذا يقود إلى التطهير والاستيلاء على الأرض. فقد هدف الصليبيون في القرون الوسطى إلى تطهير الأرض المقدسة من "الكفار". وبزغ جنس أدبي عن "استرجاع" أو عن "استعادة" الأرض المقدسة في العالم المسيحي اللاتيني. ولم يبدُ أن أحداً تضايق من حقيقة أن الأرض المقدسة لم تكن ملكاً لهم أبداً. وتواصَلَ منطقُ قتل الهراطقة هذا في الحرب المقدسة في عصر الأنوار وفيما بعد استمر في صوتٍ علماني أيضاً. وهنا نستطيع العودة إلى أمثلة عن الخطاب السياسي المتعلق بأوكرانيا وغزة.
أوكرانيا وغزة والحرب المقدسة
وضعت ألمانيا النازية في عشية الحرب العالمية الثانية خطةً لإفراغ أوكرانيا من سكانها وإنهاء التصنيع فيها. أرادت أن تحوّلها إلى مخزن حبوبٍ للرايخ الثالث. وبعد ٢٠١٤، شنت الحكومة الأوكرانية هجمات على الروس (ربع السكان قبل الحرب تقريباً) لاستئصال اللغة والثقافة الروسية من أوكرانيا. وأرسل نظام كييف وداعموه الغربيون مئات آلاف الرجال إلى حتفهم، فيما هرب الملايين خارج البلاد. واستولت الشركات الغربية، وصناديق التقاعد، وصناديق الثروة السيادية السعودية على هذه الأرض الأكثر خصوبة. وليس بعيداً جداً عن أوكرانيا، استشهد زعماء إسرائيل بالعهد القديم كي يعلنوا أن الأرض كلها لهم واختزلوا الله إلى وكيلٍ عقاري.
ترافق شنّ الحرب المقدسة مع لغة قتل الهراطقة. وحين دعا وزير الدفاع الإسرائيلي ذو القميص الأسود الفلسطينيين "حيوانات بشرية" استخدم لغة القتل هذه. وشبّهتْ لغةُ الحرب الأوكرانية الروس بالحشرات، وأنكرت أن لهم شكلاً بشرياً، تماماً كما فعل النازيون الألمان، الذين تعاون معهم آباؤهم، باليهود. هذه أيضاً لغة قتل الهراطقة. وحين أعلن المسؤولون الحكوميون الإسرائيليون وحلفاؤهم الأوروبيون والأمريكيون أن إسرائيل تقاتل "الشر الخالص" في شكل إنساني، فإنهم نطقوا بلغة قتل الهراطقة، وجردوا كلمة شر من معناها الأخلاقي واستخدموها كأداة سياسية لمحو الإحداثيات الأساسية للأخلاق.
قليلون هم من يتحدثون الآن عن الحرب المقدسة في الغرب. وصارت لغة الإبادة الجماعية التي ظهرت في القرن العشرين أكثر انتشاراً، وترافقت مع عدد من الجرائم التي انتهكت القانون الدولي: انتهاكات قوانين الحرب، انتهاكات القوانين الإنسانية، جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية. وكانت جريمة الجرائم منذ القرن العشرين هي الإبادة الجماعية التي تحظى حالياً بدعم وتحريض من نخب الغرب كله. وكان سجل الإبادة الجماعية "للحضارة الغربية" دوماً موجوداً كي نراه ونتدارسه. ويُبث الوجه الإجرامي للغرب المتورط في الإبادة الجماعية حياً الآن أمام أعيننا. فأيّ نوعٍ من السلام ممكنٌ بعد حرب مقدسة ما بعد حداثية تُبث على الهواء"؟
إن الحرب المقدسة كحربٍ تُشَنُّ حتى النهاية تقود منطقياً إلى سلام المقبرة، كما يرى فلاسفة عصر الأنوار. ففي الحياة السياسية، على عكس ما هو الأمر في نصوصٍ كمثل خطة سلام القديس بيير، لا يجري المنطق بسلاسة أبداً. بالتالي لا يوجد جواب محدد على السؤال الذي طرحناه لتونا: أي نوع من السلام يأتي بعد الحرب المقدسة؟
رفضت النخب السياسية في الغرب السلام بلغة واضحة. وثمة أدلة وافرة على أن النخب الغربية حرضت على الحرب في أوكرانيا، ووصفتْها لاحقاً بأنها عدوانٌ غير مبرّر قام به بوتين. رفضت هذه النخب العروض الروسية للحل السياسي، من اتفاقيات مينسك إلى مقترحات كانون الأول\ديسمبر ٢٠٢١ للتفاوض. واستخدمت حقَّ النقض (الفيتو) ضد هدنة تم التفاوض عليها بين أوكرانيا وروسيا في آذار ٢٠٢٢. وأصرّ ممثل الاتحاد الأوروبي على أنه يجب العثور على حل في ميدان المعركة. وحين دعا البابا فرانسيس في آذار ٢٠٢٤ أوكرانيا كي تشرع مباشرة في مفاوضات سلام شوّهَ سادةُ الحرب سمعته. وصارت كلمة هدنة كلمةً محظورة. وحُظرت حين تعلق الأمر بغزة، فقد أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية في تشرين الأول ٢٠٢٣ مذكرة منعت الدبلوماسيين الأمريكيين من استخدام كلمة هدنة. وبعد أن سدّ الغرب طريق وقف إطلاق النار صارت غزة قرطاج حديثة (المدينة التي دمرها الرومان في ١٤٦ قبل الميلاد). لكن يجب أن ننتبه إلى الفرق بين الزمن القديم وأزمنتنا. في يومنا هذا لا يعني "السلام القرطاجي" الإخضاع التام لسكان العدو. تم إخضاع "السكان الفلسطينيين الأعداء" قبل وقت طويل من بداية هذه الحرب. يعني "السلام القرطاجي" اليوم الإبادة. فالسلام الذي تسعى إليه الحكومة الإسرائيلية هو إتمام الإبادة الجماعية. إن إنهاء الحرب عن طريق الإبادة الجماعية ليس سلاماً، إنه إبادة جماعية.
باستثناء الفكرة الغامضة لاستئصال عدوّ جُرّد من إنسانيته لا توجّه الحرب في أوكرانيا وفي غزة استراتيجية سياسية. هذا ما يقوله الجيش الإسرائيلي نفسه. لا توجد لعبة سياسية من أجل نهاية الحرب رغم خطط العمل من أجل "اليوم التالي" في غزة بعد تطهيرها من الفلسطينيين ورغم صفقات الأعمال الرابحة في تجارة الأسلحة والمزارع في أوكرانيا المدمرة. وتقوم سرديات تيار إعلام النخبة في هذه الأثناء بإخراج هاتين الحربين من سياقهما التاريخي والسياسي، وإذا ما جُردت الحربان من سياقهما فهذا يعني أنهما تجردان من السياسة.
ثمة عبارة معروفة لكلاوزفيتز: إن الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل أخرٍى. وحين نعجز عن التفكير بالحرب سياسياً فإن الحرب تصبح عنفاً خالصاً وجنونياً. تصبح الحرب بديلاً للسياسة. ويصبح من المستحيل التوصل إلى حل سياسي للنزاع الذي أدى إلى القتال. إن أي سلام دائم وحقيقي هو بالضرورة نتاج السياسة. إذا غابت السياسة فإن الحرب لا تنتهي إلا بعد استئصال جذري للعدو. ويتطلبُ السلام، كحلٍّ سياسي، العثورَ على طريقة للحياة، على شكلٍ ما للتعايش. أما إذا لم يتحقّق هذا فإن السلام لا يمكن أن يكون إلا سلام المقبرة. وفي غزة حتى سلام المقبرة لم يعد ممكناً بعد أن دمّر الجيشُ الإسرائيليّ المقابر الفلسطينية مع كل شيء آخر.
إن عدم القدرة على التفكير بالحرب سياسياً، والاستخدام الليبرالي للحرب كبديل للدبلوماسية والسياسة، يرتبط بمرضٍ أعمق في المجتمع الغربي هو تدهور السياسة بعامة. ذلك أن النخب السياسية التي تفتقر للكفاءة والفاسدة والغادرة هي مجرد أعراض لذلك التدهور في السياسة.
إن السياسة في تعريفها الكلاسيكي هي فن إدارة الشؤون العامة المشتركة لجماعة مدنية. وفي وقتٍ تتولّى فيه المصالح الاقتصادية الخاصة السيطرة المتزايدة على قنوات صناعة القرار السياسي، فإن الدولة كسلطة عامة يزداد تفكيكها وتضمحلّ السياسة ومع اضمحلال السياسة تتوقف الحرب عن كونها مؤسسة وتصبح "الحرية المطلقة لرعب التدمير" (هيغل). هل يمكن للسلام أن يكون سوى تاج الدمار في عالمٍ كهذا؟
حين يمارس الأقوياء القتل وهم يتمتعون بالحصانة ويضطرّ المُضْطَهدون للجوء إلى العنف لاستعادة الحد الأدنى من الكرامة الإنسانية نُقذف كلنا داخل بيت زجاجي يتسم بالروعة والهشاشة، ممتلئ بالخوف المظلم والشهوة القاسية التي تحدث عنها أوغسطين. ستصبح لغتنا لغة العنف والحرب وتُغلَّف بالدعاية الأورويلية (نسبة إلى جورج أورويل) عن السلام والديمقراطية. أما إذا كنا راغبين حقاً بالسلام فيجب أن نتعلم من جديد اللغة السياسية ونحيي السياسة ونغيّر جذرياً علاقات القوة داخل مجتمعاتنا، وفي عالمنا.
حول الكاتبين:
جوليا إليشار: أنثروبولوجية أمريكية مختصة في الحرب المقدسة، ألفت كتاباً بعنوان "حول شبه المتحضرين: قنوات التنقل والتمويل عبر القاهرة وخارجها" (سيصدر الكتاب في 2024) وكتاب "أسواق الحرمان: المنظمات غير الحكومية والتنمية الاقتصادية والدولة في القاهرة". إليشار أستاذ مشارك في الدراسات الدولية والإقليمية وأستاذ مشارك في الأنثروبولوجيا في جامعة برينستون.
توماس ماشتناك ألف كتاب "البونابارتية: مقدمة في دراسة الفاشية (2021)" و"السلام الصليبي: الجماعة المسيحية والعالم الإسلامي والنظام السياسي الغربي" (2002)،الذي ترجمه إلى العربية بشير مفتي وصدر عن المركز القومي للترجمة في القاهرة في ٢٠٠٣. ماشتناك مدير فخري للأبحاث في معهد الفلسفة في مركز الأبحاث التابع للأكاديمية السلوفينية للعلوم والفنون.
[ترجمة عن الإنكليزية: أسامة إسبر].