تُعدّ صورة Whipped Peter (بيتر المعذّب كما أفضّل ترجمتها) أشهر صورة في تاريخ الاستعباد، كما أنّها الصورة التي هزّت ضمير العالم – الغربي وكشفت وحشية العبودية التي أخفتها أقنعة الاستعمار والترف والمال والعنصرية. بعد مضي أكثر من 160 سنة من تاريخ الصورة، ما زالت تحوم أسئلة مثل: إن كان جسد بيتر المعذّب كشف صورة واحدةً من إجرام تاريخ العبودية والاستعمار، فما الذي أخفاه عنّا؟ وماذا عن ملايين الأجساد والأرواح التي لم تسجلها ذاكرة التاريخ؟ كيف رأى بيتر، وغيره من عشرات الملايين ممن استعبدوا، العالم؟
تجيب عن هذه الأسئلة الروائية البريطانية السمراء برناردين إيفاريستو في رواية جذور شقراء الصادرة عن دار مسعى للنشر والتوزيع، ترجمة آلاء محيسن. بحنكة الساردة التي عكست مسار التاريخ لبناء سردية متخيّلة تعيد تشكيل بنية العالم بالكامل، تناولت إيفاريستو ثلاث بنى أساسية نتجت عن تاريخ الاستعباد، وكشفت عنها من خلال اللعب بموازين القوى التي يصوغها التاريخ: بنية الهوية، وبنية المعرفة، وبنية المادة التاريخية.
في حوارها مع مايكل كولنز عام 2008، قالت إيفاريستو: "تطورت العنصرية ضد السود، كما نعرفها، بالتزامن مع نمو تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي. وكان سبب وجودها هو تقديم أسس إيديولوجية تشرعن التجارة وتبررها. افتراض أنّ الأفارقة متوحشون وأقل مرتبة من البشر هو ما جعل تجارة الرقيق أكثر قبولاً." هكذا، يكون قلب السردية التاريخية محاولة لقراءة مسار تطور البنى الأيديولوجية وتفاعلاتها التي أنتجت صوراً نمطية وأحكاماً جاهزة عن السود،و بالتالي أنتجت واقعاً مادياً قامت على أساسه تشريعات وقرارات ما زالت تؤثر على حياتنا وعلاقتنا مع العالم بشكل يومي.
في عوالم جذور شقراء، الإنسان الأسود هو المستعبد للأبيض، وهو من خاض غمار البحار واكتشف القارتين الأميركيتين. كما أن سواحل أوروبا الغربية أصبحت مرافئ تجارة الرقيق وشراء سلع العالم الجديد بدلاً من سواحل أفريقيا الغربية. لم تقلب إيفاريستو مسار التاريخ كمحاولة لخلق حكاية معكوسة، بل أعادت صياغة بنى العلاقات التاريخية وتفاعلاتها، حيث تسود ثقافات ومعارف سكّان أفريقيا في تكوين ذاكرة العالم ومستقبله. فالشعر الأشقر، والجسم الأنثوي الرشيق، والعيون الخضر تحوّلت إلى سمات قبح، بينما الجسم المكتنز، والشعر الخشن، وسواد البشرة هي معايير الجمال التي يقاس عليها ما دونها! كما أصبح الأفريقي الأسود في قمة هرم التطور البشري البيولوجي والفكري، بينما الأبيض الأوروبي هو المتخلف والمتوحش الذي لم يرتق بعد في سلّم الأعراق البشرية.
تتكوّن الرواية من ثلاثة كتب يقدمّها صوتان عليمان: الكتاب الأول والثالث بلسان دوريس العبده التي اختطفتها إحدى عصابات تجارة الرقيق في انجلترا، وتغيّر اسمها ثلاث مرات لأنها استعبدت لثلاثة ملّاك عبيد، والكتاب الثاني بلسان تاجر الرقيق القبطان كاجا كوناتا كاتامبا الأول الذي خدمته دوريس لسنوات ثم حاولت الهرب منه بمساعدة عناصر حركة مقاومة الاستعباد، حيث تبدأ الحكاية عند تلقي دوريس رسالة تخبرها بموعد هروبها من العبودية وعودتها إلى وطنها.
تروي دوريس في الكتاب الأول حكاية الوطن والاختطاف وطبيعة العلاقات في "أمبوسا العظمى" ما بين السادة والعبيد. تتحدث بلسان العبد الواعي لحجم الأسى الذي يعيشه العبيد الآخرون، والعارف بمكانته ضمن ممتلكات سيده. دوريس أمٌ أخذ منها أطفالها الثلاثة وبيعوا في صفقة رقيق، إذ لم تكن العبدة قيمة تضاف إلى ممتلكات السيد فقط، بل وسيلة من وسائل الإنتاج أيضاً. كذلك يوضح الكتاب الأول هيكل مجتمع السادة من منظور العبد، كاشفاً مفارقة التحضّر الثقافي والرقي الاجتماعي في سلوك السادة تجاه عبيدهم.
تقول دوريس: "استطعت أن أرى كيف جعل سكان أمبوسّا قلوبهم قاسية إزاء إنسانيتنا. فقد أقنعوا أنفسهم بأنّنا لا نشعر كما يشعرون، ولذلك فهم غير مضّطرين أن يشعروا نحونا بأيّ شعور."
في الكتاب الثاني المعنون بالشعلة والأشبه بأوراق مذكرات تاجر العبيد كاتامبا تتجسّد تمظهرات البنى المعرفية التي يفرضها القوي المُستَعمِر على الآخر. يروي كاتامبا قصته من بداية دخوله العمل في الإبحار حتى أصبح أحد كبار تجار العبيد في "أمبوسا العظمى"، ومن ثم بدء مغامرة القبض على العبدة الهاربة.
توضح إيفاريستو البنية الفكرية للمستعمر الذي ازدهر من تجارة الرقيق لا على مستوى تحويله الإنسان إلى سلعة ربحية فحسب، وإنما على مستوى المفاهيم التي بنيت عليها القواعد والقوانين والأعراف، وبالتالي العلاقات الاجتماعية.
كان العبد يصنّف كملكية خاصة يحق لمالكها أن يفعل بها ما يشاء. لذلك، كان هروب العبد من سيده يُعد انتهاكاً لحق السيد في عبده. يقول كتامبا في تبيان أسس المنطق والعقل: "حق الملكيّة هو حق الإنسان، سواء أكان في الأرض، أو الثيران، أو المنزل، السفينة، أو الأشياء، أو الأبناء، أو العبد. عندما ينتهك هذا الحق، يكون ذلك بمثابة اعتداء على حريّة الإنسان." ثم يكمل "لذلك كان عليّ أن أنفّذ عملية إعادة اعتقال شاقّة للفتاة العبدة البائسة أومورينوموارا [دوريس] للدفاع عن حقوقي."
يكمل كتامبا شرح الاختلافات الجوهرية ما بين الزنوج والعبيد البيض، فيستحضر البيولوجيا لإثبات تفوق السود على البيض في التفكير والمشاعر والإدراك، ولنفي إنسانية الإنسان الأبيض الذي يقبع في أدنى درجات التطور البشري، فهذا سبب تخلفه الثقافي والحضاري وسلوكياته البربرية. وكأنّ لسان كتامبا هو لسان الأوربيين الذي ألغوا إنسانية السود مستندين على حججهم "العلمية" و"المنطقية" و"الدينية" في ذلك. يأخذنا هذا إلى مفهوم القوة عند ميشيل فوكو؛ فالقوة لا تنفصل عن بنية العلاقات المعرفية والسياسية والاقتصادية، وليست ثابتة الزخم، ولا يمكن تحديدها بشكل منفصل عن هذه العلاقات. تشكّل شبكة العلاقات المترابطة سلطة تتجاوز حدود العلاقة ما بين الحاكم والحكوم. فالعبد ليس له الحق بتعريف نفسه إلا من خلال منظور الآخر له. فسردية المتحكم في تسيير بنية العلاقات ومنظوره للعالم تعيد إنتاج شبكة العلاقات وتطويرها؛ وبالتالي تعيد إنتاج علاقة العبد من نفسه.
يرى كاتامبا أن الاستعباد هو إنقاذ لأرواح البيض من أنفسهم، ووضعهم في سياق التاريخ المتحضّر ليتعلموا كيف يكون الإنسان العاقل. فالبيض، حسب كاتامبا، بلا فهم ولا مشاعر. لذا، فإن تعذيبهم هو عملية تعليم لهم. ولأن العبيد ملكيات خاصة لأناس أحرار، هذا كافي لإعطاء حياتهم قيمة حقيقية.
يقول كاتامبا: "لا تنخدع وتعتقد أنّ دم القوقازي المراق وجلده الممزق جريمة ضد الإنسانية، حتى لو ذرفوا الدموع لإقناع الساذجين بينكم بخلاف ذلك، تأكدوا بأنها دموع تماسيح."
يُقبض على دوريس في الكتاب الثالث. تعذّب وتُرسل إلى مزرعة تابعة لابن كاتامبا في جزيرة بني اقتصادها على العبيد. تلتقي دوريس بأناس من مختلف بقاع أوروبا، جيل ثانٍ وثالث من العبيد ولدوا بعيداً عن بلدانهم. ذاكرة هؤلاء هي ذاكرة حياة العبودية، وحنينهم مرتبط بأوقات الفراغ بعيداً عن العمل الشاق والإهانات المتواصلة والضرب المبرح. بينما قلب دوريس متعلق بإنجلترا وعائلتها التي اكتشفت فيما بعد أن مصيرهم لم يكن أقل سوءاً من مصيرها. كما يوضح الكتاب الثالث هرمية العلاقات ما بين العبيد أنفسهم، وكيف لبنية السردية التاريخية التي نشأت على أسسها شبكة علاقات كاملة أن تعيد خلق هوية الإنسان وعلاقته مع ذاته ومحيطه. فلون الشعر الأشقر وجذوره الضاربة في أوروبا، تم التخلص منها بالكامل. ولقص شعر العبيد وحلقهم في الرواية دلالات متعددة.
قالت إيفاريستو في حوارها مع The Africa Report في العام الماضي إنّها أرادت الكتابة عن تجارة الرقيق لأهميتها التاريخية، ولاستقصاء ما يمكن أن تكشف عنه هذه الكتابة. "لم يقترح أحد بعد رؤيةً لعالم يكون فيه العبيد هم الأوروبيون. لقد سمح لي [الكتاب] بفحص حجم وسخافة قوى العبودية؛ كذلك كشف عنصرية هـذا الزمن وأصولها."