[ألقي هذا النص في بيروت ضمن جلسة عامة للمجلس العربي للعلوم الاجتماعية في إطار المعهد الصيفي الخامس للدراسات النقدية حول الأمن، والتي عقدت بتاريخ 12 يوليو 2024].
لطالما كانت فلسطين والقضية الفلسطينية مدخلًا أو عدسة نستطيع من خلالهما أن نفهم ونحلل العلاقات الدولية والاقتصاد السياسي العالمي، وذلك لسبب بسيط وهو أنّ الحركة الصهيونية ومن بعدها إسرائيل، وضعت نفسها في خدمة قوى الهيمنة العالمية أو قوى الإمبريالية العالمية الغربية ابتداءً من بريطانيا ومن ثم الولايات المتحدة. وضعت نفسها في حلفٍ وثيق مع تلك القوى أو في خدمة تلك القوى بالكامل. وبذلك أصبحت فلسطين والقضية الفلسطينية الحدَّ الفاصل ما بين القوى المسيطرة في العالم والشعوب المضطهدة والدول والحركات التي تقاوم الهيمنة الغربية. ولهذا السبب كانت فلسطين تحتل موقعًا خاصًّا عند اجتماعات حركة عدم الانحياز وما كان قد سُمِّي حركات العالم الثالث، وموقعًا خاصًّا لدى الحركات الثورية والقومية المناهِضة للاستعمار والإمبريالية والحركات اليسارية سَواءٌ في الغرب أم الشرق.
الغرب، وخصوصًا الولايات المتحدة الأميركية، وجد في إسرائيل وتحديدًا ما بعد حرب 1967 أكثر من حليف لأن إسرائيل أصبحت تشكل ركيزة استراتيجية أو مدخرًا استراتيجيًّا تملكه الولايات المتحدة.
فإسرائيل تُسهِم إسهامًا مباشرًا في إرساء مبادئ عدة من العقيدة العسكرية أو العقيدة الأميركية الأمنية، والتي تتضمن مبادئ مثل الانتشار المتقدم ويعني ذلك أنّ الجيش الأميركي لن يقاتل على الأراضي الأميركية بل سيخوض حروبه على أراضي الآخرين أي على أراضي الأعداء. ولذلك لا نرى الجيش الأميركي منتشرًا على شواطئ الولايات المتحدة أو مستعدًا للقتال على أراضي الولايات المتحدة، بل نراه منتشرًا قرب أو حول الدول التي يراها عدوّةً للولايات المتحدة ويحاصر الصين وإيران وروسيا.
إسرائيل تقع في بقعة مهمة من العالم تستطيع من خلالها الولايات المتحدة أن تبرز قوتها بعيدًا عن شواطئها ولذلك أحيانًا شُبهت إسرائيل بـ"حاملة الطائرات الأميركية" أو "خزان الأسلحة الأميركي"، إلى آخره. بالإضافة إلى ذلك فإنّ إسرائيل تُعدّ شريكًا مساهمًا في تطوير ومن ثم اختبار الأسلحة المتقدمة وتقنيات الرصد والتجسس والسيطرة في تحالفات وثيقة مع شركات الأسلحة الأميركية ومؤسسة الأمن القومي الأميركي بشكل عام. فتُسهِم إسرائيل بمبدأ آخر من مبادئ العقيدة العسكرية الأميركية ألا وهو التطور التكنولوجي الساحق على أعدائها الحاليين أو المحتملين لأن العقيد الأميركية ترى أن الولايات المتحدة يجب أن تتفوق بشكل هائل على أي غريم حالي ومحتمل.
إنما هناك عامل أهم مادي وغير مادي في الوقت نفسه، وهو أن إسرائيل تُبلوِر قوةَ الولايات المتحدة وقدرتَها على خرق جميع القوانين وعدم الالتزام بأيٍّ من قرارات مؤسسات النظام العالمي أو أعرافه من دون عقاب أو حد أدنى من المساءلة القانونية.
فكثير من النظريات النقدية القانونية تعرِّف السلطة السيادية أو الحاكم الفعلي في أي مكان بأنّه الجهة التي تضع القوانين وفي الوقت نفسه تحتفظ لنفسها بحق أن تخرق تلك القوانين. وإسرائيل أفضل تجسيد لذلك منذ أن أعلنت قيام دولتها عام 1948 في السنة نفسها لاعتماد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ونشره، والذي لم يوفر للفلسطينيين أي حق من البنود الـ30 التي يتضمّنها.
والتاريخ الحديث، أي التاريخ في النصف الثاني من القرن الـ20 وبدايات القرن الحادي والـ20 دليل على أن القوى التي وضعت أسس المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد ومنظمة التجارة العالمية من بعدها سرعان ما التفت حول تلك المنظمات أو همّشتها أو أنشأت منظمات منافسة لها عندما بدأت الدول النامية تناضل ضمن هذه المنظمات من أجل حقوقها. مجموعة الجي فايف أنشئت بعد تبني الجمعية العامة للأمم المتحدة لسلسلة قرارات قدمتها دول عدم الانحياز في سبعينيات القرن الماضي منها قرار وصف الصهيونية بأنها عنصرية وقرارات تتعلق بنظام اقتصادي جديد أكثر إنصافًا لدول الجنوب.
وبما أن الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية هي التي قادت صنع المؤسسات الاقتصادية والأمنية الدولية أي وضع أطر النظام العالمي، فأيضًا كل الشعوب التي كانت تقاوم الهيمنة الأميركية وجدت في القضية الفلسطينية مرآةً لنضالها وأيضًا ارتأت أنّ إسرائيل قمة تجليات النفاق الغربي أو العنف الغربي. وقد صرح الرئيس الكولومبي جوستافو بيترو أخيرًا في لقاء له مع مجموعة رؤساء من أميركا اللاتينية أنّ ما يحصل في فلسطين يراد به من قبل الولايات المتحدة أن يكون عبرة ودرسًا لنا جميعا ولجميع العالم بأنّ هذا ما تستطيع أن تفعله الولايات المتحدة وحلفاؤها لأي شخص يقاوم إملاءاتها أو على الأقل يتخذ موقفًا مستقلًا منها أو رافضًا لها.
تلك الأمور هي نقطة انطلاق للسؤال الذي أود طرحَه في مداخلة اليوم وهو أن هذا الوضع الذي ذكرته يعكس الفترة الزمنية التي كانت فيه الولايات المتحدة هي القوى العظمى من دون منازع من الناحية الاقتصادية والعسكرية والسياسية قبل الحرب الباردة وبعدها بشكل خاصّ.
فما الذي نستطيع أن نتوقعه في عالم التعددية القطبية أو ما يسمى التعددية القطبية، أي عالم برزت فيه مجموعة من الدول التي أصبحت لها مكانتها الاقتصادية والسياسية وحتى الأمنية والعسكرية وازدادت فيه العلاقات في كل تلك المجالات ما بين دول الجنوب.
فقد أدت تداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا وحرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية في فلسطين إلى تسارع دينامية طويلة الأمد ستكون عاملًا أساسيًّا في تشكيل مستقبل النظام العالمي: وهي ظهور دول الجنوب كعناصر فاعلة مستقلة على المسرح العالمي. وفي الصراع الدائر ما بين الدول الثلاث الكبرى وهي الولايات المتحدة وروسيا والصين، فنحن نرى أن تلك الدول تتسابق لتوطيد علاقاتها مع دول الجنوب أو لمنعها من الانضمام إلى تحالفات أو علاقات وثيقة مع غرمائها. في بعض الحالات ستكون تلك الدول أطرافًا رئيسية في الصراعات وفيه حالات أخرى قد تكون لاعبًا ثانويًّا إنما تعمل على ترجيح كفة الميزان لصالح هذا الطرف أو ذاك. تحاول القوى العظمى جميعها (حشد البقية) إلى جانبها لكن على ما يبدو لن تتمكن أي قوة منفردة من السيطرة بشكل كامل على سياسات دول الجنوب التي تحاول أن تنوع علاقاتها الاقتصادية والسياسية وألا تحصرها في بلد واحد.
أصبح من البَدَهيّ القول اليوم إنّ العالم يتجه نحو التعددية القطبية، والافتراض هو أنّ التحولات السياسية والاقتصادية في العقدين الماضيين كانت تحولات هيكلية أي طويلة الأمد. ولكن ما هو العالم الذي سيتشكل من خلال تلك التعددية القطبية؟ ما هي الشبكات السياسية والتحالفات والمؤسسات الرسمية أو غير الرسمية التي ستكون فاعلة في التأثير سياسيًّا واقتصاديًّا؟ هل سيكون هذا العالم أكثر عدالة وما هي التحديات؟
كثرت الأدبيات والدراسات في الآونة الأخيرة حول مصالح الصين وروسيا والولايات المتحدة في الشرق الأوسط أو أفريقيا أو المناطق الأخرى، ولكنّ كمية الإنتاج الفكري أقل بكثير من قضايا بقية الشعوب. ما هي التحديات والمشكلات وما هي القضايا التي يجب أن تعطى الأولوية في بناء نظام دولي أكثر شمولًا وسلميةً وعدالةً؟ وكيف تختلف هذه الأولويات عن الأولويات التي تضعها الدول الكبرى؟ ما أنواع المؤسسات اللازمة لمواجهة تلك التحديات والمشكلات؟ وهل المنظمات الدولية والمؤسسات الإقليمية صالحة لتعكس أصوات تلك الشعوب ومطالبها؟
فقد كشف الغزو الروسي لأوكرانيا في شباط/فبراير 2022 عن خطوط تصدع ناشئة في مجال الحوكمة العالمية إذ اختارت العديد من دول الجنوب العالمي الامتناع عن إدانة روسيا في الأمم المتحدة. ولكن المثال الأهم طبعًا هو في قرار جنوب إفريقيا الذي تبعته لاحقًا دول الجنوب العالمي الأخرى برفع دعوى أمام محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل لانتهاكاتها وعدم التزامها بموجب اتفاقيات الأمم المتحدة للإبادة الجماعية.
واللافت للنظر أنّ الخطاب التي باتت تستخدمه تلك الدول هو خطاب يستجلب ذكرى الاستعمار والاستغلال وعدم المساواة أي أن الذاكرة الجمعية في تلك الشعوب وتجاربها خلال الفترة الكولونيالية وما بعد الكولونيالية أصبحت عاملًا مهمًّا في العلاقات الدولية.
وفي الوقت نفسه تحول ميزان التجارة والتمويل العالمي بشكل كبير. فقد نمت التجارة العالمية بين بلدان الجنوب والتدفقات المالية والاستثمارات المباشرة بشكل كبير منذ التسعينيات ويساعد ذلك في تحفيز المَطالب المتجددة بشأن إعادة هيكلة العلاقات العالمية بشكل أكثر إنصافًا.
جميع هذه التغيرات تبشر بعالم جديد قد يكون أكثر تعددية من الماضي ولكن بالطبع هناك تيارات متناقضة، إذ من ضمن تلك القوى الصاعدة توجد أيضًا قوى ودول سلطوية لا تطرح مشروعًا تحرريًّا بالضرورة وتدير تحالفاتها لصالح فئات صغيرة ضمن بلدانها أو تنتهج سياسات داخلية إقصائية تجاه فئات عرقية أو دينية مهمشة.
مقابل التغييرات الإيجابية التي تحدثت عنها هنالك تغيرات سلبية: لذلك السؤال حول أي عالم سيولد من خلال التعددية القطبية ما يزال سؤالًا مفتوحًا من الصعب الإجابة عنه، ولكن بالإمكان أن نركز على ثلاثة محاور على الأقل لمحاولة فهم مآلات النظام العالمي في السنوات المقبلة وتأثيره على مجتمعات دول الجنوب.
المحاور الثلاثة هي:
1- السياسات الاقتصادية والاقتصاد السياسي والتنمية البشرية
2- الأمننة والعسكرة وتأثيرهما على الأمن الإنساني
3- الحوكمة والتمثيل المؤسسي
طبعًا تشكّل تلك العناوين أطرًا عريضة متداخلة مع بعضها بعضًا، نستطيع من خلالها طرح مجموعة من الأسئلة ولكن سأركز على بعض منها.
في ما يتعلق بالسياسات الاقتصادية والاقتصاد السياسي، هناك مجموعة من الأسئلة تتعلق بتأثير السياسات الاقتصادية على التنمية البشرية، أي هل السياسات الاقتصادية والتبادلات التجارية في الشرق الأوسط أو في غيره تصب في خدمة تنمية بشرية مستدامة أم تصب في مصالح شبكات وفئات اقتصادية ضيقة. فمثلًا نرى في المنطقة العربية وفي الشرق الأوسط بشكل عام نموذجًا اقتصاديًّا يعتمد على الاستثمار غير المنتج كالاستثمارات العقارية أو الاستثمارات في بناء منتجعات سياحية أو خدمية وإهمال القطاعات الصناعية وحتى البنية التحتية. نرى مثلًا استثمارات في بناء مدن جديدة على غرار العاصمة الإدارية الجديدة في مصر وإهمال البنية التحتية التي تخدم الاقتصاد الحقيقي المنتج.
نرى أيضًا بروز اقتصاديات الحرب بأنواعها المتعددة والمعقدة والمتداخلة، والتي من ناحية تتجلى في استثمارات في صناعة الأسلحة من قبل فاعلين جدد أصبحوا لاعبين مهمين في سوق الأسلحة مثل تركيا ودول الخليج ودول أخرى أصبحت تتبادل التجارة في الأسلحة وتقنيات الرصد والتجسس والمراقبة والطائرات من دون طيار.
اقتصاديات الحرب تشمل أيضًا العقوبات الاقتصادية التي أصبحت أداة بيد الولايات المتحدة تُستخدَم بشكل غير مسبوق؛ إذ تشير دراسة نشرت حديثًا من قبل فرنسيسكو رودريجز إلى أن العقوبات الاقتصادية من قبل الولايات المتحدة أصبحت تشمل نحو ثلث الاقتصاد العالمي وتؤثر على أكثر من 60 دولة في العالم. الوجه الآخر من اقتصاديات الحرب هو اقتصاديات الإغاثة إذ إن التدمير والإغاثة وجهان لعملة واحدة؛ فنرى دولًا تستثمر أموالًا هائلة في التدمير وفي الوقت نفسه أموالًا أخرى في الإغاثة.
وهذه النقطة تمهد للمحور الثاني وهو الأمننة والعسكرة وتأثيرها على الأمن الإنساني.
في وقتٍ تواجه المنطقة تحديات وجودية، تنصرف بعض الدول إلى إنفاق مبالغ خيالية على التسلّح. ولا أعتقد أن الأمر مثير للجدل، إنما سُمّيت في اتفاقيات السلام مثل اتفاق أبراهام، وهي في الواقع تحالفات استراتيجية تحضّر وترسّخ من عسكرة المنطقة واقتصاديات الحرب؛ فهي تشكّل مجموعة من صفقات السلاح والتعاون الأمني لإدارة المنطقة لواقع جديد يخدم الدول الموقّعة.
فعسكرة المنطقة ليست بالأمر الجديد، والتسلح وبناء الجيوش قاسم مشترك لغالبية دول المنطقة على مدى سنوات عديدة؛ الأمر الذي ازداد بشكل مطّرد مع طفرة النفط في سبعينيات من القرن الماضي. والمبالغ التي صرفت على الجيوش والعسكرة واستيراد الأسلحة تكاد تكون بمئات المليارات من الدولارات على مدى العقود. وطبعًا أدّت الدول الغربية وبخاصّةٍ الولايات المتحدة دورًا مركزيًا في عسكرة المنطقة وخلق أزمات من خلال تسليح حلفائها والحروب المدمرة المتتالية التي شنتها في المنطقة. ما هو جديد خلال العقدين الأخيرين ولا سيما في العقد الأخير هو أن معظم الدول تحولت إلى لاعب أساسي في صراعات مسلحة إقليمية.
والمحور الثالث هو محور التمثيل والحوكمة والمنظمات الدولية. الأمم المتحدة مثلًا شكّلت منبرًا مهمًّا استخدمته دول الجنوب في النصف الثاني من القرن الـ20 لمناقشة المشكلات والتحديات التنموية والاجتماعية والاقتصادية التي تعانيها، والتي شكلت تحالفات سياسية للضغط في الجمعية العامة. وكذلك الأمر للمنظمات الاقتصادية الدولية مثل تحالفات ضمن منظمة التجارة العالمية في تسعينيات القرن الماضي وبداية القرن الحادي والـ20 شكّلت مجموعات من أجل المطالبة بسياسات أكثر توازنًا انتهت بما سُمي بأجندة الدوحة للتنمية "Doha Development Agenda".
ونرى أيضًا صعود منظمات دولية أخرى مثل البريكس وبنك الاستثمار الصيني وبنك الجنوب في أميركا اللاتينية. ولكن من غير الواضح ما إذا كانت تلك المنظمات، سواء التقليدية أم الناشئة، ستمثل فعلًا مصالح الشعوب خارج الدول العظمى.
إسرائيل واعية لتلك التغييرات وحاولت في العقد الأخير أن تبدأ هي الأخرى بالتماهي مع هذا العصر الجديد المتعدد الأقطاب إذ وسعت علاقاتها الاقتصادية والسياسية والأمنية ليس ضمن المنطقة فحسب إنما مع الهند والصين وغيرها. أي أنّ الخادم أو الركيزة الاستراتيجية للولايات المتحدة تحاول أن تخدم مصالح الدول الصاعدة وأن تجعل نفسها شريكًا لها بالطبع على حساب الشعب الفلسطيني وعلى حساب الشعوب الأخرى. وبعض تلك التحولات لم ترضَ عنها الولايات المتحدة مثل توطيد علاقة إسرائيل مع الصين. ولذلك نرى مثلًا أن الصين منذ 7 أكتوبر كانت حذرة جدًّا إزاء توجيه انتقاد لاذع لإسرائيل أو للولايات المتحدة بالرغم من أنها فرصة لترد الجميل على الولايات المتحدة التي تتهم الصين دائمًا بانتهاك حقوق الإنسان حتى إلى الإبادة الجماعية لمسلمي الصين من شعب الويجور.
لا نعرف تمامًا دافع ذلك الحذر، هل هو بسبب الأزمة الاقتصادية الحالية في الصين وبالتالي لا تريد الصين استفزاز أمريكا أكثر من اللازم أم هل لأنّ الصين بحد ذاتها تريد توطيد علاقاتها مع دول المنطقة بما فيها إسرائيل.
ولكنّ الحرب أثبتت أنه لا يوجد حليف مثل الولايات المتحدة لأنه لا توجد دولة ستدافع عن إسرائيل مثل تلك الدول وقد تكون الحرب بعكس ما يقال إنّ إسرائيل تتحكم بالولايات المتحدة إلى آخره، فيثبت العكس ومفاده أن الولايات المتحدة ستنجح في فرض إرادتها على إسرائيل وكسر علاقاتها الناشئة مع الصين مثلًا.
لا بد هنا من لفت النظر إلى عامل مهمل في العلاقات الدولية وهو العنصرية أي العنصرية بحد ذاتها كعامل مادي يدير العلاقات الدولية. فغالبية النظريات حول العلاقات الدولية تركز على المصالح الاقتصادية أو المصالح السياسية أو الهيمنة إلى آخره. ولكن في السنوات القليلة الماضية برزت مجموعة من الأدبيات تركز على الجذور العنصرية للعلاقات الدولية مثلًا في كتاب روبرت فيتاليس الذي عنونه النظام العالمي الأبيض ونشأة العلاقات الدولية الأميركية. يلفت فيتاليس الانتباه إلى أن أول دورية محكمة أو أهم دورية محكمة أو مجلة أكاديمية وهي مجلة العلاقات الدولية والتي تحولت إلى مجلة "Foreign Affairs" الشهيرة قد بدأت باسم "journal of race development" سور أو مجلة التنمية العرقية في بدايات القرن الـ20. بمعنى أنّ حقل العلاقات الدولية الأميركية بحد خاص قد بدأ بالتفكير عن العلاقات الدولية كبعد آخر لإدارة العلاقات العرقية. وكما نعلم فإنّ العلاقات العرقية في الولايات المتحدة تاريخيًّا اتسمت بالعنف والإبادة الجماعية والعبودية والتسلسل الهرمي الذي يضع العرق الأبيض في أعلى الهرم وبقية الأعراق في الأسفل.
وكما نرى اليوم لا نستطيع فقط تفسير التعاطف في بعض المجتمعات الأوروبية والأميركية مع إسرائيل وانعدام التعاطف مع المجازر حصرًا من خلال المصالح الاقتصادية ولا حتى من خلال الذنب الغربي تجاه الجرائم التاريخية الغربية ضد الشعوب اليهودية بل من خلال عنصرية تتعامل مع إسرائيل وكأنها امتداد عرقي للعالم الأبيض. ونرى اليوم أن جميع الحركات اليمينية المتطرفة العنصرية ترى في إسرائيل منارة وحليفًا لكيفيّة معاملة بقية الشعوب وطبعًا هذا أمر ليس بالجديد ويعود حتى إلى نشأة الحركة اليهودية التي قال عنها ثيودور هرتزل إن إسرائيل ستمثل ليس امتدادًا لأوروبا فحسب بل أيضًا حصنًا أو متراسًا للحضارة ضد الهمجية.
كل هذا يعني أنّ التغيرات الهيكلية التي تحدثت عنها غير مفهومة العواقب وليست محتمة وقابلة للتغيير. ويكمن عقدُ الأمل على الحركات الشعبية التي تتجدد كل فترة ليس في المنطقة فحسب بل في العالم. فربما نجد في حركة التضامن الطلابية والعالمية نواة لحركة تضامن عالمية من المجتمع المدني لخلق عالم جديد أو أقلّه للتشكيك في العالم الحالي وبداية التفكير في عالم جديد.