«لا مكان للعنف السياسي في بلادنا» هذه هي الجملة التي ردّدها، أو ردّد تنويعات عليها، عشرات السياسيين والمعلّقين الأمريكيين في الساعات والأيام التي أعقبت قيام شاب أمريكي بمحاولة فاشلة لاغتيال الرئيس السابق والمرشح الجمهوري دونالد ترامب في 13 يوليو في تجمّع انتخابي في ولاية بنسلفانيا. ويستحق هذا الإجماع من الطبقة السياسية في الولايات المتحدة على نفي العنف، وقفة تأمليّة. وذلك لفرط ما يعكسه من إنكار لتاريخ طويل من العنف المتأصّل والمتجذّر والمستمرّ في التاريخ السياسي والواقع الاجتماعي في الولايات المتحدة، مهما كان تفسيرنا لما قد يعنيه «السياسي». كما أنه دليل آخر على تفشّي النفاق والتناقض وازدواج المعايير في مقاربة العنف.
ليس اغتيال الرؤساء أو محاولة اغتيالهم حدثاً غريباً على تاريخ البلاد، فقد اغتيل أربعة رؤساء في الماضي. من آبراهام لنكولن في 1865، مروراً بجيمس غارفيلد في 1881 ثم وليام ماكنلي في 1901، وصولاً إلى الاغتيال الأشهر في العصر الحديث الذي كان ضحيته جون كيندي في 1963. كما نجا رئيسان، قبلَ ترامب، من محاولة اغتيال، هما ثيودور روزفلت في 1912 ورونالد ريغان في 1981.
ولا يخلو الماضي القريب، والقريب جداً، من أمثلة كثيرة على العنف السياسي. فعلى سبيل المثال، في 2011 هوجمت غابي غيفوردز النائبة الديمقراطية في الكونغرس عن ولاية أريزونا، وقتل ستة وجرح كثيرون، من بينهم غيفوردز. (واللافت أنها كانت من الذين أدلوا بدلوهم بعد محاولة اغتيال ترامب، فكتبت في اليوم التالي افتتاحية في «وول ستريت جورنال» تؤكد فيها أن العنف السياسي معاد للقيم الأمريكية! في 2020 كشف جهاز التحريّات الفيدرالي مؤامرة لاختطاف حاكمة ولاية ميشيغان، وفي يناير 2021، حاولت مجاميع اليمينيين من مناصري ترامب اقتحام مبنى الكابيتول في العاصمة، اعتراضاً على نتائج الانتخابات، وكان عدد منهم ينوي قتل نائب الرئيس مايك بينس. ودافع ترامب عن هؤلاء ووصفهم بأنهم «وطنيّون».
وهكذا فإن العنف قد لا يستدعي التنديد حين يكون موجهاً ضد الخصوم السياسيين. حين سئل ترامب عن النازيين الجدد الذين تظاهروا في مدينة شارلوتسفل في ولاية فرجينيا رافعين شعارات عنصرية في 2017 وهجم أحدهم ضد مظاهرة مناهضة للعنصرية بسيارته وقتل امرأة، لم يندد بهم، بل قال «هناك أناس جيدون على الطرفين». لا شكّ في أن صعود ترامب سياسياً وسيطرته على الحزب الجمهوري ووصوله إلى البيت الأبيض، زادت من حدة وشراسة الخطاب العنصري وشجّعت القوميين البيض واليمين المتطرّف والعنصريين على احتلال مساحات أوسع في الحيز العام، والمجاهرة بمخططاتهم وأهدافهم. لكن الكثير من الديمقراطيين والليبراليين يتناسون أن هذه التيارات والنزعات العنصرية الإقصائية، كانت موجودة قبل صعود ترامب وهي متجذرة في المجتمع الأمريكي وثقافته السياسية الرسمية والشعبية. يحنّ هؤلاء في تصريحاتهم ومقالاتهم إلى ذاك الزمن السعيد الذي كانت فيه البلاد في نظرهم أنقى وأجمل وأكثر احتضاناً للآخر وإلى آخره، قبل صعود ترامب. والمفارقة أنهم أيضاً يريدون «جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى». ويذكّرنا هذا بقصيدة معروفة للشاعر الأمريكي الأسود لانغستون هيوز (1902-1967) بعنوان «فلتكن أمريكا أمريكا مرّة أخرى» نشرها في 1938 والتي تتكرر فيها جملة «لكن أمريكا لم تكن أبداً أمريكا بالنسبة لي» لتذكّر بالهوة الشاسعة التي تفصل الواقع المعيش عن الأسطورة السياسية، وتظهر تهافت أسطورة الحلم الأمريكي الذي قلّما يتحقق للأقليّات العرقية وللفقراء. يقول هيوز «لم تكن هناك يوماً مساواة ولا حرية في «وطن الأحرار»». والجدير بالذكر أن السيناتور الديمقراطي جون كيري (الذي أصبح وزير الخارجية في عهد أوباما) كان يردّد مطلع القصيدة في خطاباته أثناء حملته الرئاسية ضد جورج بوش في 2004 «فلتكن أمريكا أمريكا مرّة أخرى/فلتكن الحلم الذي كانته». كان الديمقراطيون قبل عقدين يروّجون لعودة أمريكا لما كانت عليه قبل زمن بوش الابن.
ماذا عن العنف الممنهج والموثق الذي تمارسه مراكز الشرطة يومياً في طول البلاد وعرضها ضد الأقليّات العرقية والفقراء والمهاجرين؟ هل هو عنف سياسيّ أم لا؟ في اليوم نفسه الذي نجا فيه ترامب من محاولة الاغتيال اتصلت سونيا ماسي، امرأة سوداء في مدينة سپرنغفيلد في ولاية إلينوي بالشرطة، بعد اقتحام شخص غريب لمسكنها. وعند قدوم الشرطة أطلقوا النار عليها وأردوها قتيلة. وهذه حادثة تتكرر كثيراً مع الأقليّات حيث تقتلهم الشرطة بدلاً من حمايتهم أو إنقاذهم. مرّت قبل أيام الذكرى العاشرة لمقتل إيرك غارنر في نيويورك عام 2014. وهو رجل أسود فقير كان يبيع السجائر بالمفرد خارج محل في ستاتن آيلند في نيويورك حين اعترضه رجال الشرطة. وحين قاومهم صرعوه أرضاً ووضع أحد رجال الشرطة معصمه حول رقبة غانر الذي صرخ «لا أستطيع التنفّس» إحدى عشرة مرّة. لكن ذراع الشرطي لم تتزحزح ومات غارنر خنقاً. وبعد أن لم يدن الشرطي الذي قتله من قبل هيئة محلفين في محاكمة، خرجت مظاهرات عارمة في الولايات المتحدة. وأصبحت جملة «لا أستطيع التنفس» التي كانت آخر جملة تفوّه بها شعاراً في ما بعد لحركة «حياة السود مهمة». فهي الجملة ذاتها التي تفوه بها جورج فلويد المواطن الأسود، الذي قتلته الشرطة في مدينة مينيابولس في 2020 بالطريقة ذاتها. وكانت تلك شرارة الاحتجاجات الواسعة التي عمّت الولايات المتحدة.
تشير التقديرات إلى أن مجموع عدد الأسلحة الفردية في الولايات المتحدة يفوق عدد السكان، وهناك عدد كبير من الأمريكيين، الذين يعتبرون التعديل الثاني في الدستور الذي يضمن حق الاحتفاظ بالسلاح وحمله شبه مقدس لا يمكن المساس به. نشرت جريدة «ذا أونيون» الساخرة تحقيقاً تضمّن مقولة بليغة عن تفشّي العنف في المجتمع الأمريكي، نسبت لمواطن أمريكي (متخيّل) جاء فيها «كنت أتوقّع هذا العنف في مدرسة، أو كنيسة، أو «سوق» أو «منتزه» ولكن ليس في تجمّع انتخابي!».
الغالبية العظمى من السياسيين والمعلقين الذين سارعوا لنفي «العنف السياسي» كانوا ضد الحراك الطلابي المساند لفلسطين، ووقفوا ضد الاحتجاجات ومخيمات التضامن مع غزة، مع أنها كانت سلمية وتناشد بوقف عنف الإبادة الصهيونيّة. ولم يترددوا في اتّهام الطلاب والأساتذة زوراً بتشجيع الإرهاب واللاسامية. وأيدوا عنف الشرطة ضد الطلاب واقتحامها للجامعات.
يشير هذا الإجماع إلى نفي وإنكار العنف إلى تراتبية وقاموس أيديولوجي في اللاوعي الجمعي يستعان بهما، لا شعورياً، في أغلب الأحيان. ويشكلان المرجع لتمييز العنف المقبول، الذي يحتفي به كلما مورس، أو قد يمر مرور الكرام، عن العنف المكروه والمستهجن، الذي يستدعي التنديد والاستنكار والرفض. وتعتمد التراتبية وقاموسها المرافق على الانحدار العرقي أو الطبقي للفرد (أو الجماعة) التي يستهدفها العنف، والانتماء السياسي أحياناً. وبالرجوع إلى هذه التراتبية، فليس مستغرباً أن يكون معظم هؤلاء ضد عنف الغزو الروسي لأوكرانيا والحرب المستمرّة، لكنهم ليسوا ضد عنف الإبادة الصهيونية.
[نُشرت هذه المقالة لأول مرة في موقع القدس العربي].