النظام العالميّ من منظور فلسطين

النظام العالميّ من منظور فلسطين

النظام العالميّ من منظور فلسطين

By : Omar Dahi

[ألقي هذا النص في بيروت ضمن جلسة عامة للمجلس العربي للعلوم الاجتماعية في إطار المعهد الصيفي الخامس للدراسات النقدية حول الأمن، والتي عقدت بتاريخ 12 يوليو 2024]. 


لطالما كانت فلسطين والقضية الفلسطينية مدخلًا أو عدسة نستطيع من خلالهما أن نفهم ونحلل العلاقات الدولية والاقتصاد السياسي العالمي، وذلك لسبب بسيط وهو أنّ الحركة الصهيونية ومن بعدها إسرائيل، وضعت نفسها في خدمة قوى الهيمنة العالمية أو قوى الإمبريالية العالمية الغربية ابتداءً من بريطانيا ومن ثم الولايات المتحدة. وضعت نفسها في حلفٍ وثيق مع تلك القوى أو في خدمة تلك القوى بالكامل. وبذلك أصبحت فلسطين والقضية الفلسطينية الحدَّ الفاصل ما بين القوى المسيطرة في العالم والشعوب المضطهدة والدول والحركات التي تقاوم الهيمنة الغربية. ولهذا السبب كانت فلسطين تحتل موقعًا خاصًّا عند اجتماعات حركة عدم الانحياز وما كان قد سُمِّي حركات العالم الثالث، وموقعًا خاصًّا لدى الحركات الثورية والقومية المناهِضة للاستعمار والإمبريالية والحركات اليسارية سَواءٌ في الغرب أم الشرق.

الغرب، وخصوصًا الولايات المتحدة الأميركية، وجد في إسرائيل وتحديدًا ما بعد حرب 1967 أكثر من حليف لأن إسرائيل أصبحت تشكل ركيزة استراتيجية أو مدخرًا استراتيجيًّا تملكه الولايات المتحدة.

فإسرائيل تُسهِم إسهامًا مباشرًا في إرساء مبادئ عدة من العقيدة العسكرية أو العقيدة الأميركية الأمنية، والتي تتضمن مبادئ مثل الانتشار المتقدم ويعني ذلك أنّ الجيش الأميركي لن يقاتل على الأراضي الأميركية بل سيخوض حروبه على أراضي الآخرين أي على أراضي الأعداء. ولذلك لا نرى الجيش الأميركي منتشرًا على شواطئ الولايات المتحدة أو مستعدًا للقتال على أراضي الولايات المتحدة، بل نراه منتشرًا قرب أو حول الدول التي يراها عدوّةً للولايات المتحدة ويحاصر الصين وإيران وروسيا.

إسرائيل تقع في بقعة مهمة من العالم تستطيع من خلالها الولايات المتحدة أن تبرز قوتها بعيدًا عن شواطئها ولذلك أحيانًا شُبهت إسرائيل بـ"حاملة الطائرات الأميركية" أو "خزان الأسلحة الأميركي"، إلى آخره. بالإضافة إلى ذلك فإنّ إسرائيل تُعدّ شريكًا مساهمًا في تطوير ومن ثم اختبار الأسلحة المتقدمة وتقنيات الرصد والتجسس والسيطرة في تحالفات وثيقة مع شركات الأسلحة الأميركية ومؤسسة الأمن القومي الأميركي بشكل عام. فتُسهِم إسرائيل بمبدأ آخر من مبادئ العقيدة العسكرية الأميركية ألا وهو التطور التكنولوجي الساحق على أعدائها الحاليين أو المحتملين لأن العقيد الأميركية ترى أن الولايات المتحدة يجب أن تتفوق بشكل هائل على أي غريم حالي ومحتمل.

إنما هناك عامل أهم مادي وغير مادي في الوقت نفسه، وهو أن إسرائيل تُبلوِر قوةَ الولايات المتحدة وقدرتَها على خرق جميع القوانين وعدم الالتزام بأيٍّ من قرارات مؤسسات النظام العالمي أو أعرافه من دون عقاب أو حد أدنى من المساءلة القانونية.

فكثير من النظريات النقدية القانونية تعرِّف السلطة السيادية أو الحاكم الفعلي في أي مكان بأنّه الجهة التي تضع القوانين وفي الوقت نفسه تحتفظ لنفسها بحق أن تخرق تلك القوانين. وإسرائيل أفضل تجسيد لذلك منذ أن أعلنت قيام دولتها عام 1948 في السنة نفسها لاعتماد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ونشره، والذي لم يوفر للفلسطينيين أي حق من البنود الـ30 التي يتضمّنها. 

والتاريخ الحديث، أي التاريخ في النصف الثاني من القرن الـ20 وبدايات القرن الحادي والـ20 دليل على أن القوى التي وضعت أسس المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد ومنظمة التجارة العالمية من بعدها سرعان ما التفت حول تلك المنظمات أو همّشتها أو أنشأت منظمات منافسة لها عندما بدأت الدول النامية تناضل ضمن هذه المنظمات من أجل حقوقها. مجموعة الجي فايف أنشئت بعد تبني الجمعية العامة للأمم المتحدة لسلسلة قرارات قدمتها دول عدم الانحياز في سبعينيات القرن الماضي منها قرار وصف الصهيونية بأنها عنصرية وقرارات تتعلق بنظام اقتصادي جديد أكثر إنصافًا لدول الجنوب.

وبما أن الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية هي التي قادت صنع المؤسسات الاقتصادية والأمنية الدولية أي وضع أطر النظام العالمي، فأيضًا كل الشعوب التي كانت تقاوم الهيمنة الأميركية وجدت في القضية الفلسطينية مرآةً لنضالها وأيضًا ارتأت أنّ إسرائيل قمة تجليات النفاق الغربي أو العنف الغربي. وقد صرح الرئيس الكولومبي جوستافو بيترو أخيرًا في لقاء له مع مجموعة رؤساء من أميركا اللاتينية أنّ ما يحصل في فلسطين يراد به من قبل الولايات المتحدة أن يكون عبرة ودرسًا لنا جميعا ولجميع العالم بأنّ هذا ما تستطيع أن تفعله الولايات المتحدة وحلفاؤها لأي شخص يقاوم إملاءاتها أو على الأقل يتخذ موقفًا مستقلًا منها أو رافضًا لها.

تلك الأمور هي نقطة انطلاق للسؤال الذي أود طرحَه في مداخلة اليوم وهو أن هذا الوضع الذي ذكرته يعكس الفترة الزمنية التي كانت فيه الولايات المتحدة هي القوى العظمى من دون منازع من الناحية الاقتصادية والعسكرية والسياسية قبل الحرب الباردة وبعدها بشكل خاصّ.

فما الذي نستطيع أن نتوقعه في عالم التعددية القطبية أو ما يسمى التعددية القطبية، أي عالم برزت فيه مجموعة من الدول التي أصبحت لها مكانتها الاقتصادية والسياسية وحتى الأمنية والعسكرية وازدادت فيه العلاقات في كل تلك المجالات ما بين دول الجنوب.

فقد أدت تداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا وحرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية في فلسطين إلى تسارع دينامية طويلة الأمد ستكون عاملًا أساسيًّا في تشكيل مستقبل النظام العالمي: وهي ظهور دول الجنوب كعناصر فاعلة مستقلة على المسرح العالمي. وفي الصراع الدائر ما بين الدول الثلاث الكبرى وهي الولايات المتحدة وروسيا والصين، فنحن نرى أن تلك الدول تتسابق لتوطيد علاقاتها مع دول الجنوب أو لمنعها من الانضمام إلى تحالفات أو علاقات وثيقة مع غرمائها. في بعض الحالات ستكون تلك الدول أطرافًا رئيسية في الصراعات وفيه حالات أخرى قد تكون لاعبًا ثانويًّا إنما تعمل على ترجيح كفة الميزان لصالح هذا الطرف أو ذاك. تحاول القوى العظمى جميعها (حشد البقية) إلى جانبها لكن على ما يبدو لن تتمكن أي قوة منفردة من السيطرة بشكل كامل على سياسات دول الجنوب التي تحاول أن تنوع علاقاتها الاقتصادية والسياسية وألا تحصرها في بلد واحد.

أصبح من البَدَهيّ القول اليوم إنّ العالم يتجه نحو التعددية القطبية، والافتراض هو أنّ التحولات السياسية والاقتصادية في العقدين الماضيين كانت تحولات هيكلية أي طويلة الأمد. ولكن ما هو العالم الذي سيتشكل من خلال تلك التعددية القطبية؟ ما هي الشبكات السياسية والتحالفات والمؤسسات الرسمية أو غير الرسمية التي ستكون فاعلة في التأثير سياسيًّا واقتصاديًّا؟ هل سيكون هذا العالم أكثر عدالة وما هي التحديات؟

كثير من النظريات النقدية القانونية تعرِّف السلطة السيادية أو الحاكم الفعلي في أي مكان بأنّه الجهة التي تضع القوانين وفي الوقت نفسه تحتفظ لنفسها بحق أن تخرق تلك القوانين

كثرت الأدبيات والدراسات في الآونة الأخيرة حول مصالح الصين وروسيا والولايات المتحدة في الشرق الأوسط أو أفريقيا أو المناطق الأخرى، ولكنّ كمية الإنتاج الفكري أقل بكثير من قضايا بقية الشعوب. ما هي التحديات والمشكلات وما هي القضايا التي يجب أن تعطى الأولوية في بناء نظام دولي أكثر شمولًا وسلميةً وعدالةً؟ وكيف تختلف هذه الأولويات عن الأولويات التي تضعها الدول الكبرى؟ ما أنواع المؤسسات اللازمة لمواجهة تلك التحديات والمشكلات؟ وهل المنظمات الدولية والمؤسسات الإقليمية صالحة لتعكس أصوات تلك الشعوب ومطالبها؟

فقد كشف الغزو الروسي لأوكرانيا في شباط/فبراير 2022 عن خطوط تصدع ناشئة في مجال الحوكمة العالمية إذ اختارت العديد من دول الجنوب العالمي الامتناع عن إدانة روسيا في الأمم المتحدة. ولكن المثال الأهم طبعًا هو في قرار جنوب إفريقيا الذي تبعته لاحقًا دول الجنوب العالمي الأخرى برفع دعوى أمام محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل لانتهاكاتها وعدم التزامها بموجب اتفاقيات الأمم المتحدة للإبادة الجماعية.

واللافت للنظر أنّ الخطاب التي باتت تستخدمه تلك الدول هو خطاب يستجلب ذكرى الاستعمار والاستغلال وعدم المساواة أي أن الذاكرة الجمعية في تلك الشعوب وتجاربها خلال الفترة الكولونيالية وما بعد الكولونيالية أصبحت عاملًا مهمًّا في العلاقات الدولية.

وفي الوقت نفسه تحول ميزان التجارة والتمويل العالمي بشكل كبير. فقد نمت التجارة العالمية بين بلدان الجنوب والتدفقات المالية والاستثمارات المباشرة بشكل كبير منذ التسعينيات ويساعد ذلك في تحفيز المَطالب المتجددة بشأن إعادة هيكلة العلاقات العالمية بشكل أكثر إنصافًا.

جميع هذه التغيرات تبشر بعالم جديد قد يكون أكثر تعددية من الماضي ولكن بالطبع هناك تيارات متناقضة، إذ من ضمن تلك القوى الصاعدة توجد أيضًا قوى ودول سلطوية لا تطرح مشروعًا تحرريًّا بالضرورة وتدير تحالفاتها لصالح فئات صغيرة ضمن بلدانها أو تنتهج سياسات داخلية إقصائية تجاه فئات عرقية أو دينية مهمشة.

مقابل التغييرات الإيجابية التي تحدثت عنها هنالك تغيرات سلبية: لذلك السؤال حول أي عالم سيولد من خلال التعددية القطبية ما يزال سؤالًا مفتوحًا من الصعب الإجابة عنه، ولكن بالإمكان أن نركز على ثلاثة محاور على الأقل لمحاولة فهم مآلات النظام العالمي في السنوات المقبلة وتأثيره على مجتمعات دول الجنوب.

المحاور الثلاثة هي:

1- السياسات الاقتصادية والاقتصاد السياسي والتنمية البشرية 

2- الأمننة والعسكرة وتأثيرهما على الأمن الإنساني

3- الحوكمة والتمثيل المؤسسي

طبعًا تشكّل تلك العناوين أطرًا عريضة متداخلة مع بعضها بعضًا، نستطيع من خلالها طرح مجموعة من الأسئلة ولكن سأركز على بعض منها.

في ما يتعلق بالسياسات الاقتصادية والاقتصاد السياسي، هناك مجموعة من الأسئلة تتعلق بتأثير السياسات الاقتصادية على التنمية البشرية، أي هل السياسات الاقتصادية والتبادلات التجارية في الشرق الأوسط أو في غيره تصب في خدمة تنمية بشرية مستدامة أم تصب في مصالح شبكات وفئات اقتصادية ضيقة. فمثلًا نرى في المنطقة العربية وفي الشرق الأوسط بشكل عام نموذجًا اقتصاديًّا يعتمد على الاستثمار غير المنتج كالاستثمارات العقارية أو الاستثمارات في بناء منتجعات سياحية أو خدمية وإهمال القطاعات الصناعية وحتى البنية التحتية. نرى مثلًا استثمارات في بناء مدن جديدة على غرار العاصمة الإدارية الجديدة في مصر وإهمال البنية التحتية التي تخدم الاقتصاد الحقيقي المنتج.

نرى أيضًا بروز اقتصاديات الحرب بأنواعها المتعددة والمعقدة والمتداخلة، والتي من ناحية تتجلى في استثمارات في صناعة الأسلحة من قبل فاعلين جدد أصبحوا لاعبين مهمين في سوق الأسلحة مثل تركيا ودول الخليج ودول أخرى أصبحت تتبادل التجارة في الأسلحة وتقنيات الرصد والتجسس والمراقبة والطائرات من دون طيار.

اقتصاديات الحرب تشمل أيضًا العقوبات الاقتصادية التي أصبحت أداة بيد الولايات المتحدة تُستخدَم بشكل غير مسبوق؛ إذ تشير دراسة نشرت حديثًا من قبل فرنسيسكو رودريجز إلى أن العقوبات الاقتصادية من قبل الولايات المتحدة أصبحت تشمل نحو ثلث الاقتصاد العالمي وتؤثر على أكثر من 60 دولة في العالم. الوجه الآخر من اقتصاديات الحرب هو اقتصاديات الإغاثة إذ إن التدمير والإغاثة وجهان لعملة واحدة؛ فنرى دولًا تستثمر أموالًا هائلة في التدمير وفي الوقت نفسه أموالًا أخرى في الإغاثة.

وهذه النقطة تمهد للمحور الثاني وهو الأمننة والعسكرة وتأثيرها على الأمن الإنساني.

في وقتٍ تواجه المنطقة تحديات وجودية، تنصرف بعض الدول إلى إنفاق مبالغ خيالية على التسلّح. ولا أعتقد أن الأمر مثير للجدل، إنما سُمّيت في اتفاقيات السلام مثل اتفاق أبراهام، وهي في الواقع تحالفات استراتيجية تحضّر وترسّخ من عسكرة المنطقة واقتصاديات الحرب؛ فهي تشكّل مجموعة من صفقات السلاح والتعاون الأمني لإدارة المنطقة لواقع جديد يخدم الدول الموقّعة.

فعسكرة المنطقة ليست بالأمر الجديد، والتسلح وبناء الجيوش قاسم مشترك لغالبية دول المنطقة على مدى سنوات عديدة؛ الأمر الذي ازداد بشكل مطّرد مع طفرة النفط في سبعينيات من القرن الماضي. والمبالغ التي صرفت على الجيوش والعسكرة واستيراد الأسلحة تكاد تكون بمئات المليارات من الدولارات على مدى العقود. وطبعًا أدّت الدول الغربية وبخاصّةٍ الولايات المتحدة دورًا مركزيًا في عسكرة المنطقة وخلق أزمات من خلال تسليح حلفائها والحروب المدمرة المتتالية التي شنتها في المنطقة. ما هو جديد خلال العقدين الأخيرين ولا سيما في العقد الأخير هو أن معظم الدول تحولت إلى لاعب أساسي في صراعات مسلحة إقليمية.

والمحور الثالث هو محور التمثيل والحوكمة والمنظمات الدولية. الأمم المتحدة مثلًا شكّلت منبرًا مهمًّا استخدمته دول الجنوب في النصف الثاني من القرن الـ20 لمناقشة المشكلات والتحديات التنموية والاجتماعية والاقتصادية التي تعانيها، والتي شكلت تحالفات سياسية للضغط في الجمعية العامة. وكذلك الأمر للمنظمات الاقتصادية الدولية مثل تحالفات ضمن منظمة التجارة العالمية في تسعينيات القرن الماضي وبداية القرن الحادي والـ20 شكّلت مجموعات من أجل المطالبة بسياسات أكثر توازنًا انتهت بما سُمي بأجندة الدوحة للتنمية "Doha Development Agenda".

ونرى أيضًا صعود منظمات دولية أخرى مثل البريكس وبنك الاستثمار الصيني وبنك الجنوب في أميركا اللاتينية. ولكن من غير الواضح ما إذا كانت تلك المنظمات، سواء التقليدية أم الناشئة، ستمثل فعلًا مصالح الشعوب خارج الدول العظمى.

إسرائيل واعية لتلك التغييرات وحاولت في العقد الأخير أن تبدأ هي الأخرى بالتماهي مع هذا العصر الجديد المتعدد الأقطاب إذ وسعت علاقاتها الاقتصادية والسياسية والأمنية ليس ضمن المنطقة فحسب إنما مع الهند والصين وغيرها. أي أنّ الخادم أو الركيزة الاستراتيجية للولايات المتحدة تحاول أن تخدم مصالح الدول الصاعدة وأن تجعل نفسها شريكًا لها بالطبع على حساب الشعب الفلسطيني وعلى حساب الشعوب الأخرى. وبعض تلك التحولات لم ترضَ عنها الولايات المتحدة مثل توطيد علاقة إسرائيل مع الصين. ولذلك نرى مثلًا أن الصين منذ 7 أكتوبر كانت حذرة جدًّا إزاء توجيه انتقاد لاذع لإسرائيل أو للولايات المتحدة بالرغم من أنها فرصة لترد الجميل على الولايات المتحدة التي تتهم الصين دائمًا بانتهاك حقوق الإنسان حتى إلى الإبادة الجماعية لمسلمي الصين من شعب الويجور.

لا نعرف تمامًا دافع ذلك الحذر، هل هو بسبب الأزمة الاقتصادية الحالية في الصين وبالتالي لا تريد الصين استفزاز أمريكا أكثر من اللازم أم هل لأنّ الصين بحد ذاتها تريد توطيد علاقاتها مع دول المنطقة بما فيها إسرائيل.

ولكنّ الحرب أثبتت أنه لا يوجد حليف مثل الولايات المتحدة لأنه لا توجد دولة ستدافع عن إسرائيل مثل تلك الدول وقد تكون الحرب بعكس ما يقال إنّ إسرائيل تتحكم بالولايات المتحدة إلى آخره، فيثبت العكس ومفاده أن الولايات المتحدة ستنجح في فرض إرادتها على إسرائيل وكسر علاقاتها الناشئة مع الصين مثلًا.

لا بد هنا من لفت النظر إلى عامل مهمل في العلاقات الدولية وهو العنصرية أي العنصرية بحد ذاتها كعامل مادي يدير العلاقات الدولية. فغالبية النظريات حول العلاقات الدولية تركز على المصالح الاقتصادية أو المصالح السياسية أو الهيمنة إلى آخره. ولكن في السنوات القليلة الماضية برزت مجموعة من الأدبيات تركز على الجذور العنصرية للعلاقات الدولية مثلًا في كتاب روبرت فيتاليس الذي عنونه النظام العالمي الأبيض ونشأة العلاقات الدولية الأميركية. يلفت فيتاليس الانتباه إلى أن أول دورية محكمة أو أهم دورية محكمة أو مجلة أكاديمية وهي مجلة العلاقات الدولية والتي تحولت إلى مجلة "Foreign Affairs" الشهيرة قد بدأت باسم "journal of race development" سور أو مجلة التنمية العرقية في بدايات القرن الـ20. بمعنى أنّ حقل العلاقات الدولية الأميركية بحد خاص قد بدأ بالتفكير عن العلاقات الدولية كبعد آخر لإدارة العلاقات العرقية. وكما نعلم فإنّ العلاقات العرقية في الولايات المتحدة تاريخيًّا اتسمت بالعنف والإبادة الجماعية والعبودية والتسلسل الهرمي الذي يضع العرق الأبيض في أعلى الهرم وبقية الأعراق في الأسفل.

وكما نرى اليوم لا نستطيع فقط تفسير التعاطف في بعض المجتمعات الأوروبية والأميركية مع إسرائيل وانعدام التعاطف مع المجازر حصرًا من خلال المصالح الاقتصادية ولا حتى من خلال الذنب الغربي تجاه الجرائم التاريخية الغربية ضد الشعوب اليهودية بل من خلال عنصرية تتعامل مع إسرائيل وكأنها امتداد عرقي للعالم الأبيض. ونرى اليوم أن جميع الحركات اليمينية المتطرفة العنصرية ترى في إسرائيل منارة وحليفًا لكيفيّة معاملة بقية الشعوب وطبعًا هذا أمر ليس بالجديد ويعود حتى إلى نشأة الحركة اليهودية التي قال عنها ثيودور هرتزل إن إسرائيل ستمثل ليس امتدادًا لأوروبا فحسب بل أيضًا حصنًا أو متراسًا للحضارة ضد الهمجية.

كل هذا يعني أنّ التغيرات الهيكلية التي تحدثت عنها غير مفهومة العواقب وليست محتمة وقابلة للتغيير. ويكمن عقدُ الأمل على الحركات الشعبية التي تتجدد كل فترة ليس في المنطقة فحسب بل في العالم. فربما نجد في حركة التضامن الطلابية والعالمية نواة لحركة تضامن عالمية من المجتمع المدني لخلق عالم جديد أو أقلّه للتشكيك في العالم الحالي وبداية التفكير في عالم جديد.

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬