[لقراءة الجزء الثاني اضغط هنا].
مع اقتراب صدور الجزء المكمّل للعبة "Elden Ring، خاتم الأقدمين"، أردت أن أستغل هذه الفرصة لإمعان النظر فيها، وفي سائر التحف الفنية التي أصدرتها شركة "FromSoftware". ستتناول هذه المقالة خاتم الأقدمين، بالإضافة إلى ثلاثية "Dark Souls" (الأرواح المظلمة)، ولعبة "Sekiro: Shadows Die Twice"، وذلك لاستخلاص بعض الأفكار السائرة في عروق الألعاب، والحكم المرتبطة بواقعنا المظلم، بالإضافة إلى الإضاءة على أهم ما جاء فيها من حيث القصة وجماليات التصميم وآلية اللعب؛ مثل الصعوبة وصقل التجربة ومركزية الموت بدلاً من تجاهله.
مقدمة
تعدّ الألعاب المذكورة أعلاه أشهر من نار على علم في مجتمع اللاعبين، ونالت كل منها أرقى الجوائز في عالم الألعاب، فقد حصل الجزء الثالث من الأرواح المظلمة على جائزة ذروة الألعاب سنة إصدارها (2016)، كما نالت لعبة سيكيرو جائزة أفضل لعبة سنة إصدارها (2019)، وترشحت كلتاهما للعديد من الجوائز. أما خاتم الأقدمين، فقد حطمت الرقم القياسي بعدد الجوائز التي نالتها، وحققت هذه الألعاب معاً أرباحاً تحلم بها كل شركات الألعاب. دفعت قصص هذه الألعاب العديد من المعجبين إلى الانهماك على دراستها، ووصلت ببعضهم حد نشر كتبٍ عنها. يمكنك مشاهدة عشرات الساعات على موقع يوتيوب تتحدث عن شخصية بعينها أو نظريات مختلفة حولها.
يأتي ذلك كله رغم أن الألعاب لا تقدّم لك القصة على طبق من ذهب، أو ربما بسبب ذلك، فألعاب شركة فروم سوفتوير تخفي القصة في أوصاف وتصميم للأدوات والأسلحة التي يمكنك استخدامها دون الحاجة لمعرفة أي شيء عنها. وتدأب على التمدد بجذور الحبكة وإعطاء اللاعب تجربة تغطي أزماناً وقروناً قبل أو بعد الأحداث الحالية للعبة، ففي لعبة خاتم الأقدمين استعانت الشركة بالكاتب جورج أر أر مارتن ليكتب تاريخاً متخيلاً يسبق أحداث اللعبة بخمس آلاف سنة، ثم بنوا أحداث اللعبة على تلك الأرضية الصلبة والمعقدة.
بالطبع، تتفاوت الألعاب في درجات إفصاحها إن صح التعبير. لعبة سيكيرو على سبيل المثال تُفصح عن المزيد من المعلومات بسبب صغر عالمها نسبياً ودرجة الأنسنة المرتفعة للشخصيات الثانوية فيها، بينما يتفوّق عالم الأرواح المظلمة على البقية بغموضه، حيث تقابل فيه شخصيات ثانوية أقل بشرية، بينما تأتي لعبة خاتم الأقدمين في الحد الفاصل بينهما. تعدّ هذه الخاصية ميزة تتفوّق فيها هذه الألعاب على غيرها، فهي أقرب إلى منجم ذهب وعليك أن تعمل جاهداً كي تستخرج أثمن ما فيه. المجهود في التنجيم ليس فردياً وإنما يتعاون فيه مجتمع المعجبين باللعبة. وفي هذا الإطار، يمكن فهم هذه المقالة بأنها محاولة للفت أنظار القرّاء واللاعبين العرب إلى هذا المنجم. لذا، هذه المقالة ليست مراجعة بالمعنى التقليدي للكلمة، وإنما دراسة لغيضٍ من فيض محتوى هذه الألعاب الرقمية بصفتها تحفاً فنية[1]. تميّزت هذه الألعاب إلى حد أنها خلقت نوعاً كاملاً، يشمل أسلوب التصميم واللعب، وصارت ألعاب أخرى تقلدها وتوُصَف بأنها شبيهة بألعاب الأرواح (Soulslike). الترجمة الحرفية لهذه الفئة هي ألعاب شبيهة بالأرواح وهي الترجمة التي سأعتمدها في المقالة.
الصعب الممتنع
"وما هي الشجاعة دون مسحة من التهّور" - غاوف عين الصقر.
تسمح معظم الألعاب للمستخدم اختيار مستوى الصعوبة، إذ يتاح لك عادة ثلاثة مستويات، منها السهل كي تستمتع بالقصة دون عناء، إلى المتوسط الذي يعطيك تجربة متوازنة، وأخيراً الصعب كي تتحدى نفسك أو تتبجح بقدراتك. جرت العادة بتسمية هذه المستويات بأسماء مختلفة بدلاً من تلك الأوصاف المباشرة. مثلاً، تقدّم لعبة "Max Payne" مستوى صعوبة أسمته "ميت أصلاً" بدلاً من أن تسميه المستوى الصعب. بعض الألعاب تحتوي على المزيد من مستويات الصعوبة وتتيحها لك بعد أن تجتاز مراحل معينة، مثل لعبة "Devil May Cry" التي تقدّم سبع مستويات في أصعبها "الجحيم أو الجحيم"، حيث تموت الشخصية من ضربة واحدة.
ومع ذلك، لو سألت عن أصعب الألعاب على الإطلاق فإن أغلب اللاعبين المخضرمين سيشيرون إلى ألعاب شركة فروم سوفتوير. ما يميزها ليس عدد مستويات الصعوبة، فهي لا تتيح لك مستويات صعوبة مختلفة بتاتاً، المستوى الوحيد هو أصعب مستوى إن صح التعبير، صعوبةٌ دفعت صحفيي الألعاب لاقتراح إضافة المستوى السهل للعبة سيكيرو، لكن هذا الاقتراح قوبل بالازدراء والتهكّم من مجتمع المعجبين بألعاب الشركة، وكان الردّ الساخر بمثابة أنك لو شكوتَ من صعوبة اللعبة فذلك لرداءة أدائك، لا في صعوبة اللعبة.
تختلف الآراء حول ما يجعل الألعاب المذكورة صعبة. من تجربتي، وجدت أن الصعوبة تكمن في جانبين من آلية اللعب. في معظم الألعاب، نواجه طيفاً متنوعاً من الأعداء، أغلبهم بسيطون نسبةً لدرجة تقدّمك في اللعبة. وفي نهاية كل مرحلة تواجه أصعب عدو أو ما يعرف بالوحش[2] عادة، ومن الطبيعي أن يأخذ معك تحدي هذا الوحش وقتاً يفوق مواجهات الأعداء البسيطين، أما الألعاب هذه تختلف عن سواها لأنها تستهلّ بوحش صعب، وعندما تعود لمواجهة البسطاء تكتشف أنك مهما تقدّمت فهم سيشكّلون عقبة لك في أي لحظة تستخفّ فيها بهم. لا تكمن الصعوبة في قتلهم بقدر ما هي صعوبة في الدفاع عن نفسك، لأن أسخف عدو في اللعبة قد يدفعك عن حافة لتسقط من علوٍ شاهق، أو يباغتك بضربة إن لم تتقن توقيت ضرباتك مما يفسح المجال لتكالبهم عليك دون أن تقدر على الرد أو الصد.
مواقع الأعداء أيضاً تضيف إلى صعوبة المواجهة، ففي لعبة الأرواح المظلمة عليك أن تواجه سيد الموت نيتو، ولكن إن لم تهزمه من المرة الأولى ستضطر إلى قطع طريق مليئة بأعداء بسطاء إذا لم تتخلص منهم قبل مواجهته بطريقة مناسبة سيشكّلون ضغطاً إضافياً ولو قليلاً مما يصعّب المواجهة معه، وقد يحيط الوحوش الأقل صعوبة مجموعة من الأعداء السهلين مثل ما يحدث في لعبة سيكيرو حين تواجه وحشاً يرافقه بعض القرود، وقد يبدو التخلص منهم سهلاً لكن ذلك يستحضر الجانب الثاني من صعوبة الألعاب، ألا وهو قلة الإرشادات.
تقذفك الألعاب في عوالمٍ متوحشة وكئيبة، وشحّ المعلومات يشمل آلية اللعب والأدوات ولا يقتصر على شح في توضيح تفاصيل القصة، لذلك منحنى التعلم في هذه العوالم شديد الانحدار. قد تقطع مسافة طويلة دون أن تدرك الفائدة التي قد تحصل عليها لو استخدمت سلاحاً معيناً أو طوّرته باستخدام معدن معين، في كل لعبة منها اكتشفتُ أموراً بعدما ختمتها وتابعت مقاطع اليوتيوب لفهم القصة، الأمر أشبه بفهم مقرّر جامعي بعد الامتحان النهائي. هناك الكثير من المساعدات التي تفيدك، لكنّ اكتشاف فوائدها لا يحصل بتلقائية كما هو الحال في معظم الألعاب، قد تكتشف بالصدفة أو تضطر بعد فقدان الأمل للبحث عن الحل وتستقي المعلومة من اللاعبين الآخرين، وفي بعض الأحيان لا يكفي كل هذا.
هذان الجانبان قد يتعرض لهما أي لاعب، أما أنا شخصياً فقد واجهت صعوبةً ثالثة جنيتُ فيها على نفسي دون علم. بما أن هذه الألعاب مضرب مثل بالصعوبة، ظننتُ أن التجربة لا بد وأن تكون شاقة، وعندما واجهت الصعوبات التي بدت مستحيلة ظننت أن المشكلة في أدائي الذي لم يتحسن، ثم بعد فقدان الأمل اكتشفت أنني تسرعت ودخلت في منطقة لا يجب عليّ دخولها، وأن الصعوبة المفرطة هي بحد ذاتها إرشاد خفيّ من مصممي اللعبة ودليل لأخذ طريق مختلف. سائر الألعاب مصممة كي ترشدك إلى الخط المرسوم حتى لو كان عالمها واسعاً، أو تخبرك مباشرة بالمهمة التالية والطريق المباشر إليها، كما هو الحال في "Dead Space"، وبعضها يضع علامة محددة، مثل لعبة "The Witcher"، لو واجهت عدواً يفوق قدراتك إلى حد كبير تُعلمك فيها بأنّ "الهروب ثلثي المراجل".
عندما وصلتُ إلى قتال مالينيا في لعبة خاتم الأقدمين، وهي وحش يعدّ قتاله من أصعب النزالات في لعبة كل نزالاتها صعبة، كنت أعلم مسبقاً أنه ليس تحدياً بسيطاً، وقضيت ساعات في المواجهة قبل اكتشافي أنّ درجة الصعوبة لامست المستحيل، لذلك عدت أدراجي وأعدت النظر في عدّتي، ولاحظت أنني لم أستخدم الطلاسم المناسبة ولم أطوّر أسلحتي بما فيه الكفاية، كما أنني كنت أكرر نفس تكتيك القتال، ظناً بأن الحل هو إتقانه، قبل أن أدرك أن الأصحّ هو تبديله. المواجهة مع مالينيا تأتي متأخرة في اللعبة، ومعها تبيّن لي أن درجة الصعوبة في المراحل السابقة أيضاً كانت أكثر من اللازم، لأنني افترضت أنها لعبة صعبة تتطلب الصبر والتركيز، دون مبالغة أقول إنني تعلّمت اللعبة حقاً فقط لمواجهتها، أما قبل ذلك فقد اعتمدت التكرار الأعمى وصبر أيوب. قياساً على ذلك، يذهب البعض ليزعم أن مستوى الصعوبة في هذه الألعاب اختيار شخصي، يمكنك التحكم به عبر الاستعانة بالأدوات والمعرفة الجمعية وحتى بشخصيات ثانوية تساعدك في بعض المواجهات.
قد يتساءل البعض عن المتعة من لعبة بهذه الصعوبة، تكمن الإجابة في منظورك للألعاب كأنها مجموعة من التحديات بدلاً من وسيلة للترفيه، ومع أنني أشعر بشيء من المكافأة عندما أجتاز الكثير من الألعاب، لكنه إحساس نتج من التجربة بأكملها والاطلاع على نهاية القصص فيها، مثل شعور التنفيس الذي زعم أرسطو أنه هدف التراجيديا، لكن الألعاب الشبيهة بالأرواح تعطيك شعوراً مميزاً من المكافأة عندما تهزم كل وحشٍ صعب وكأنك اجتزت امتحاناً صعباً.
بعد قراءة ما سبق، أو ربما لمعرفتك المسبقة بصعوبة اللعبة، قد تتعجب من معلومة أخرى عن هذه الألعاب المشهورة بصعوبتها، وهي أن بعض اللاعبين قد أخذوا على عاتقهم اجتياز التحدي بجعلها أصعب وأصعب عن قصد، لا عن جهالة! وذلك بإضافة شروط قاسية على أسلوب لعبهم داخلياً أو خارجياً. داخلياً، هناك بعض التعديلات التي تحوّل كل الأعداء في اللعبة إلى أخطر الأعداء، أو تجعل مواقع الأعداء عشوائية جداً مما يفقدها التكافؤ بين طبيعة الأعداء والمستوى الذي وصلته من القدرات، أما دون التعديل قد يتحدى البعض أنفسهم بوضع شروط على أسلوب اللعب، مثل الامتناع عن استخدام الأدوات والترقيات التي تزيد من قوة الشخصية أو حتى من معالجة الجروح، أو بما يُعرف بتجربة عدم الموت التي تحتّم على اللاعب ختم اللعبة دون أن يموت ولا مرة. شخصياً، اشترطت على نفسي عدم الاستعانة بشخصيات ثانوية في لعبتَي الأرواح المظلمة وخاتم الأقدمين، كما حاولت الزهد في استخدام الأدوات في لعبة سيكيرو لكي أستمتع برقصة السيوف. بينما يُقبل بعض اللاعبين على زيادة الصعوبة خارجياً، باستخدام آلات لعب غير تقليدية مثل لوحات الرقص، وعلى قمة التجربة هناك من يجمع بين الشروط الداخلية والخارجية، مثل اللاعبة ميكا التي جمعت شرط عدم الموت أبداً مع اللعب على لوحة الرقص. إن لم تلعب أياً من هذه الألعاب قد يبدو لك الأمر بسيطاً، لتقريب الصورة يمكنك أن تفكر بسهولة الركض ثم تقارنها بصعوبة الفوز بميدالية ذهبية في الأولمبياد.
الحكمة الأولى من هذه الألعاب تتمثل في طبيعة الصعوبة المتصوّرة لأي مهمة تحاول إتمامها، فهي قد تبدو لك مستحيلة لكنها ممكنة موضوعياً، إذ إن معظم المهمات في عالمنا سبقنا إليها وتخطّاها الملايين والملايين، وهذا قد لا يعني أنها مهمة سهلة أو أن النجاح حتمي، لكنه ممكن. حتى لو تعرضت لتوليفة مميزة من الظروف القاهرة فأنت لست مكلفاً بما هو فوق وسعك، الاستعانة بالأصدقاء المخلصين والحلفاء قد يمكنك من تحقيق الهدف، وكذلك تخدمك سعة المعرفة والاطلاع على التجارب السابقة واختيار الأسلحة المناسبة المخصصة لكل عدو. وهذا الكلام دون التقليل من صعوبة المهمات، وهو ليس درس تنمية بشرية، الألعاب الشبيهة بالأرواح تؤكد على عدم الاستهانة بأسخف الأعداء، ومن تجربتي معها أدركت أن الصعوبة قد تكون بسبب التوقعات أكثر مما هي بسبب الوقائع.
الطَرقُ حتى الكمال
"ما حاجتي للحرية الآن؟ عشت وسأموت وأنا أطرق الحديد كي أصنع سلاحاً يقتل رباً"[3] - الحدّاد هيوغ، بعد انكسار قيوده.
هناك عدة شخصيات يتكرر ظهورها في عالمي الأرواح المظلمة وخاتم الأقدمين، منها شخصية بعينها مثل المخادع باتشس الذي يقنعك بالنظر فوق سفح جبل كي يركلك منه، وشخصيات الحدّادين، ففي الجزء الأول من الأرواح المظلمة تجد أربعة حدادين وهم: فاموس، وريكرت الحداد العملاق، وأندريه الأستوري الذي يحضر أيضاً في الجزء الثالث، في الجزء الثاني هناك لينغراست وماكدف، وفي خاتم الأقدمين هناك إيجي المستشار الحربي، وهيوغ الذي أُسِر وأُمِرَ بصناعة سلاحٍ قادر على قتل أحد الأرباب في عالمهم، إما لأنه قطع عهداً أو لأنه حُكِم بالأعمال الشاقة، أو لمزيج بينهما.
نجد هيوغ منذ اللقاء الأول وحتى اللحظات الأخيرة يطرق الحديد دون توقف، أخيراً تجري الأحداث لتريحه من قيوده وتحرق المبنى من حوله لكنه لا يبرح مكانه؛ المهمة التي أوكلته إليها الملكة ماريكا بصناعة السيف القادر على قتل الأرباب صارت مهمته الشخصية، وهو مستعد ليفني ما تبقى من عمره من أجل صناعة السيف الكامل، ونجده يكمل مهمته حتى بعد فقدان الذاكرة، وكأن الحدادة صارت في صميم وجدانه.
المميز في جميع الحدادين أنهم يقضون معظم وقتهم بطرق الأسلحة عندما تزورهم، لا تراهم يصبون الحديد المصهور أو يحركون الأدوات، أغلب الظن أن ذلك لدواعي برمجية، إلا أن هذا لا يمنعنا من أخذ عبرة رمزية تشير إلى خاصية أعمق في سلسلة الألعاب هذه. تلك الخاصية هي الاستمرار في صقل الأداة حتى تصل الكمال، ويمكننا قراءة ذلك من خارج اللعبة ومن داخلها بالتدقيق على شخصية الحداد المتكررة. عندما صدرت لعبة خاتم الأقدمين فاقت مبيعاتها في الأسابيع الأولى عشرة مليون نسخة، قارنها بالأرباح من أول الألعاب في السلسلة والتي سبقت لعبة الأرواح المظلمة، وهي لعبة "Demon’s Souls" (أرواح الشياطين) التي لم تصل إلى مليون نسخة وكادت أن تفشل في بادئ الأمر، حتى عندما أعادوا تصميمها وأصدرت للمرة الثانية بعد النجاح الباهر لسائر الألعاب، لم تقترب من مبيعات خاتم الأقدمين.
يصعب حصر أسباب نجاح الألعاب المذكورة، وخصوصاً خاتم الأقدمين، حتى أن هذه المقالة بجزئيها لن تشمل كل التفاصيل، لكن لو أردتُ اختزال الأسباب في جملة واحدة ربما ستكون الجرأة في التصميم.
نستطيع أن نتأمل بطبيعة النجاح الذي لم يخفت بسبب الصعوبة أو تكرار التصميم، وهنا تكمن الجرأة. ما أعنيه هو أن تستمر بالطرق حتى تصل إلى الكمال. خاتم الأقدمين لا تختلف كثيراً عن الأرواح المظلمة، وهي أيضاً لا تختلف كثيراً عن أرواح الشياطين، ومع أن سيكيرو تبتعد قليلاً عنهم إلا أنها أيضاً تتقاسم معهم الكثير من الخصائص، وكذلك ألعاب الشركة التي لا تتناولها المقالة مثل "BloodBorne" ( بلود بورن). أوجه التشابه لا تحصى و سأكتفي بذكر بعضها؛ كل الألعاب تعتمد نظام حفظ واحد، وهي حفظ اللعبة عند نقاط معينة والبعث عندها بعد الموت، كما أنها تقدم وحوشاً يصعب قتالهم، وتصميماً جغرافياً مبهراً من الناحية الهندسية والجمالية. كل الألعاب تبعثر قصتها بين تفاصيل الأسلحة وتصميم الدروع والحوارات المقتضبة للشخصيات، وتقدم تجربة تكافئ اللاعب على التنجيم بدلاً من أن تعرض الذهب عليه وتتفاخر بما تتضمنه من عبقرية. كما تتقارب القصص والأفكار الرئيسية وتكوين الشخصيات كما سنوضح أكثر في الجزء الثاني من المقالة.
وعندما نحصر الكلام بألعاب الأرواح، مثل الأرواح المظلمة وخاتم الأقدمين، نجد المزيد من التشابهات، مثل شخصيات مكتئبة نقابلها عند نقطة الحفظ الأولى تقريباً وشخصية الحداد وشخصية المساعدة الأنثى التي تشبه قديسة تكرس حياتها كي نصل إلى هدفنا، وكذلك لا يفوتنا التشابه في تصميمات الفروسية الغربية والحلة الفانتازية التي يُقال أنها استهوت مخرج الألعاب هيديتاكا ميازاكي في طفولته، حينها كان يستعير الروايات الإنجليزية ويقرأها على الرغم من ضعف قاموسه الإنجليزي، ضعفٌ أجَبره على تخيّل التفاصيل التي لم يستوعبها.
بالتأكيد، لا تتساوى التجربة في كل الألعاب المذكورة، ولكل لاعب جرّبها جزءٌ مفضل لأسبابه الخاصة. عندما لعبتُ الجزء الأول من الأرواح المظلمة ظننت أنها قديمة جداً بسبب رداءة بعض التفاصيل في تصميمها، كما ساءني ثقل الحركة، ولا أعني هنا ثقل الشخصية فأنت تقدر على تخفيف الحمل أو حتى ختم اللعبة وأنت شبه عارٍ، ما أعنيه هو أن أسلحة الأعداء بدت وكأنها تصيبك حتى مع وجود فراغ تراه بينها وبينك[4]، أما القتال في سيكيرو تجربة أصفها بالأنيقة، في الكثير من النزالات كنت أرى حافة النصل تمر بجانب جسد سيكيرو أو جسد العدو دون إصابة، هذا التفصيل ليس جمالياً فقط، وإنما إنصاف بحق الشخصيات وقدرتهم على تفادي الضربات وتوجيهها.
كل هذا يصب في امتلاك الجرأة عند التصميم، بدلاً من السعي وراء التجديد والتجريب يمكنك التركيز على وصفة معينة وأن تعمل عليها حتى تتقنها وتصبح قدوة في صنعتك، أو مثل هيوغ، تكرّس حياتك من أجل هدفٍ عظيم وتخلص من أجله مهما تقلبت الأحوال من حولك. أن تكرّس حياتك لهدفٍ تسعى لتحقيقه بكامل وجدانك حتى لو نسيته، وأن تؤمن باستمرارية الجدوى في ضرب المطرقة على السندان.
الإصرار في وجه الموت
"لا تنسَ يا سيكيرو، إن تتردد تخسر، هذا ديدن الحرب" - إشّين، وليّ السيف
تتطلب الأعمال الفنية بالعادة درجة من تعليق عدم التصديق، والألعاب الرقمية بصفتها أعمالاً فنية ليست استثناءًا، حيث تحتم طبيعة التحدي في الألعاب موت الشخصية التي يتقمصها اللاعب مراراً. ولتقبّل استمرارية القصة يجب على اللاعب تجاهل حقيقة أن الشخصية ماتت وأعادت الكرة. هذه الآلية مطلوبة أيضاً للحفاظ على متعة التجربة، فلو اضطر اللاعب للبدء من الصفر في كل مرة لصار التكرار أشبه بما نفعله في وظائفنا الروتينية، ولكن الألعاب هي ما نلجأ إليه للهروب من رتابة الوظائف الجبرية. ومع ذلك، الحاجة لعدم التصديق بموت الشخصية ليست إجبارية كلياً، فبعض الألعاب تنسج بابتكارٍ في سردها أفكاراً تسهّل التصديق.
أحد الأمثلة على لعبة تمكنك من الحفاظ على المتعة دون خسارة هي لعبة "iZombie"، حيث تلعب فيها دور شخصية ناجٍ في لندن بعد تفشي وباء "الزومبي"، والموت هنا نهائي كما هو في عالمنا، وتتغلب اللعبة على تصديق عودته إلى الحياة بمحوها كلياً، لأن اللاعب يستمر عبر تقمص شخصية ناجٍ آخر يمكنه الوصول إلى جثة اللاعب السابقة، وإكمال المرحلة التي وصلتها. المثال الآخر هو في لعبة "Hunt: Showdown" والتي تتيح لنا لعب دور صياد جوائز في لويزيانا بعد إصابتها بلعنةٍ ما حوّلت سكانها إلى مسوخٍ متوحشة، مقتل الصياد أو فشله في النجاة أثناء الوقت المحدد للمرحلة يعني في معظم الأوقات موته كلياً وخسارتك لعدّته، وللاستمرار باللعب عليك اختيار صياد آخر، طبيعة المهمة تجعل الخسارة هذه محدودة لأن التقدم في اللعبة ليس على خط طويل من المراحل وإنما في تكرار الصيد. المشكلة في هذا التخطي لحقيقة الموت هو فقدان تلك الصلة المميزة بالشخصية، وكأنما تحاول حماية نفسك من شعور الفقد، ولذلك لا تسمح لنفسك بالاتصال الحقيقي مع الناجي أو الصياد كما هو الحال في معظم الألعاب وشخصياتها ذات الوزن المعنوي.
هناك ألعاب مثل "Katana Zero" تتيح لك تخطي فكرة الموت عبر سردها دون الحاجة لوضع حاجز نفسي بينك وبين الشخصية، ففي عالم اللعبة عقار تتعاطاه وحدة خاصة من الجنود تسمح لهم بتخطيط هجماتهم بواقعية قبل تنفيذها، مما يعني أن كل مرة تموت الشخصية فيها فهي قد ماتت في مخيلتها أما في الواقع فهي تتقدم بعد أن تجد التكتيك الأنسب لإتمام المهمة، هذه الميزة للعقار تأتي مع سلبيات مؤثرة على نفسية الشخصية وتلعب دوراً مركزياً في القصة، وبذلك تتمكن اللعبة من جعل الموت متخيلاً حتى في اللعبة.
المثال الآخر هو موضوع المقالة وهو في الألعاب الثلاثة، أولاً لعبة الأرواح المظلمة تسمح لنا بلعب دور شخصية تعود من الموت، نحن نلعب بما يعرف في الأساطير بالكائن غير الميت، وأن ما وقع هو لعنة تجعل المرء يبعث بعد الموت مرة تلو المرة. قد يبدو ذلك مغرياً لو عددناه خلوداً لكنّ ألعاب الشركة هذه تتميز بقلبها للرمزيات المعهودة. البعث المتكرر في عالم الأرواح المظلمة لا يساوي حيوات سعيدة، وإنما يزحزح المرء إلى حالة من التجويف الروحي. بالتدريج، يفقد المرء هويته البشرية عبر خسارة ذكرياته وإرادته وينتهي به المطاف مسخاً مجوفاً، دون أن يموت. هذه الكائنات المجوفة روحياً تمثل نسبة عالية من الأعداء في بداية اللعبة، كما تشكل هاجساً عند الشخصيات غير الميتة التي لم تتجوّف بعد. تختلف نظريات اللاعبين حول ما يكمل حالة التجويف، أهو الموت المتكرر أم فقدان الأمل أم عدم السعي وراء هدف أو شغف، ولكنها حتماً حالة يحاول الجميع تفاديها.
أما في لعبة سيكيرو يأخذ الخلود دوراً مركزياً في الحبكة، حيث نلعب دور الحارس والخادم للسيد كورو، صبي صغير يعرف بلقب الوريث المقدس، وذلك لأنه يحمل في دمه نعمة الخلود، نعمة يغبطه ويحسده عليها العديد من حوله ويتآمرون عليه لتحصيلها أو محاكاتها. يوهبك تلك النعمة بعد أن تدافع عنه في ليلة حيكت فيها مؤامرة ضده وقعت قبل ثلاث سنوات من بدء أحداث اللعبة، وعندما تموت للمرة الأولى تكتشف أنك قادرٌ على أن تعود للحياة مرة أو مرات.
وأخيراً في خاتم الأقدمين يأتي التفسير مختلفاً، في هذه اللعبة كيانات خارقة من خارج العالم تتحكم بأحداثه عبر رسلٍ وعملاء، من أقوى الكيانات هي "الإرادة الأعظم" والتي تبعث وحش الأقدمين وتختار ماريكا لتحكم وتصير مثل وعاء لتلك الإرادة وبذلك تصبح ملكة تمتلك السلطة على قوى طبيعية مثل قوة الموت، وتنتشر عبادتها بين الناس كما تطل عليهم شجرة عملاقة اسمها شجرة الإرد. تقتلع ماريكا قوة الموت من سائر القوى كي تنعم هي وعائلتها بالخلود، وتتزوج غودفري المحارب الشجاع الذي انتصر في عدة حروب لبسط إرادتها وصار أول سيدٍ للأقدمين، بعد انتصاراته المتوالية والقضاء على آخر عدوٍ ذي قيمة خفت البريق في عينيه، مما دفعها لنفيه هو ورجاله، ويلقب كل من فقد البركة من شجرة الإرد بلقب "الملطخ" (Tarnished) وهو لقب يورث لذريتهم أيضاً. عند نفيهم توصيهم ماريكا بشن حربٍ في أرضٍ بعيدة وتعدهم بأنهم عندما يموتون سوف يعودون إلى مملكتها لشن حربٍ غايتها الحصول على خاتم الأقدمين. هذا التفصيل لا يأخذ دوراً مركزياً في الحبكة كما الخلود أو حالة اللاموت في اللعبتين السابقتين، إلا أنه يعطي تبريراً سردياً لتعطيل أبدية الموت في عالم اللعبة.
الإصرار في وجه الموت يحمل معنيين في عوالم الألعاب هذه بأدنى تقدير، المعنى الأول والواضح مما سبق هو ضرورة تحمّل الخسارة تلو الخسارة قبل النصر وأن الخسارة المتكررة مجبولة بطبيعة اللعبة، وقد يكون هذا السبب الرئيسي لنفور بعض اللاعبين منها فهم لا يتقبلون الموت المتكرر ومرارة الخسارة، الإصرار في وجه الهزيمة ورفض التجوّف الروحي هو ما يميز شخصية اللاعب عن عدة شخصيات ثانوية.
هذا ينقلنا إلى المعنى الثاني وهو أكثر كآبة، ففي معظم الألعاب هذه، هناك شخصيات ثانوية لها تاريخها ودوافعها ومهماتها التي تتقاطع مع مهمتنا الرئيسية، ولنا الحرية بمساعدتهم في إتمام مهامهم التي قد تتعارض مع مهام شخصيات ثانية. لكن معظم المهام الثانوية تنتهي بموت الشخصية، إما لأنها تختار ذلك لنفسها، مثل هانبي الذي أصيب بلعنة الخلود المزيف، وهو في الحقيقة عبارة عن دودة أم أربعة وأربعين ضخمة تتطفل على جسم المضيف وتمنعه من الموت، عندما نحصل على سيف الخلود القادر على بتر هذه الدودة يطلب هانبي إعداماً يُخلِّصه من تلك اللعنة. هناك شخصيات تختار قتالنا بعد أن يتبدى لها أو لنا شيء ما، مثل إدغار في خاتم الأقدمين الذي يخسر ابنته بعد أن التزم بواجبه الفروسي بدلاً من حمايتها مما يرسله في رحلة انتقام تفقده عقله وتجعله يهاجمنا، وبالطبع لا يمكن إكمال اللعبة لو سمحنا له بهزيمتنا.
ما يثقلنا أكثر هو أن العوالم في هذه الألعاب تخلو من الاكتظاظ المعهود في ألعاب مشابهة، ففي سائر ألعاب الأكشن والمغامرات أو تقمص الأدوار تجد مدناً أو قرى حيوية وفيها العديد من الكائنات التي يمكنك التعامل معها، أما في عوالم هذه الألعاب يمكنك عد الشخصيات التي يمكننا التحدث معها والتي لا تنقض علينا مباشرة لتفتك بنا على الأصابع. العالم في أوجِهِ مات مدة طويلة قبل أن تبدأ رحلتنا فيه، لذلك لو استثمرتَ وقتك في كل لعبة منها قد تجد نفسك متعلقاً بإحدى هذه الشخصيات والعديد منها يعيش ويموت عبرة أو بمعضلة. بهذين المعنيين إذاً تحتّم عليك اللعبة تقبّل الموت والإصرار على التقدم رغماً عن أنفه، سواء كان موتك أو موت من حولك، لتحقيق غاية أسمى.
الهوامش:
[1]: أصدرت الشركة ألعاباً أخرى مثل "Armored Core" ولكن المقالة لن تتطرق لها.
[2]: الكلمة في الانجليزية هي "Boss" وقد تترجم إلى زعيم أو وحش، الوحش هو الأنسب عندما نأخذ بعين الاعتبار خطورته وشرّه النسبي، لكن يجب التنبّه إلى أنها لا تعني بالضرورة طبيعة حيوانية أو غرائبية، فهناك الكثير من "الوحوش" البشر.
[3]: كلمة الرب في الألعاب تشير إلى كائنات خارقة لكنها أقرب إلى وصف رب المنزل منها إلى وصف رب العالمين، فهذه الكائنات لا تخلق من العدم ولا تتعامل بحكمة وعدل مطلق مع العباد كما هو التصور الإسلامي لله عز وجل.
[4]: عند تصميم الألعاب يتشكل حول الشخصية مساحة تعرّف إمكانية الإصابة ومداها، هذه المساحة اسمها "مساحة الضربة".