تُعد مسرحية الواوي وبنات الشاويواحدة من كلاسيكيات مسرح الطفل في الكويت منذ عرْضِها لأول مرّة في عام 1989. وهي من تأليف الشاعر الشهيد فايق عبدالجليل الذي لعب دورًا بارزًا في عالم الطفل منذ بواكير الحركة المسرحية في الكويت، حين قام بتأسيس أول مسرح للعرائس عام 1974، الذي يُعتبر نواة لمسرح الطفل بشكله الحالي، وكانت تجربته الأولى هي مسرحية "أبوزيد بطل الرويد"[1]. ثم توالت الأعمال بعد ذلك حتى كتب فايق عبدالجليل النص الشعري لمسرحية (الواوي وبنات الشاوي)؛ بناءً على طلب مخرجة العمل نجاة حسين؛ وهي أيضًا ناقدة متخصصة في أدب الطفل. تعد مسرحية (الواوي وبنات الشاوي) ثاني مسرحية غنائية بالكامل بعد مسرحية ليلى والذيب، وهي التجربة الموسيقية الأولى للملحن سيف القطان، فيما تولى المخرج غافل فاضل عملية الإخراج التلفزيوني، أما البطولة؛ فكانت من نصيب الشقيقتين: هدى وسحر حسين[2].
تتكون المسرحية من فصلين، لكلٍّ منهما حكاية، تدور أحداثها في عالم سردي مختلف؛ فالفصل الأول مُعنون باسم (الواوي)، وقصته مستوحاة من كتاب كليلة ودمنة. أما الفصل الثاني؛ فقد حمل عنوان (بنات الشاوي)، وتدور أحداثه حول أختين يتيمتين في قرية قديمة، وقصته من ابتكار نجاة حسين[3].
في هذه المقالة سأقدِّم قراءة نقدية لمسرحية (الواوي وبنات الشاوي)، وأتتبّع الفكرة الرئيسية للعمل وأحلّلها، وأجيب عن سؤال: ما الرابط بين الحكايتين؟
المقدمة
تبدأ المسرحية بصوتٍ مسموع لساردٍ خارجي مجهول الهُويّة، يقول: "اللي يانا وياكم، خيرٍ لفانا ولفاكم، وشرٍّ تعدّانا وتعدّاكم" وهي عبارة استهلالية تُعلن بدء القصّة الشعبيّة (الحزاية) وتهيِّئ المتلقي للدخول في العالم السردي.
وهذه المقدّمة تُشبه مفتتح (ألف ليلة وليلة)، وفيها يقول السارد الخارجي: "الحمدلله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، سيدنا ومولانا..إلخ"[4]. والشبه هُنا يكمن في وجود سارد خارجي يُحدّد العلاقة بينه وبين المُخاطَب السردي[5]. ولكن في (ألف ليلة وليلة) كانت العبارة تُشير إلى اشتراك السارد والمخاطَب السردي في الانتماء الديني ذاته، فكلاهما مسلم؛ وهو ما يكشف عنه الاكتفاء بـ (نا المتكلمين) في كلمتي (سيدنا ومولانا).
أما في مسرحية (الواوي وبنات الشاوي)؛ فقد عكست الجملة الافتتاحية وجود تجربة مشتركة لهُويّات ثقافية مختلفة، وأقول مختلفة؛ لأنّ الخطاب قائم على فرضيّة (نحن us وهم them) وعلامتها (يانا وياكم، لفانا ولفاكم، تعدّانا وتعدّاكم). أي أن الجملة تحتوي على: نا المتكلمين وكاف المخاطب، وذلك للتفريق بين هُويّة السارد وهُويّة المتلقّي.
وهذا الصوت الذي ظهر قبل رفع الستارة هو الحضور الوحيد للسارد الخارجي في المسرحية؛ إذ تنتقل عملية السرد بعد ذلك إلى شخصيات متعددة في النص المسرحي؛ فمثلًا في الجزء الثاني من المسرحية تنتقل عملية السرد إلى أهل الديرة، الذين يتولون مهمّة التعريف بالشخصيات، وهم: شمسة وقمرة ووالدهما الشاوي، وشرح أحوال الديرة قبل وفاته وبعدها.
لمن الغَلبة في الغابة؟
يبدأ الفصل الأول بصرخة من الأسد المحبوس في القفص، ممتعضًا، ومستعرضًا قوته في عباراتٍ توكيدية "أنا أسامة.. أنا غضنفر.. أنا الأقوى.. أنا الأكبر". وقريبًا من الأسد؛ تسيرُ فتاة في الغابة وهي تقرأ قصة، ويغلب صوتها زئير الأسد وهي تقرأ جزءًا من النص "الدنيا للأقوى". يغضبُ الأسد من جديد ويُعيد التأكيد "أنا أسامة!". وفي لحظة صمته يلتقط الأسد كلمة (الوسيلة) من النص الذي قرأته الفتاة بصوتٍ عالٍ "ابحث عن الطريق أو الوسيلة لتُصبح قويًّا؛ القوة ليست في الجسد دائمًا". وهذه العبارة تمثل الفكرة الرئيسية للعمل، وهي الخيط الذي يربط القصتين في المسرحية. فبعد سماعها يُدرك الأسد ضرورة أن يجد الوسيلة المناسبة للخروج من المأزق، وأنّ القوّة الجسدية التي استعرضها ليست كافية لتخليص نفسه من الحبس، ويهمس قائلًا: "لا بد حيلة وإلا وسيلة فيها أفرّ وأقدر أطلع". كانت الحيلة هي ادّعاء الظمأ والتودد للفتاة ومنحها الأمان لتُخرجه من القفص وإيهامها بالعودة إليه فور الانتهاء من شرب الماء. ولكن أدركت الفتاة متأخرًا أنها أخطأت؛ لأنها لم تعقل ما قرأت، فوقعت تحت رحمة الأسد الذي غدر بها وهمّ بأكلها لولا أنها طلبت تحكيم أول ثلاث كائنات تمرّ بالقرب منهما؛ فمّر القط والكلب والشجرة.
وهنا سأطرح سؤالًا يتعلق بتوصيف ما حدث: أكان محاكمة أم تحكيمًا؟ فقد قرأت أكثر من تعليق يصف الفصل الأول بمحاكمة الحيوان للإنسان، وأراه وصفًا غير دقيق لسببين، أما السبب الأول؛ فيتعلق بالمعنى اللغوي؛ إذ إن وجود الشجرة ضمن هيئة التحكيم يفُنّد تخصيصها بالحيوان. وأما السبب الثاني؛ فيتعلق بالآلية المُتّبعة والفروقات بين التحكيم والمحاكمة. فالتحكيم إجراء لحسم النزاع، يقوم فيه المتخاصمون بعرض مسألتهم على المحكمين؛ ليتخذوا بشأنها قرارًا ملزمًا، والتحكيم لا يكون إلا بالتراضي[6]، وهذا ما يُفسّر رجاء الفتاة المتكرر للأسد بالموافقة على تحكيم الآخرين للبت في المسألة بينها وبينه. ومن ثم؛ يكون الوصف الأدق لما حصل هو التحكيم.
وفي أثناء عملية التحكيم الأخيرة؛ يستخدم الواوي الحيلة ليُعيد الأسد إلى القفص؛ وذلك بادعائه عدم الفهم إلا بالتمثيل الحيّ، وحين يدخل الأسد القفص لتجسيد ما حدث بينه وبين الفتاة، يُحكم الواوي إغلاقه؛ وبذلك يكون الأسد قد دخل القفص بالحيلة مرتين؛ في المرّة الأولى، وقع الأسد في "شَرَك الإنسان"، على حد وصفه، وهذا التعبير يُشير إلى استخدام الحيلة العقلية التي غلبت قوته العضلية التي كان يتغنى بها في البداية، واستخدام الحيلة كان من قبل كائن أضعف منه جسديًّا، وهو الإنسان.
فالمسرحية، إذن، تناقش منطق القوة في عالم الحيوان وعالم الإنسان، وتُعطي أمثلة من عالمين سرديين مختلفين عن تغليب القوة العقلية على القوة الجسدية.
الموسيقى.. احتضان الكلمة وانسيابية الأداء الحركي
قُدِّمت المسرحية في قالب غنائي؛ وهذا يعني أن الموسيقى كانت حاضنة للكلمة ومجالًا رحبًا للأداء الحركي، وسأكتفي بعرض مثال واحد، وهو اقتباس حركة موسيقية من عمل عالمي، هو كرنفال الحيوانات THE CARNIVAL OF THE ANIMALS، وهو متتالية موسيقية[7] للمؤلف الموسيقي الفرنسي كامي سان سانس، وهو -في رأيي- اقتباس موفّق من عمل صُمّم؛ بهدف المرح، ويختلف عن بقية أعمال سان سانس، التي تمتاز بالرصانة، خاصة أن الاقتباس كان لحركة مسير الأسد THE ROYAL MARCH OF THE LION الذي هو بطل القصة الأولى. والحركة الأصلية تتضمن محاكاة موسيقية لزئير الأسد باستخدام نغمات البيانو الضخمة والسريعة، لكنها لم تُستخدم في المسرحية، على الرغم من أن استعمالها كان سيُضفي شعورًا بالخطر، خاصة بعد خروج الأسد من القفص ومواجهته الفتاة دون حواجز.
وهذه الحركة استخدمت مرتين في المسرحية، غير أن استعمالها لم يكن موفّقًا في المرة الأولى؛ لأنّ الموسيقى الأصلية تمثل شعور الأسد بالزَّهْو في أثناء المسير، ولا أظن استخدامها في أثناء وجوده في القفص يؤدي دلالتها. بل إنه حتى دون معرفة الدلالة للموسيقى الأصلية، لا يُعقل أن يكون التعبير عن شعور الحبس هو التعبير ذاته عن شعور الحريّة.
القوة من منظور إنساني: تمكين المرأة أنموذجًا
في الفصل الثاني من المسرحية ظلت الفكرة الرئيسية للعمل موجودة، واستُخدمت لمناقشة قضية تمكين المرأة والتحديات التي تواجهها. ولكن موضوع عمل المرأة لم يُطرح كخيار وإنما كمسار دفعتهم إليه الحاجة. فمن جهة أهل الديرة؛ تمثل المأزق في وفاة الشاوي وعدم وجود بديل له. ومن جهة الأختين تمثل العوز في عدم وجود مصدر للدخل بعد وفاة والدهم. مما اضطرهم إلى طلب الإذن من أهل الديرة لرعاية أغنامهم. وهُنا تظهر اعتراضات أهل الديرة على عمل الفتاتين؛ بسبب طبيعة المرأة الجسدية، واعتقادهم أن هذه الوظيفة لا تليق بهما؛ إذ إنها في حاجة إلى رجل يملك القوة الجسدية وحرية التنقل دون مخاوف. وهذا ما تؤكده الاقتباسات التالية:
"بس هالشغلة بحاجة لواحد
ريال ومفتول الساعد
يطوف الديرة.. داخل بره..
يتحدى أخطار الصحرا"
"شاوي بنيّة؟ صعبة الشغلة"
يحاول أهل الديرة عرض الرعاية الأبوية على الأختين، ولكنهما تصرّان على العمل، مع إبداء الامتنان والتقدير لعرضهم المساعدة.
ومما يمكن ملاحظته أن خطاب الأختين كان خطابًا ناعمًا بتضمنه عبارات الرجاء في سبيل الحصول على موافقة أهل الديرة. فالمرأة في النص المسرحي "تمسكنت حتى تمكنت" وأقولها من باب الدعابة والمصادفة اللغوية. لهذا السبب أرى أن طرح قضية عمل المرأة بهذا الشكل لم يعد مناسبًا للإعادة في الوقت الحالي؛ فقد تجاوزت المرأة -إلى حد ما- مسألة إقناع الآخرين بحقها في اختيار العمل المناسب لها، فالمطالبات بحقوق المرأة مبنيّة على الإيمان بمبدأ المساواة، والإخلال بهذا المبدأ هو سبب تحوّل الخطاب النسوي من اللّين إلى الحدّة، أما الحصول على الحقوق تفضلًا -كما في النص المسرحي- فيقابله الشعور بالامتنان.
ولكن يحسب للنص المسرحي استخدام لغة تناسب المجتمع آنذاك؛ للخروج بحل توافقي بين المرأة والسلطة الأبوية المتمثلة في أهل الديرة؛ فهو من جهة يخاطب الطفل بشكل مباشر، ومن جهة أخرى هو خطاب يدعو لتغيير مجتمعي؛ ومن ثم، كان من الحكمة أن يكون ناعمًا حتى لا يتصادم مع المجتمع؛ فالفنون والآداب هما قوى تغيير ناعمة.
وبالعودة إلى النص المسرحي، نجد أن الأختين تتعرضان لثلاثة تحديات، تمثل المخاوف، وهي:
-
العاصفة الرملية، ودلالتها: (راح الخوف وترك الصحرا).
-
الواوي: وهو يمثل في القصة الأولى الدهاء، وفي القصة الثانية المخاوف، لكن هذه المخاوف تتبدد بالسخرية منه وهروبه من الصحراء.
-
مرض قمرة المميت: وتمثل الخوف عند الأختين في شعور الفقدان، وأما أهل الديرة؛ فكانت مخاوفهم من انتشار المرض إذا بقيت قمرة دون علاج.
تلتقط شمسة تلميحات أهل الديرة بضرورة بيع ضفائرها لتشتري بثمنها دواءً لأختها المريضة. تُشفى قمرة فتعود الأختان إلى ممارسة عملهما في رعاية الأغنام، وتحتفيان بقدرتهما على مواجهة التحديات المختلفة.
لقد تضمنت المسرحية عوالم سردية مختلفة لتأكيد فكرة واحدة، وهي: الإيمان بالقوة العقلية وتغليبها أحيانًا على القوة الجسدية، "فالقوة ليست في الجسد دائمًا".
هوامش:
[1]: عبدالمحسن الشمري: مقال بعنوان التأليف لمسرح الطفل، المهرجان العربي لمسرح الطفل، الدورة الرابعة، العدد 8، 2 يونيو 2016.
[2]: برنامج مشوار – مقابلة مع الفنانة هدى حسين 2/2، 13 أكتوبر 2013، من الدقيقة 28:48 - 31:21.
[3]: لقاء هدى حسين – برنامج صافي يا لبن، 12 سبتمبر 2022، من الدقيقة 25:05 - 25:24.
[4]: لمزيد من التفاصيل حول السارد الخارجي في مفتتح ألف ليلة وليلة انظر: مرسل العجمي، السرديات: مقدمة نظرية ومقتربات تطبيقية، (الكويت، 2011)، مكتبة آفاق، ص 77.
[5]: يُقصد بالمُخاطَب السردي: من تُوجّه له الحكاية؛ وهو في هذه الحالة: القارئ للنص والمُشاهد للمسرحية.
[6]: خالد عبد الحميد: نطاق القوة الملزمة لاتفاق التحكيم، مجلة معهد القضاء، معهد الكويت للدراسات القضائية والقانونية، السنة 7، العدد 16، ديسمبر 2008، ص 16.
[7]: المتتالية الموسيقية: شكل من أشكال التأليف الموسيقي، يقوم على تجميع رقصات مختلفة بشكل متتابع، وقد شاع استخدامه في عصر الباروك. ( أميرة بكر العشري: دور آلتي البيانو في متتابعة "كرنفال الحيوانات" عند سان صانص، مجلة علوم وفنون الموسيقى، كلية التربية الموسيقية، المجلد 41، يونيو 2019، ص 196).