بعد قطيعة استمرت اثني عشر عاماً، تعود العلاقات السورية السعودية من بوابة فتح الحج وقبول طلبات السوريين لأداء فريضته، على أن تنطلق رحلات الحجاج من مطار دمشق الدولي إلى مطار جدة، في إجراء قد يبدو أنه لن يكون الأخير وسيمهد لإعادة فتح السفارة السعودية في العاصمة دمشق وتوطيد العلاقات بين البلدين.
وكانت لجنة إدارة مصرف سورية المركزي أصدرت التعليمات الخاصة بتسديد عوائد الخدمات المترتبة على أداء مناسك الحج للعام الحالي ممن حصلوا على موافقة وزارة الأوقاف. وتنص التعليمات على إلزام جميع الراغبين بالحج الذين وصل عددهم قرابة 17500 شخص ممن استوفوا شروط العمر، بالإيداع النقدي بالقطع الأجنبي في الحساب المحدد من قبل وزارة الأوقاف لهذه الغاية لدى بنك البركة سورية بكل فروعه.
كلفة الحج تعادل راتب الموظف لـ30 عاماً
تختزل الآية الكريمة "ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً" حال السوريين الراهنة إزاء تأدية مناسك الحج الذي بات حكراً على شريحة اقتصادية معينة وذلك بسبب نفقات رحلة الحج والتكاليف الباهظة. تقول السيدة الستينية التي كان يراودها حلم الحج منذ سنوات عديدة: "منذ اندلاع الحرب وأنا أتمنى زيارة مكة المكرمة، لم تسمح الأوضاع بسبب تعليق الحج، وعندما عادت الأمور إلى مجاريها أصبحت التكلفة باهظة جداً. الأغنياء فقط من يستطيعون دفع ما يفوق 100 مليون ليرة سورية، هذا رقم فلكي بالنسبة لأسرة سورية متوسطة الحال". تؤيدها بالرأي فاطمة (48 عاماً) التي تجد أن الحج للمقتدرين مادياً، فلم يعد بمقدور الفقير تأدية فرائض دينه في ظل هذه التكاليف المرتفعة، فالأولوية للطعام والشراب وحبوب الدواء ودفع إيجار المنزل، تختتم حديثها بالقول: "النية موجودة، لكن الاستطاعة عدم". أما جهاد (55 عاماً) فيرى أن التكلفة الخيالية للحج تعادل راتب الموظف السوري درجة أولى لمدة 30 عاماً، ما يعني أن الأمر مستحيل لأصحاب الدخل المحدود، ويضيف ساخراً: "صارت الكعبة رفاهية ففرضوا علينا جمركة، التضخم أثر على أركان الإسلام".
بدورها، ترى نورمان (26 عاماً) أن المبالغ الباهظة غير المنطقية التي وصلت ما بين (85 ـ 200) مليون ليرة سورية كتكلفة رسمية لتأدية فريضة الحج من الأفضل أن تدفع لبناء المدارس أو كفالة اليتامى وإطعام الفقراء الذين هم أولى بالمال وتجوز عليهم الرحمة. يوافقها بالرأي عمار الذي يعتقد أن التبرع بهذه الأموال الطائلة للشرائح الأكثر عوزاً أو القيام بعمليات جراحية للمحتاجين قد يكون أكبر أجراً وإحساناً، بينما يجد الشاب الثلاثيني رامي أن يستثمر هذا المبلغ في مشروع شخصي له أو السفر به إلى أوروبا.
أصحاب الجيبة العامرة وحدهم من يحجون
في الوقت الذي يكابد فيه السوريون لتأمين لقمة العيش يومياً ويصارعون للبقاء في ظل تكاليف الحياة الباهظة، غير أن البعض منهم لا تشمله خريطة الفقر ولا حدود الجوع، لتجد الفئات الغنية نفسها قادرة على دفع مبلغ 6 آلاف دولار وفق سعر المصرف المركزي (13400 ألف ليرة سورية) بسهولة كبيرة، لنصبح أمام فجوة طبقية ساحقة. تكفل راتب بدفع مبلغ 125 مليون ليرة سورية لوالدته الستينية لتأدية مناسك الحج، وهي المرة الأولى لها، يقول الخمسيني وهو تاجر قماش في سوق الحميدية بدمشق: "هذا المبلغ يشمل تذكرة الطيران وحجز فندق 3 نجوم ووجبتي فطور وغداء ورسوم التنقل في الحرم، يفتدي المال خدمة الله وطاعته وهو فريضة من استطاع إليها سبيلاً، والحمد لله أنا مقتدر مادياً."
يعترف عبد الخالق (58 عاماً) أن عمله في تجارة الطاقة الشمسية والدخل الشهري العالي الذي يجنيه يسمح له بتحمل تكاليف الحج، يقول: "لن أفوت الحج خاصة هذه هي المرة الأولى بعد 12 عاماً، سأعتبر نفسي أنني أخذت إجازة شهر كامل." وقد دفع الرجل قرابة 185 مليون سورية مقابل خدمات مميزة وحجز فندقي 5 نجوم والترتيبات اللوجستية، ناهيك عن تكاليف التبضع التي سيتكبدها هناك.
تناوب الأشقاء الستة المنتشرون في أوروبا في على تقاسم مبلغ 6 آلاف دولار لإرسال والدتهم الخمسينية إلى الحج، حيث اقتطع كل واحد منهم جزءاً من راتبه لتكبد النفقات، يقول عثمان أحد الأخوة: "تشاركت مع أخوتي على اقتسام الكلفة وإسعاد والدتنا التي لطالما حلمت بهذه اللحظة، من غير المعقول أن نحرم أمنا من هذه السعادة، المبلغ ليس بكبير إذا قسم على الجميع، اختصر كل واحد منا بعض النفقات وأجلها للشهر القادم في سبيل تحقيق أمنية الوالدة."
الحج بالنيابة
في ظل انعدام الدخل وتكاليف الحج الباهظة يلجأ بعض السوريين إلى توكيل شخص يعيش في السعودية للحج بالنيابة عن الآخر، حتى لو كان قادراً جسدياً لكنه عاجزاً مادياً، في محاولة لتقليص النفقات إلى النصف. هذا ما فعلته فادية (50 عاماً) التي فوضت صديقتها المقيمة في السعودية بالحج بالنيابة عنها مقابل دفع تكاليف بسيطة كالتنقل وشراء لباس الحج، وتشرح لنا تجربتها: "لا أستطيع أبداً دفع مصاريف الحج، طلبت من صديقة الطفولة الحج بالنيابة عني، ولم تمانع أبداً، حتى أنها عرضت استضافتي في منزلها، لكن بالرغم من عرضها السخي أجد نفسي عاجزة عن دفع تذكرة الطيران والفيزا، هذا حل جيد ومريح نفسياً ومادياً، إلى حين يرزقني الله والحج شخصياً".
ويضيف المحلل الاقتصادي عابد فضيلة شارحاً الأمر أن الأثر الاقتصادي في تسيير أفواج الحج "عبء مادي على مدخرات الحجاج السوريين من القطع الأجنبي، لكنه في الوقت ذاته عبء محبب وشرعي ومرغوب على المستوى الاجتماعي، كما أن له آثاراً اقتصادية إيجابية تتمثل بالنفقات الاحتفالية التي تصرف عند عودتهم من الحج إلى بلادهم مثل كثرة الإنفاق على الضيافة والزينات والهدايا لصالح السوق السورية وإنعاشها".
[تُنشر هذه المقالة بموجب اتفاقية تجمع بين جدلية وموقع صالون سوريا].