في شتاء 2023 أخبرني صديقي الروائي والشاعر الدكتور سنان أنطون برغبة الأستاذ محمد باقر علوان إهداء مكتبته العامرة إلى مركز بحوث. مدحه كثيراً وقال إنه يستحق الاهتمام والتبجيل. كان مهتماً بشؤون الطلبة العرب والعراقيين خصوصاً وكان بيته مفتوحاً للجميع حين كان يدرس العربية في جامعة هارفارد والجامعات الأخرى. كان طيب السمعة وحسن السيرة ومحباً للغير. لقد حفزني هذا الثناء على لقائه فتم ترتيب اجتماع متلفز عبر الفيس تايم مع الأستاذ و ولده الستيني الذي يتحدث الانكليزية فقط. كان هناك عدد كبير من الرفوف العامرة بالمجلدات. الاستاذ يقف في مركز المكتبة. رجل يبدو ثمانينياً متقد الذاكرة بشوش الوجه يتكلم بلهجة عراقية بغدادية قديمة. يعدل نظارته بين الوقت والأخر ويحدق في الكاميرا للتعويض عن نقص السمع. قال مفتخراً ومبتسماً : لدي كتب كلاسيكية كثيرة في ميادين الفكر، واللغة والأدب والفلسفة. طبعات قديمة مندثرة. وعدّد: كتب أبن ماجة، الشهرستاني، أبو الفرج الأصفهاني، المسعودي، رواية «غابة الحق» لفرنسيس مراش، نسخة قديمة من القرآن الكريم وغيرها. ابنه كان يمشي بين الرفوف ويشير إلى بعض الكتب ولكن ظلام الغرفة أضاع إمكانية قراءة العناوين. كان الشيخ يتصبب عرقاً.
قدرت أن القصة دسمة وتحتاج إلى زيارة ميدانية ولم أرغب في إطالة تعرق الرجل خشية فقدان السوائل التي لا تحمد عقباه خصوصاً في هذا العمر. شكرته ووعدته بزيارة. كان الصيف كان مناسباً حيث الطقس في بوسطن مقبول وعبء العمل والتدريس أخف علينا نحن الإثنين. صديقي سنان ركب قاطرة من نيويورك إلى بوسطن وأنا طرت من هيوستن إلى بوسطن. لحسن حظي وصلت قبل سنان بساعة ونصف. طرقت باب بيت قديم في ضواحي بوسطن. لم أسمع جواباً. فتحت الباب بصعوبة وسمعت صرير مفاصلها. كان هناك غرفة جلوس شبه مظلمة عدا شعاع شمس الغروب يتسلل من خلال ستائر نوافذ. الغرفة كانت خالية من الأثاث و يتصدرها موقد ناري قديم ورائحة الأرضية الخشبية كانت تشبع الهواء. هناك قنديل يتدلى من السقف بدون مصابيح. تخيلت أن تلك الغرفة طالما كانت تعج بالحياة يوماً وكم كانت عامرة بأفكار وأصوات طلاب وطالبات الجامعات من تلاميذه وهو الكريم المضياف. كم كانت تلك المساحة ملاذا لمسامرات العشق في أواخر السهرات وكم صدحت أغاني فيروز وناظم الغزالي؟ لابد أن ذلك النشاط قد أودع أعز ما فيه من ذكريات وأثار في تلك الجدران والسقوف. هناك بقايا خدوش على خشب الأرضية خطوط غير منتظمة، بعضها مستقيم، ومنها متعرج .هكذا هي المشاعر البشرية تنحت في الصخر والخشب بل وفي الهواء و الماء أقانيم الحياة الخالدة. في النهاية الأخرى من المشهد ظهر شيخٌ مرحباً يحمل ملعقة كبيرة ويتدلى على كتفه منديل أبيض. قال مشيراً إلى باب جانبي قريب: توقعتك أن تأتي من هذه الباب. تلك الباب لم نستخدمها منذ فترة طويلة. لاحظت أن الباب الجانبي يفضي إلى محل رصف سيارته القديمة. عانقته والملعقة في يده سقط المنديل من على كتفه. التقطته. شممت رائحة طبيخ. قال اعذرني أنا كنت مشغولاً بالطبخ. قلت: ماذا تطبخ أستاذ؟ قال هسة تشوف. أحسن طبخ. كلشي أطبخ. قالها وقد رفع غطاء القدر الذي صار يغلي بهدوء ومنه تفوح رائحة قد لامست ما يشبهها في أرشيف الدماغ حيث الوالدة العلوية كانت تبدع في طبخ القيمة. تلك الظهاري الحارة والمزاج المتمرمر في دهاليز السياسة لا تفك طلاسمها إلا القيمة أو تشريب البامية مع راس بصل مفسوخ باليد وخيار طرشي في خل مدبس. رائحة القيمة تشربت في تلافيف الدماغ محاولة ربط الذاكرة بالعواطف والانفعالات . نهض من رفوف الذاكرة صحن بامية طازج أراد أن يحاجج أن القيمة ليست أفضل وأن البامية هي صحن الصيف المفضل. القيمة قالت: انهجم بيتچ اشكد تنفخين! ثم انبرى لهما كرش باچة من رف آخر وقال: إن النفخ والزفر من أصول المتعة وإن اعتراضك غير مقبول. تلافيف الدماغ ضجت في صياح وعراك حاولت إسكاتها، فقلت له: لنا الفخر أن نكون معك أستاذ. أطفأ النار بعد أن تأكد من نضوج الطعام قال بينما ننتظر سنان: بعد اشلونك؟ ذكرتني تلك الـ "بعد" بكرم أهلنا حيث لا يمل أحدهم من سؤال ضيفه عدة مرات عن صحته وصحة أهله. كان ذلك خير عربون للتعارف. قلت وقد أطبق الظلام على النوافذ وصار من الواجب استدراج الذكريات ووشائج الحب الدفين: وليل كموج البحر أرخى سدوله. أكمل الشيخ العلامة: علي بأنواع الهموم ليبتلي. ثم قال مع شبه غصة\: العمر يخلص والهموم متخلص. قلت: أستاذ إن شاء الله تكون السعادة والصحة رفيقتيك الدائمتين. حاولت أن التف على أجواء الغصة. قلت: أستاذ لماذا الليل هنا مكسور. أليس من علامات المبتدأ الرفع؟ قال في الحال واثقاً ومبتسماً: مو "ربّ" محذوفة. في الأصل وربّ ليل. قلت: شكراً أستاذ على التوضيح. سألته: هل تشتاق إلى العراق؟ متى زرته آخر مرة؟ قال في السبعينيات. قلت له: لقد جلبت معي في سفرتي الأخيرة للعراق كتاباً فيه وقائع مهرجان الفارابي المنعقد في بغداد عام 1975 وقد لاحظت أن لك مداخلة فيه بعنوان "شعر الفارابي" قال كنت أريد أن أتحدث عن موضوع احتساء الفارابي الخمر ألا أن المداخلة لم تقبل فتم اختيار عنوان الشعر. قال إن الفارابي كان يشرب الخمر رفع يده إلى فمه للتأكيد. قلت: لنخطط لزيارة العراق. قال مبتسماً: يالله. سألني: متى زرت أنت العراق وهل تشتاق؟ قلت بأداء شعري أشكد نده ...نگط على الضلع ونسيت أگلك .. يمته أشگد رازقي ونيمته وأشكثر هجرك عاشر ليالي الهوى وما لمته أنت سحنت الليل بگليبي وگلت موش أنت. قال: إنت طبيب اشلون صرت تحب الشعر؟ قلت: هي مكائد الحياة أستاذ، تحيل جلمد الصخر إلى ناطق ومياه النهر إلى خرير من الألحان فكيف بنا نحن البشر؟ قال: صحيح. قال إنه استقبل الشاعر النواب في بيته وأقام له أمسية في بوسطن في ١٩٩٦.
نهلت في تلك الساعة والنصف ذخيرة من الحب والطمأنينة تكفيني لعقود. كان الدكتور يبدو أصغر من عمره الحقيقي الذي بلغ الواحد والتسعين. هادئاً، متروياً في حديثه، محدقاً، صاغياً، مبتسماً، واثقاً في خطواته. صوته واضح ونبرته تعبر بصدق عن خلجات نفسه. كان فرحا بالزيارة. قلت مبتسماً: أستاذ أنت الذي أعاد فارس الشدياق إلى الحياة بعد إهمال طويل. قال: أنا فخور بذلك. كانت أطروحته للدكتوراه عن أحمد فارس الشدياق. زار قبره في بيروت وكتب للحكومة اللبنانية أن تهتم به وتعيد بنائه. نقّب في تركيا وبيروت عن إرثه الأدبي وفتح عيون الباحثين فقامت رضوى عاشور بكتابة "الحداثة الممكنة". وقام أخيراً همفري ديفيس بترجمة "الساق على الساق" إلى الانكليزية. قال الأستاذ إن جميع هؤلاء تحدثوا معي عن الموضوع وطلبوا معلومات. سنان اتصل منبئاً بوصوله. شاهدته يترجل من الاوبر متجهاً إلى الباب الجانبي. تعانقا بحرارة واستأنس الشيخ بقدوم صديقه الوفي. سنان جاء مع سحابة من الدعابة: بعدك على شبابك استاذ. أجاب المضيف: يعني، نحاول. طاولة صغيرة في مطبخ فيه طباخ وثلاجة ورفوف قديمة. على الطاولة الخشبية بضعة صحون. سكب مرقة في أحدها، رز فيه كشمش في الثاني وسلطة في الثالث. ناولنا صحوناً فارغة. قال: تفضلوا جربوا طبخي. أهلاً وسهلاً. قال إنه يستمتع بالطبخ. رفض أن نساعده في غسل الصحون. قال هناك ماكنة تقوم بذلك. على جدار المطبخ صور عائلية. قال إنه في عام 2015 قام بترتيب جميع شمل ما تبقى من عائلته من كل أنحاء العالم. عدد من الأخوة والأخوات وأبناؤهم وبناتهم. هناك من هو أكبر منه وهناك من أصغر. حول الصورة هوامش بخط اليد. "بقوري الوردة ألف ألف شكر على اللمة الحلوة. رند. الأخ العزيز باقر : نشكر جهودك الكبيرة لجمع عائلة علوان في ظل ضيافتك وكرمك وشكراً. هادي. عائلة أخوك هادي. ٢٠١٥ تموز. صورة ملونة فيها صف أمامي جالس من كبار السن وصفان واقفان من أجيال مختلفة منهم أطفال. العدد يفوق الثمانين. "أخي وعزيزي بقوري ماقمت به من لم شمل عائلتنا الكريمة لن ينسى أبداً . شكراً . سعاد. تموز. 2015". "عمو باقر أجمل شيء حصل لي في حياتي أنني أصبحت علوانية. لومي". الكثير من الحواشي كانت بالانكليزية. كان بقوري فخوراً بقدرته على جمع الشمل . قال لنتوجه إلى المكتبة في السرداب. لقد جمعت آلاف الكتب عبر ستة عقود. نزلنا إلى السرداب المظلم وغير المكيف. يبدو أن ضائقة مالية قد ألمت به منعته من دفع فواتير الكهرباء. آلاف من المجلدات مصفوفة على رفوف معدنية تفوح منها رائحة الرطوبة. أكوام من الكتب غير مرصوفة بانتظام. انتابتني نوبة سعال وصار الشيخ يتصبب عرقاً. اقترحت أن نعود إلى الطابق الأرضي المكيف وأن نزور المكتبة في وقت لاحق. طلبت منه أن يزودنا بفهرس للكتب إن أمكن. سحبت كتاب في طريقي اسمه كنت شيوعيا" وهو مجموعة مقالات نشرها السياب في الستينيات أثناء غضبه على الشيوعيين. حين عدت إلى البيت وقرأته منحته لقب أكثر كتاب مثير للغثيان. لحسن الحظ الأستاذ كان قد حضر وجبة كتب دسمة في الطابق الأرضي. أتى بقرآن مكتوب بخط اليد في إيران في عام ١٧٤٨ ميلادي. فيه صفحات مذهبة. كتاب آخر عن الفقه الزيدي فيه هوامش كثيفة من قبل أجيال من الطلاب عمره أكثر من ٣٠٠ سنة. ثم مائة رواية منذ ١٨٦٠ إلى ١٩٥٠. قال إن الشائع أن رواية زينب التي نشرها محمد حسنين هيكل في الأهرام في الخمسينيات هي الرواية العربية الأولى. هناك مائة رواية قبلها. أشار إلى رفوف كان قد صف عليها ١٠٠ رواية عربية تصلح لأن تكون أطروحة أكاديمية. بان النعاس على شيخنا. قلنا له لقد أتعبنا السفر وانت أيضاً تحتاج أن ترتاح. اتفقنا أن نتعشى في اليوم التالي عند ابنة أخته رند محمود وزوجها علي البهبهاني.
عدنا إلى الفندق محملين بأسئلة كثيرة عن حياة هذا الشيخ المعطاء الذي لم يمهله حظه الأكاديمي فرصة للنبوغ والنشر. لقد كان آسفاً على عدم الانهماك في الكتابة. لكنه كتب في ذاكرة أجيال من الطلبة والمحبين الذين انتشروا في بقاع وجامعات العالم. حاولنا أن نحضر بعض الأسئلة لليوم التالي ولكن هيهات أن نسبر أغوار الرجل في مقابلة واحدة.
رند ابنة أخت "بقوري" انسانة واعية وتفتخر بجذورها العراقية. زوجها علي البهبهاني انسان رائع. قال إنهم انتقلوا من انكلترا إلى بوسطن قبل عدة سنوات. يبعد بيت الاستاذ ١٥ دقيقة عنهم . لحضر الأستاذ قبلنا. ساق سيارته بنفسه. البيت كان مليئا بالدفء العراقي. لديهم ولد وبنت جميلان كانا يصغيان بلهفة للأحاديث العراقية. وجبة العشاء أتمت الطقس العراقي وجعلت من الطرشي والكباب حرزاً واقياً من هفوات بعض المغتربين العراقيين الناقدة والمتكبرة والجارحة للذات العراقية المتسامية. بعض النبيذ رطب مزاج الجميع وأصبح الغوص في عوالم البوح التاريخي لشيخنا فرض عين. سألته عن مغادرته العراق. قال إنه كان ينتمي إلى أسرة مترفة. في زمن المد اليساري وفي الصف الخامس الإعدادي (الصف المنتهي ) شارك في وثبة كانون التي طالبت حكومات نوري سعيد بالانسحاب من حلف بغداد الاستعماري والخروج من الكتلة الإسترلينية. قال إن تلك كانت قيود في معصم العراق المتطلع إلى التحرر. قبلها بعام شارك في مؤتمر ساحة السباع لتأسيس اتحاد الطلبة في العراق . من ضمن الحضور كان الجواهري وجلال الطالباني وعمر علي الشيخ . الوثبة كانت مناسبة لاعتقاله في سجن الكوت ثم نقل إلى سجن بغداد المركزي. كان يوسف سلمان يوسف (فهد) مؤسس الحزب الشيوعي العراق مسجوناً في الكوت. قال إن فهد كان وقوراً ويمتلك شخصية قيادية ومؤثرة وكان محترماً. كان لديه إحساس ملحوظ بالنكتة ولاعب شطرنج ماهر ولقد "غلبني دائماً". كان أسمر يجلس في مكان مخصص فيه بعض الكتب ويقرأ أشياء خاصة به. كان يشبه الهالة المقدسة. الجميع يقدسه ولا أحد يسأل عن دينه أو طائفته أو قوميته. حين غادر السجن لم نكن نحن البسطاء نعلم أن تلك هي آخر فرصة للقائه. ألقى كلمة تحدى فيها السلطة التابعة للاستعمار. كذلك قال أن فتح ماو تسي تونغ لمدينة شنغهاي كان حدثا كبيراً تم الاحتفال به في السجن وتوزيع البسكت. ثم استرسل: كانت حياتنا في السجن على قدر عال من التنظيم. رياضة ومطالعة ونقاشات ولعب شطرنج وتنظيم سياسي. كل صباح نغني النشيد الأممي. سأله سنان إن كان يتذكر شيئا منه. قال منشداً: هبوا ضحايا الاضطهاد ضحايا جوع الاضطرار، بركان الفكر في اتقاد هذا آخر انفجار ، هيا نحو كل ما مر، بجموع قوية هبوا لاح الظفر، غد الأممية يوحد البشر. كان يؤشر بيده ويرفع صوته عند "هبوا لاح الظفر" وكأنه كان قد أنشدها في الأمس. ٧٥ سنة لم تمح من ذاكرته قناعات أودعته السجن ليس فيها مكسب شخصي بل منفعة عامة. آمن بأهمية أن يتوحد البشر ضد الطغيان والاستعمار لكي يعيشوا بحرية وسعادة. قال: لابد من أن يعم السلام والاشتراكية كوكبنا في المستقبل. هذا هو طريق البشرية الوحيد للتخلص من الاستغلال وجشع الرأسمالية. لقد تمت السهرة. تصورنا ثم شكرنا مضيفينا وتوادعنا على أمل لقاء آخر أطول وأكثر تنظيماً. شكرته برسالة خطية. أجاب :أنا سعيد بلقائك والتحدث معك. هذا اللقاء منحني طاقة لكي أعيش أطول لربما لكي نلتقي مرة أخرى. اتصل بعد خمسة شهور . أفصحت له عن رغبتي بزيارة أخرى. قال الآن شتاؤنا قاس. انتظر إلى الربيع. قلت حسناً أستاذ. تحدثنا عن بغداد قليلا ًثم انصرفنا على أمل ترتيب لقاء ثان. في الثامن من أيار وصلتني رسالة نصية من سنان أنطون وهو في الطائرة متجها إلى هيوستن لكي نسافر إلى كوبا في اليوم التالي: "وصلني الآن خبر حزين جداً. رسالة نصية على الطائرة. وفاة محمد باقر علوان. مع الأسف". نعم كان الموت كعادته أسرع من رغباتنا وحبنا للحياة. لقد ترك الأستاذ محمد إرثاً كبيراً ورصيداً غنياً من المساهمات وتخرج تحت إشرافه عدد كبير من الطلبة. الأهم كان قلباً محباً وعيناً ساهرة على المصلحة العامة. أنا ممتن للعزيز سنان على تعريفي به ومتأسف لعدم زيارته مرة أخرى وقضاء وقت أكثر معه.