سِر في شارع أية قرية من سنجار، والقِ نظرةً حولك، سترى مقبرة جماعية أنّى أدرت عينك، حتّى نحو السماء! هناك توجد مقبرة جماعية، حيث تحرس الملائكة الغيوم التي عُلِقَت بها عيون الضحايا، تحرسها من سقوط أحلامها على أرض المقابر الجماعية.
سَلْ واحدة من الجثث المرمية على الطرق، أو في وديانٍ أو حفرٍ، حيث عائلات كاملة صارت وجبة للكلاب، والسيدة موت، سلها إنْ نجى أحد؟ وإن كانوا أحياءً، هل نجوا؟ الصمت سيتسيّد العالم.
ارفع رأسك نحو السُحب السوداء، التي أمطرت حروباً عبر التاريخ، سلها إنْ أمر الله حقاً أن يُدفن الناس في مقابر جماعية لأن طريقتهم في العيش لا تُرضي جماعة أخرى؟ وعليهم أن يغيّروهم بأيديهم أو بألسنتهم أو بأسلحتهم وأعضائهم الذكرية التي تولج غصبًا فتيات صغيرات.
اقرأ ما كُتب على جدران المنازل في سنجار، إنْ بقى جدارٌ قائماً فيها، لم تدمره الحرب والأمطار. اقرأ ما كُتب على الجدار، إنّه يطالب بحق المواطنين في العيش، لا يطلبون المساعدة، بل يسعون لما وراء هذا الألم، ألم ألّا تُعامل كإنسان. ألم سَلْبِك وطنًا حسبته بيتك، والتفضل عليك بخيمة على تخوم الجبال لترويض حيوانات ما هي سواك أنت وأهلك، بلف سياج حديدي حولكم، وتنظيمكم في طوابير لاستلام الطعام كقطيعٍ من الخرفان، لأنكم لستم منهم، لستم من أحزابهم المتحكمة والمتسلطة.
وإنْ رأيت أحداً في الشوارع، ابتسم في وجهه، نظرة لا تتزعزع ستظهر على وجهه، عشرات الكلمات الميتة ستقوم من عالم الأموات على شفاهه وتعثر على طريقة للبعث مرةً أخرى، كي تُقال وتُسمع.
ربما اعترفتَ أنّهم ليسوا أمواتاً، لكن حيواتهم سُلِبت. مَن سلبها؟ هذا هو السؤال، والإجابة الممكنة هي "الرقّة"، حيث بيعت نسائهم بأقل من 300$، ودرّبوا الطفل كيف يقتل على الطريقة الشرعية، كي يتحول إلى قاتلٍ يحلل لحم ضحاياه. ورجال اضطروا لمشاهدة زوجاتهم وأخواتهم وأمهاتهم يُغتصبن أمام أعينهم.
الأرض مقبرة جماعية، الصغار والكبار، الشبان والعجائز، النساء والرجال، كلهم يُعامَلون كأرقام، مجمل رغباتهم وأحلامهم ونواياهم أرقام، على الرغم من أنها أرقام غير مؤكدة، وغير رسمية. إذ ترفض الحكومة عمل الأمم المتحدة وإحصائها للضحايا. لا أحد يعرف ماذا حدث لضحايا المقابر الجماعية. سِر في شنكال، ربما باحت لك سحابة سوداء كيف شعرت الأمهات وهن يجمعن عظام ابنائهن من المقابر الجماعية التي تمّ الكشف عنها. كيف شعرت أولئك اللواتي لم يعثرن على عظام لدفنها في المقابر، فدفنّ ذكرى أبنائهن في قلوبهن.
كتبتُ إن الموت امرأة من شنكال، لكن الأقرب للحقيقة كتابة: الموت الذي يقتل نفسه فقط امرأة من شنكال.
أسمع النساء اللائي ثكلن أطفالهن يصرخن طالبات نجدة السماء، لكن صوت الحرب أعلى، صوت التكبير قبل الإعدام الجماعي أعلى. الله أكبر، الله أكبر.
الحكومة منهمكة ببناء عراق جديد، حيث لا موضع لنا فيه، حتّى في مخيمات المهجرين التي ستُغلق قريباً، لا مكان لنا. لا مكان لنا على هذه الأرض، ولا في السماء، ربما يتوجب علينا ترك أمهاتنا يدفننا في قلوبهن، حيث لا تبلغنا أيادي ورصاصات داعش.
الطريقة التي تتعامل بها الحكومات المتعاقبة منذ 2003 مع العراقيين، ومرحلة اللامبالاة التي بلغتها، أشبه براعٍ يسوق قطيع خرفانه نحو أسودٍ جائعة، لنيل رضا الأسود، عسى ألا تلتهم الراعي أيضاً، وتكتفي بالخرفان. لا يهم إن أدوا واجبهم الوطني، الذي انتخبهم الشعب من أجله، ما يهم في النهاية، أن تشبع الأسود.
داعش خلّف 200 مقبرة جماعية، تقول الأمم المتحدة أنها تحوي رفات 12 ألف عراقي، أغلب ضحايا المقابر الجماعية التي تم الكشف عنها حتّى الآن هم إيزيديين من سنجار. ويحتل العراق المرتبة الأولى عالمياً في عدد المفقودين. إذ ارتكب نظام صدام حسين مقابر جماعية في 98 موقعاً. وبعد عقدين من سقوط النظام، ما تزال 22 مقبرة لم تُفتح بعد.
التاريخ لا يكرِّر نفسه، لكن الجرائم تكرِّر نفسها، ومجرمو التاريخ يكررون أنفسهم. ففي الوقت الذي نحن فيه بأمس الحاجة للتعلم من الماضي، ومن جرائم أنظمته، تُرتكب الأخطاء ذاتها. تجربة نظام صدام الذي صنع الأسلحة الكيماوية، وتسبب بجرائم وحروب خطفت مئات الآلاف من العراقيين. تكررت التجربة ذاتها مع تنظيم داعش، إذ عمد التنظيم، بحسب الأمم المتحدة، إلى استخدام أسلحة كيميائية في الفترة ما بين 2014 و2017. ومن النتائج التي توصل لها فريق يونيتاد هو أن داعش طوّر ما لا يقل عن 8 مواد كيميائية استخدم ثلاثة منها على الأقل كأسلحة.
سِر في أي شارع من العراق أو "دربونة"، وقل للجثث في المقابر الجماعية، أنَّهم ليسوا وحدهم المتروكين، بل الأحياء، وعراقنا الذي في السماوات، كذلك على الأرض، لا فرق بين موتانا وأحياءنا، كل مَن ولد على هذه الأرض، وشرب من دجلة والفرات، وأكل من النخيل، سينال موتاً عراقياً، ويخلّف حزناً عراقياً لأهله، إن لم ينالوا موتًا عراقيًا في مقبرة جماعية. وبامتلاك هذا العدد الهائل من المفقودين، هناك أهالي المفقودين، وهناك النساء.
المرأة العراقية تحمل على كتفها الإله وأنبياءه وملائكته وقبور أهلها وأطفالها وقلبها المثقوب وتسير مطاردةً الحياة في مكانٍ بعيدٍ لا أحد يعرفه، وهي تصل منذ فجر العالم، كي تسقط هناك ويعيش الإله وملائكته وأنبيائه ويعود أهلها من موتهم، ويكبر أطفالها، ويبقى قلبها مثقوبًا. تنقذ العالم ويبقى قلبها مثقوبًا. تحرس أطفالها ويبقى قلبها مثقوبًا. تعيش في مخيم بعد حربٍ طاحنة ويبقى قلبها مثقوبًا. تلملم بقايا أطفالها من أمكنة التفجيرات ويبقى قلبها مثقوبًا. امرأة عراقية، ونساء عراقيات، ونساء عراقيات.
يصرخ أناس مطالبين بفتح مقبرة جماعية وتحديد ضحاياها في سنجار، علّهم يجدون في خبر موت أحد المفقودين من عائلاتهم صبرًا، على الأقل ماتوا، ونعرف أنّهم ماتوا. يرون العظام والثياب يغطيها التراب، لكنهم لا يعرفون عظام مَن هذه المتكومة هنا. يطالبون بفتح المقابر وتحديد ضحاياها، لعلَّ أمًا شنكالية تحمل عظام ابنها في كيسٍ وتهاجر نحو نهاية العالم. علّها تدفنه على أرضٍ أخرى، علّها تبكي عند قبره حتّى تموت هي أيضًا هناك. علّها تستوي قرب عظامه في قبرٍ تحفره بأصابعها العارية، وتنام محتضنةً جمجمته. تقبل جبينه وتغني له تهويدة كي ينسى ألم الرصاصة التي اخترقت جبينه. علّها تسد الثقب الذي أحدثته الرصاصة بقبلة تحمل ملوحة العراق كلها. علّ العظام تجاوبها، وتقول لها أن عراقنا الذي في السماوات بخير.
غافل الموت يا صديقي، وادخل مقبرةً جماعية، سِل جثة "أهو ذنبك أنّك يومًا ولدت بتلك البلاد\ ثلاثة أرباع قرنٍ وأنت تدفع من دمك النزر تلك الضريبة\ (أنك يوماً ولدت بتلك البلاد)."[1]
قبر الأمهات
النساء الإيزيديات اللواتي لا يصلحن لاتخاذهن كسجينات، الكبيرات في العمر، دُفنّ في مقابر سُميت بقبر الأمهات، وقد دُفن في هذه المقابر الأطفال والمراهقات والنساء التي حدد داعش أنهن تجاوزن سن الإنجاب. يقع قبر الأمهات في صولاغ-سنجار، شمال العراق.
دمّر داعش نحو 80 بالمئة من البنية التحتية العامة، ونحو 70 المئة من منازل المدنيين في سنجار والمناطق المحيطة بها. وقضى على الموارد الطبيعية التي شكّلت المصدر الرئيسي لحياة 85 بالمئة من سكان المنطقة الذين اعتمدوا على الزراعة. ربما لأنها كانت منازل كافرة، وفسّروا بآية من القرآن أفعالهم ضد المشركين، وممتلكاتهم ومنازلهم، وهو الاسم الذي أطلقه داعش على الإيزيديين. كما فسّر قتلهم وبيعهم واغتصاب النساء.
ستبقى المقابر الجماعية لأن اتفاقية سنجار لم تُطبق بعد. وستبقى الجثث لأن الأحياء لا يصلون إلى اتفاقٍ يحدد أحقية أية جهة لأستغلال الجثث. سيبقى التشرد لأن إعادة أعمار البيوت سيؤخر إعمار بيوت الساسة في أوروبا. سيبقى الجوع لأن الميليشيات تريد الحصة الكبرى من الخبز. ستبقى الحرب لأن السلام ما إن ينطق، سيُزج به في أقذر سجنٍ. سأبقى أكتب إلى أن تُعتقل الكلمة.
سينضم الأطفال إلى الجماعات المسلحة لإعالة أهلهم بـ300 دولار شهرياً مقابل حياتهم بأسلحة معطلة، سيقتلون بعضهم بعضاً لأن غرور قادة الجماعات المسلحة جُرحَ. سيخلو البلد من العِراقيين، ليحل محلهم تابعين لجماعات مسلحة، فسوق القتل مزدهر، وعلى أحد أن يعيل عائلته. الجوع يُجبر الناس على أكل الموت، على أكل حيوات غيرهم، الجوع يفتك بقلوبهم ويصلبها كمسيحٍ خيب أمله الوطن. يا أرضًا كتبت أول كلمة، أنّى للجهل أن يستفحل هكذا؟
قَلِّب وَجه النهار ترى ذئباً، افتح باب السماء ترى مقبرة جماعية موتاها من قرية شنگالية، على وجوههم تُراب الوطن الساقِط من صدر گلگامش وإنكيدو، وفي صدورِهم حِجارة من جبل شنگال، استبدلوها بالقلوب قبل أن يعدمهم داعش.
ارفع رأسك وعانِق الأفق مرّة أخيرة، لقد تقاسمت الميليشيات الأرض، ونام جنديٌ مراهِقٌ في حديقة بيتك، استوى بجانب كلاشينكوفته وببسطاره العسكري داس مواضع رأسك الصغيرة وأحلامك اليتيمة في حديقة بيتك في شنگال.
تنفس هواء المدينة مرةً أخرى يا صديقي، هواء مُثقل بصرخات بكارى الفتيات الصغيرات، قبل تصدير أجسادهن لسوق النخاسة في رقة، اغمض عينك واطبق جفنيك على صورة أبيك الشامخ، يا رقبةً التهمتها أفواه المتشبثين بكرسي الحكم في الخضراء، دافع عن وجودك في شنگال، لكن بِمَ تدافع يا صديقي؟ إن الأسلحة موزعة على فصائلهم، ولا دِفاع لك سوى حياتك المسلوبة منك في مخيمٍ بين سلسلة جبال.
هامش:
[1]: من قصيدة للشاعر العراقي سعدي يوسف بعنوان "حفيد امرئ القيس".