كانت المرأة حاضرة دوما في الأدب والفن عبر التاريخ ولا شك أن ما عانته من معاملة الجنس الأدنى الملوث بدمه والمرتبط بالخطيئة الأولى والطرد من الجنة وارتباط الإغواء بجسدها والمتع الدنيوية المرفوضة دينياً، سيترك صداه في الإنتاج الأدبي والفني سواء العالمي أو العربي، الذي تفاوت في تناوله لقضية المرأة بين التسليع والاستهلاك وبين نقد الصورة التي قيدتها عبر التاريخ منذ فقدت مكانتها الاجتماعية كأم عظمى لها قدسيتها وتدور حولها الحياة.
"نعاس"
رافقت الاستكانة والاستلاب حياة المرأة لتغدو كائناً يقوم بالواجبات المنوطة به دون نقاش مستهلكة طاقتها، حتى تفقد ذاتها وأحلامها وشغفها بالحياة، كما في الرواية القصيرة "نعاس" للكاتب الياباني هاروكي موراكامي فالبطلة تشعر أنها تعيش حياة ليست حياتها وفي لحظة من تراكم الضغوط و الإرهاق تعي ما فقدته وما تفقده بشكل يومي ومستمر وترفضه. يعبر موراكامي عن لحظة الوعي هذه بحلم تراه البطلة، حيث يقوم عجوز بإلقاء الماء عليها، فتستيقظ وكأن حياتها الحالية المستسلمة إنما هي حالة إغماء يجب أن تصحو منها، تستيقظ ولا تعود قادرة على النوم بمعنى أنها لن تعود للحياة السابقة أبداً، فهي تستيقظ ليس من النوم فقط بل من حالة الاستهلاك والاستلاب اليومي وفقدانها ذاتها أمام عبء الواجبات الزوجية والأسروية، وحيث نرى كيف يتحول الانسان (رجلاً أو امرأة) أمام الضغط الاقتصادي إلى روبوت لكن الحياة تمضي في هذه الأثناء دون عودة . تستيقظ البطلة ولا تعود قادرة على النوم لتستعيد حياتها التي تحب فتعود مثلا للقراءة التي انقطعت عنها بعد الزواج وتتناول الشوكولا المحرمة بالبيت لأنها تسوس الأسنان فزوجها طبيب أسنان ثم تبدأ بالخروج في نزهات ليلية بالسيارة دون أن تخبر أحداً وكأنها تسرق حريتها ومتعتها وهذه النزهات التي يقود موراكامي بطلته إليها ليست سوى التعبير عن علاقتها بالخارج الذي يتمسك بسلبها النور فهو يريدها في الظل دوماً وفي الخوف أيضاً. إنه الخارج المجتمع الذي نرى أنه لن يترك البطلة تكسر حدوده وتتجاوزه بسهولة، إذ تتعرض في إحدى النزهات لمحاولة السطو على سيارتها من شبان يتجولون ليلا بحثاً عن فريسة وتنتهي الرواية بمشهد مفتوح في إشارة لاستمرار هذا السعي من قبلها ( البطلة) واستمرار قتله من قبل المجتمع.
"ميثاق النساء" و"أقفاص فارغة"
أما حنين الصايغ الروائية اللبنانية في روايتها الأولى "ميثاق النساء" الصادرة عام 2023 فقد تناولت الاضطهاد والظلم الاجتماعي الذي تعيشه المرأة الريفية في بيئة دينية ملتزمة بحكم سلوك الأقليات في بلد عانى من حروب أهلية على أساس طائفي لفترة طويلة، وحيث تتواشج الأحكام الاجتماعية مع التعاليم الدينية والعادات الريفية السائدة مكبلة النساء بالحرمان من أبسط الحقوق كالتعليم. لكن بطلتها، تدرك أن المواجهة والعلم طريقها للتحرر من ربقة الواقع ولتحقيق أحلامها واتساع أفقها ومنح نفسها فرصة الإبداع والتطور الذي تريده أن يفتح آفاقاً ليس لها فقط بل لابنتها أيضاً.
وهذا ما تلتقي به مع الشاعرة الدكتورة فاطمة قنديل في روايتها الأولى "أقفاص فارغة" الحائزة على جائزة نجيب محفوظ عام 2022 أي أهمية التعليم الذي يصبح وسيلة لتحقيق الذات والاستقلالية وطريق لتحقيق الحلم بهما.
فأقفاص فارغة وهي سيرة ذاتية للكاتبة التي قامت بنبش ذاكرتها دون احتراس أو خجل ودون أن تهاب الآخر أو معاييره الاجتماعية تحدثنا عن معاناتها منذ الطفولة بما يرخيه عالم الكبار على عالمها ويؤثر في خياراتها فهي الفتاة التي حرمت من غرفة خاصة بها لأن الأولوية كانت للذكور بالاستقلال وكيف تعرضت للتحرش، وكيف أمضت زمناً طويلا في مسامحة الآخرين وغفران أخطائهم بحقها مما سمح لهم باستغلالها تحت تأثير العاطفة والعرف الاجتماعي وحتى على الصعيد الشخصي، أذعنت للحب فقبلت أن تكون زوجة ثانية، لتتلقى الصدمة مرة تلو الأخرى لكنها نهضت من جديد فأتمت تعليمها ونالت الدكتوراه في النقد الأدبي وأسست لحضور أدبي عالمي كشاعرة نالت الجوائز رغم محاولة أخوتها التصغير من نجاحاتها و إنجازاتها.
في رواية قنديل نرى المجتمع الذكوري المتناقض بين سعيه للتطور وبين أحكامه التي تحرمه من قوة بشرية وإنسانية (النساء) جديرة بالاعتراف بمساهمتها وحضورها، معرية عفن العلاقات الاجتماعية القائمة على ازدواجية المعايير وانهيارها أمام المصلحة والنفعية التي تسربت إلى أكثر العلاقات حميمية تحت الضغط الاقتصادي وانهيار الطبقة الوسطى في مصر. ونرى تناقض الذكر وتمزقه النفسي بين النكران وممارسة سلطته على أخته وخضوعه لزوجته فالمعايير مزدوجة بل متناقضة وتخضع لسلطة القوي مما يفقدها أخلاقيتها الحقيقية. لنلمس كيف تعيد الأسرة دوماً إنتاج الظلم على العنصر الضعيف وهو المرأة.
ولعل التغيير يأتي من الأفراد، فحين تقرر تغيير المكان دون ترك عنوانها تقطع علاقتها بالماضي وترمي أقفاص الذاكرة لتتحرر من ذاتها القديمة وبذاتها المدركة والواعية لقيمتها وحقيقتها وتصبح ما تريد.
خيط البندول لنجاة عبد الصمد
ليس من السهل أبداً أن ترمي معايير المجتمع دفعة واحدة وتتخلص من أحكامه التي يحاسب بها المرأة، كحكم العانس أو العاقر، نعم إنه الخارج الذي لن تستطيع المرأة تجاوزه بسهولة خاصة حين يطعنها بأنوثتها أو أمومتها. كما في رواية خيط البندول للكاتبة السورية نجاة عبد الصمد الصادرة عام 2023 فالبطلة تريد طفلاً لا تمنحه لها الطبيعة لتقع تحت سطوة الحرمان من أعز ما تملك (الأمومة) فتبدأ رحلتها في محاولات طفل الأنبوب المتكررة دون جدوى، وتتعطل حياتها المهنية ومشاريعها وأحلامها وينعكس الفشل مرة تلو أخرى على علاقتها بزوجها وبذاتها وبالآخرين، لم تكن الرغبة بالحمل ذاتية وحسب، بل هي اجتماعية أيضاً فالمرأة تخشى احتمال رفض المحيط لها إذ تفقد وظيفة أساسية ( الأمومة) وقد تكرس ذلك في اللاوعي الجمعي.
وللمفارقة إنها الأمومة نفسها التي تصبح جريمة ومأساة عند فتاة مراهقة تتعرض للاغتصاب فتنجب طفلا غير شرعي. ورغم أنها لأبوين متفهمين وواعيين إلا أنها تخاف وتخفي الأمر عنهما إذ إن الحدث أكبر من استيعابه من قبلها، لا شك أن تجربة الاغتصاب تجربة مريرة على المرأة وخاصة على فتاة صغيرة مراهقة. تقوم الكاتبة بوصف هذه التجربة التي إن لم تدمر حياة الفتاة فستترك أثرها واضحاً على حياتها. من آلام الولادة إلى تلك المشاعر الجامحة والمتناقضة التي تعيشها الأم الطفلة بين الرفض والتمني بين الشفقة والقسوة. في لحظة منفلتة من كل الحسابات حين يحتقن ثدياها بالحليب وتلح الرغبة بإرضاع الطفل الذي لا ذنب له إذ تغدو مشاعر الأم ناراً تكوي جوفها وأحشاءها، وفي هذه الإضاءة تجعلنا عبد الصمد ندرك ضغط غريزة الأمومة على المرأة الذي يجعلها تتحمل كل أنواع القهر في حياتها مقابل أن لا تخسر أبناءها في مجتمعات لا يقف القانون فيها إلى جانبها أبداً.
لا تتوقف الكاتبة عند تجربة الحرمان من الأمومة وضغطها على المرأة بل تأخذنا إلى ما يمارسه المجتمع عليها بأكثر من شكل فالأم التي خسرت زوجها ستتزوج من أخيه رغم أنها ترفضه نفسياً وروحياً حفاظاً على شرف العائلة وأولادها وتحت ضغط العرف الاجتماعي.
في خيط البندول تمزج نجاة بين دورها كروائية ومهنتها كطبيبة. فتخبرنا عن أهمية التوعية والثقافة الجنسية للجيل الشاب لتوجيه طاقاته ومنحه الوعي اللازم للجسد واحتياجاته وخاصة الفتيات من أجل ثقافة صحية وتفكيك خيوط الأزمات النفسية التي ترافق النساء إذ يحملن اغترابهن عن جسدهن مدى الحياة في المجتمعات الشرقية، بينما شاهدت هي حين درست الطب في روسيا كيف أن الفتيات اللواتي يخضعن لدورة الإسعافات الأولية مثلاً، يتم تدريبهن على الفحص النسائي كأي فحص طبي آخر.
وتتابع بتطعيم سردها بمعلومات من تاريخ الطب لنرى اضطهاد المرأة قديماً ففي القرن الثامن عشر في أوربا، كانت المرأة ممنوعة من إكمال تعليمها أو مزاولة بعض المهن كالطب ما اضطر الطبيبة البريطانية مارغريت آن بكلي لانتحال شخصية خالها المتوفي في مقتبل العمر لتستطيع إكمال تعليمها ثم ممارسة الطب باسم الطبيب جايمس باري إذ تنكرت بلباس رجل لمدة اثنين وخمسين عاماً. عملت خلالها في الجيش البريطاني في الهند وفي جنوب افريقيا وأجرت أولى العمليات القيصرية وتابعت ترقيتها في أوربا وكندا باسم الخال جايمس حتى أصبحت كبير الجراحين والمفتش العام للمستشفيات العسكرية، إلى أن توفيت فاكتشف أمرها على يد الخادمة وكانت الفضيحة، إذ اتهمت بانتحال اسم ورتبة ضابط بريطاني رغم كل ما قدمته وفعلته عبر تاريخها المهني والإنساني.
ربما لا يستطيع الأدب تغيير الواقع لكنه يستطيع المساهمة في بناء الوعي والتنوير بتقديم النموذج الإيجابي وتسليط الضوء عليه وكشف القضايا المسكوت عنها وتعرية الظلم والقهر اللذين تتعرض لهما النساء. في مجتمعات ما زالت بحاجة لتمكين الإنسان وانتمائه الوطني والمدني والقانوني وخصوصاً المرأة عبر الحث على التغيير الجذري في البنى الاجتماعية الراعية لكل هذا.
[تُنشر هذه المقالة بموجب اتفاقية تجمع بين جدلية وموقع صالون سوريا].