مع ظهور أكثر من 150 معسكر تخييم أقامها الطلبة الجامعيّون على امتداد الولايات المتّحدة الأمريكيّة للتعبير عن تضامنهم مع غزّة، بدأت الصِّحافة المحلّيّة تطرح تخمينات مفادُها أن هذه المعسكرات هي ثمرة أشهُر من التدريب والتخطيط من قِبل مجموعات يساريّة وناشطين قدامى، أو بسبب فقدان وغياب المجتمع الجامعيّ، أو أنّ ثمّة مشرِّعين جمهوريّين يستغلّون هذه القضيّة لدقّ الأسافين، وأنّ ناشطين من بين الطلبة يعملون وكلاء لإيران، وأنّ الطلبة يقومون أخيرًا بتفريغ غضبهم المكبوت نتيجة الإغلاقات على خلفيّة جائحة الكورونا، وأنّ هذه الاحتجاجات مَرَدُّها إلى عدم ممارسة الطلبة للجنس على نحوٍ كافٍ. ما جرى تغييبه عن هذه التغطية هي مَطالب المحتجّين، أو كيفيّة تعاملهم مع العدوان المتواصل على قِطاع غزّة. هذه المقالة تسلّط الضوء على معسكر تخييم الطلبة في جامعة ييل، وهي جامعة بحثيّة خاصّة تشكّل جزءًا من أعرق وأشهر ثماني جامعات في الولايات المتّحدة الأمريكيّة ("رابطة اللبلاب") وتقع في مدينة نيو هاڤين، في ولاية كونِكْتِكَت. ورغم أنّ معسكَر الطلبة في جامعة ييل يتحلّى بخصوصيّات معيّنة -على نحوِ ما سنبيّن لاحقًا-، وعلى الرغم من أنّ هذه الخصوصيّات تؤدّي دَوْرها في مَطالب المخيَّم، وذلك لكونه يقع في مدينة نيو هاڤين التي تواجه تحدّيات مختلفة، نحو النِّسَب المرتفعة من عدم المساواة، والاستطباق (gentrification)، والممارسات البوليسيّة الوحشيّة، على الرغم من كلّ ذلك فإنّ هذا المعسكر يمثّل الكثير من معسكرات تخييم الطلبة المنتشرة على طول وعرض الولايات المتّحدة الأمريكيّة.
يُطْلَق على مخيَّم الطلبة الجامعيّين في جامعة ييل اسم "فلتحتلّوا ييل"؛ إذ منذ التاسع عشر من نيسان نفّذ المحتجّون احتلالًا سلميًّا لساحة Beinecke Plaza، ومن ثَمّ احتلّوا منطقة "Cross Campus"، حيث أقاموا هناك نقاطًا لتبادل العون توفّر إمدادات الطعام والماء، والبطّانيّات، والعتاد الطبّيّ، كما أنّها استضافت حفلات موسيقيّة في الهواء الطلق، وأعمالًا فنّيّة، وصلوات؛ كما وفّرت تعليمًا مجّانيًّا من خلال محاضرات توعويّة، بالإضافة إلى التبرُّع بمكتبة شعبيّة.
يرفع مخيّم الطلبة في ييل ثلاثة مَطالب مركزيّة: الكشف؛ سحب الاستثمارات؛ إعادة الاستثمار. ما الذي يعنيه الطلبة عندما يتحدّثون عن الكشف، وسحب الاستثمارات، وإعادة الاستثمار؟
ما يعنيه الطلبة بالكشف هو مطلبهم بالكشف عن الوجهة التي تذهب إليها المبالغ الضخمة التي تواصل جامعة ييل اجتذابها من مصادر كثيرة في مدينة نيو هاڤين، علمًا أنّ الطلبة (والمجتمع المحلّيّ في المدينة بعامّة) يرفضون السماح باستثمار هذه الأموال في الإبادة الجماعيّة والتربُّح من الحرب.
ما يعنيه الطلبة بسحب الاستثمارات هو أن تنسحب جامعة ييل من الاستثمار المزدوج في احتلال فلسطين واحتلال مدينة نيو هاڤين: "ييل هي قوّة احتلال تواصل شراء ممتلكات المدينة وإخلاء المدينة من السكّان، وكلّ ذلك من خلال عدم تسديد حصّتها المنْصفة. دائرة الشرطة في ييل، وقوّات الاحتلال الإسرائيليّ، هاتان الجهتان تشكّلان كذلك جزءًا من الإرث المتشابك لعنف الدولة"، وبناء على هذا يطالب الطلبة بإنهاء تواطؤ جامعة ييل مع الإبادة الجماعيّة والاحتلال.
من خلال المطلب الثالث، ألا وهو إعادة الاستثمار في نيو هاڤين، يطالب الطلبة الجامعة أن تعيد الاستثمار في مساكن في متناول اليد وبأسعار معقولة في المدينة، بدلًا من الاستثمار في تهجير الملايين من بيوتهم في فلسطين، وبدلًا من تمويل القنابل التي تسوّي المنازل والجامعات في غزّة بالأرض. يطالب الطلبة أن تقوم جامعة ييل بالاستثمار في طلبة وأساتذة نيو هاڤين، وبدلًا من دعم التجويع الجماعيّ لملايين من الفلسطينيّين، يطالب الطلبة أن تستثمر ييل في إنهاء غياب الأمن الغذائيّ لجميع الأطفال والسكّان في نيو هاڤين.
يكتسب المطلب الثالث مزيدًا من الأهمّيّة على خلفيّة التكتيكات العنصريّة والطبقيّة التي تتبنّاها إدارة الجامعة لإخلاء المخيّم، ففي يوم الاثنين الموافق الثاني والعشرين من نيسان (22/4/2024)، اعتقلت شرطة ييل، وبأمر مباشر من رئيس الجامعة ﭘـيتر سالوﭬـاي، نحو 50 طالبًا وفردًا من مجتمع نيو هاڤين في المخيّم. وقام رئيس الجامعة بتبرير هذه الاعتقالات من خلال استخدام ذريعة الحفاظ على "أمن الحرم الجامعيّ" الذي أصبح عرضة للخطر بسبب "أفعال مؤذية"، و"لغة تهديديّة" مارسها أفراد ينتمون إلى جامعة ييل وعدد من "الغرباء"، وعندما قدِمَ عددٌ من سكّان نيو هاڤين لمؤازرة الطلبة المعتقَلين، قامت إدارة ييل بترديد العبارات المجازيّة العنصريّة والطبقيّة التي يتفوّه بها الرئيس بشأن "غرباء" يرى أنّهم "يشكّلون خطرًا"، وأنّهم "أصحاب سوابق في الصدامات العنيفة".
يسلّط ردّ فعل جامعة ييل الضوء على العلاقات الاجتماعيّة الاستغلاليّة والهرميّة التي تحدّد تعامُلَ الجامعة ذا البعد العنصريّ مع المجتمعات القريبة والبعيدة. ولا يمكن لأيّ تحليل غير ذاك الذي يلتفت إلى العِرْق والطبقة أن يفسّر اختيار جامعة ييل أن تجرّم المحتجّين الذين لا ينتمون إلى حرمها الجامعيّ، بينما تُعتَبر هي من أكبر مَلّاكي العقارات في المدينة، وتقوم بتشغيل قوّة شرطيّة تتمتّع بصلاحيَات نفوذ على مستوى المدينة برمّتها.
من نافل القول أنّ الجامعات الأمريكيّة متداخلة في النظام الرأسماليّ، وشاركت الجامعات بالفعل في إعادة إنتاج الرأسماليّة "المعَنْصَرة" من خلال التوظيف غير المستقرّ وغير الآمن للموظَّفين، والخصخصة المكثّفة، والاستطباق داخل المجتمعات المحلّيّة، وتمويل حروب الإبادة العِرقيّة بواسطة توظيف أوقافها. أحيانًا تعمل الجامعات نفسها كمواقع لإنتاج المعرفة التي تروّج للاستعمار الاستيطانيّ. من هنا فإنّ مخيّمات الطلبة تتفاعل مع هذه الأشكال المتقاطعة للقمع من خلال حثّ الجامعات على إيقاف تواطؤها المادّيّ والمعرفيّ، والمحلّيّ والعالميّ في تمويل ودعم الإبادة الجماعيّة في غزّة.
يَعتبر الطلبة الناشطون في ييل أنّ الجامعة متواطئة في "احتلال مزدوج"، ويطالبونها بالانسحاب من مشاركتها في "الإبادة الجماعيّة التي ترتكبها إسرائيل في غزّة"، ومن التطاول على الممتلكات ومراكمتها داخل مدينة نيو هاڤين نفسها. بوصفها وكيلة لـ"الاحتلال المزدوج" تتداخل مؤسَّسات تعليميّة في أشكال مختلفة من الاستغلال والممارَسات العنصريّة التي تؤثّر على الطبقة العاملة محلّيًّا وعالميًّا. خلق الناشطون هذا الربط من خلال مناشداتهم للعمل، مطالبين الجامعة أن تسحب الاستثمارات، وأن تعيد استثمارها في مساكن في متناول اليد وبأسعار معقولة، وفي الأمن الغذائيّ، وفي التربية والتعليم في نيو هاڤين.
ماذا يحصل إذا أخذنا بجِدّيّةٍ هذه الدعوات لإعادة الاستثمار؟ ما هي أشكال العدالة الترميميّة والتحويليّة التي تتجسّد في مَطالب الطلبة؟ كيف تتفاعل وتتقاطع المقاومة على الصعيدَيْن العالميّ والمحلّيّ؟ مطالب "فلتحتلوا ييل" هي مسعًى لتأطير النضالات المحلّيّة والعالميّة ضدّ الرأسماليّة العنصريّة بحيث تكون مترابطة في ما بينها على نحوٍ جوهريّ. من خلال القيام بذلك، تعكس مَطالب "الإفصاح"، و"سحب الاستثمارات"، و"إعادة الاستثمار" كيفية ربط استراتيجيّات المقاومة لحركات متوزّعة جغرافيًّا بدعوات مشترَكة لتحقيق العدالة. إحدى اللافتات في مخيّم ييل كُتب فيها: "انسحِبوا من الاستثمار في الإبادة العِرْقيّة والحرب. أَعيدوا الاستثمار في نيو هاڤين". وهي تحدّد ما يلي: "بدلًا من استثمارها في اقتلاع ملايين الناس من منازلهم في فلسطين، نطالب جامعةَ ييل أن تستثمر في مَساكن في متناول اليد وبأسعار معقولة. المعسكرات الطلّابيّة تُمَوْضِع جامعة ييل كـ"قوّة احتلال" متواطئة في الاحتلال العسكريّ لفلسطين من خلال تصنيع السلاح، وكذلك في الاحتلال الاقتصاديّ لمدينة نيو هاڤين. يَقْرن هؤلاء على نحوٍ عميق بين إخلاء مجتمَعات الطبقة العاملة من خلال الاستطباق المنهجيّ والتهرُّب الضريبيّ والاحتلال العسكريّ الوحشيّ لفلسطين من خلال التمويل الذي تُقدِّمه ييل، وجنيها للأرباح من خلال تصنيع السلاح. من خلال الإقرار باستحالة الفصل بين هذه النضالات، يكشف الناشطون عن أهمّيّة الروابط العابرة للجغرافيا في التضامن العالميّ.
في الكثير من الأحيان، النضالات التي تقتصر على رقعة جغرافيّة محدَّدة، وتطرح اهتمامات وقضايا محلّيّة، تشكّل عوارضَ لمنظومات عنصريّة واستعماريّة ورأسماليّة أُخضِعت للعَوْلَمة. تُظهِر حركة "فلتحتلّوا ييل" استحالة الفصل بين الرأسماليّة، والعِرْق، والإمبرياليّة. نسمع في هذه النضالات أصداءَ تقاليد عريقة للنضال ضدّ الرأسماليّة العنصريّة، تلك المرتبطة بالفكر الماركسيّ الأسود الذي طوّره مفكّرون من أمثال سي.إل.آر. جيمس، وسيدريك روبنسون. حركة "فلتحتلوا ييل" ليست إلّا مثالًا على الديناميكيّات المترابطة للمقاوَمة والتضامن، والتي تضرب جذورًا عميقة في تاريخ مديد من النشاط العابر للجغرافيا المحلّيّة والمتجسّد في الحركات المناهِضة للاستعمار، والداعية إلى إلغاء العبوديّة، وتلك المناهِضة للرأسماليّة، وهي تخاطب الحقيقة الكامنة من خلف الشعار الشعبيّ الرائج الذي يرفعه الطلبة المحتجّون على نحوٍ متواتر: "لا أحد منّا حُرٌّ إلى أن نصبح جميعنا أحرارًا".
[استُلهم هذا النص من مدوّنة ساهمت في إعدادها الكاتبة رفقة طلاب آخرين ومجموعات طلابية أخرى، ونُشرت بالإنجليزية على الموقع الإلكتروني لمشروع القانون والاقتصاد السياسي (LPE)].
[ساهم في ترجمة النص من الانجليزية للعربية المترجم جلال حسن].