(دار فضاءات للنشر، عمّان، 2024)
[زياد أحمد محافظة، كاتب وروائي أردني. صدرت له عدة روايات، منها رواية "يوم خذلتني الفراشات" التي ترشحت للقائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب. وحصلت روايته "نزلاء العتمة" على جائزة أفضل رواية عربية لعام 2015 ضمن جوائز معرض الشارقة الدولي للكتاب].
جدلية (ج): كيف ولدت فكرة النص، ما هي منابعه وروافده ومراحل تطوّره؟
زياد محافظة (ز. م.): لا تأتي فكرة أي عمل روائي كما لو أنها ثمرة سقطت من أعلى الشجرة، بل تختمر الفكرة وتنضج في عقله ووجدانه على مدى فترات طويلة، وتظل تعاين مناطق خفية في داخله وتحفر بهدوء وترو حتى تتسرب على شكل رواية أو قصيدة أو قصة أو ما شابه. بالنسبة لي، شرعت في كتابة روايتي الأحدث "تمهيد لعزلة طويلة" قبل عدة سنوات، ونشرتها مطلع هذا العام. لم تأت فكرة الرواية استجابة لمشهد سياسي أو اجتماعي أو إنساني استجد مؤخراً، لكن سياقها الروائي لا يخرج عن إطار مشروعي الروائي الخاص الذي أعمل عليه منذ سنوات طويلة. في أحيان كثيرة، يفكر المرء وسط هذا الخراب والأسى والألم والخيبات العديدة التي نعيشها في جدوى الكتابة وأهميتها! ليدرك مجدداً أن الرهان على الكتابة هو رهان على الحياة وديمومة الأمل والمستقبل المنشود، بالنسبة لي الرواية الحقيقية شريكة في تقاسم الهمّ الإنساني وخير وسيلة نحكي بها حكاياتنا، فهي الصوت الأمين للبسطاء الذين يدفعون على الدوام ثمن الحماقات والأخطاء والاخفاقات والزلاّت على اختلاف أنواعها.
(ج): ما هي الثيمة الرئيسية للكتاب، ما هو العالم الذي يأخذنا إليه النص؟
(ز. م.): يفترض بأي رواية أن تغري القارئ بعوالم جديدة وفاتنة، بآفاق ومساحات رحبة من التأمل. الرواية القريبة من القارئ هي التي تحكي بلسانه، وتلامس خطوطه الحمراء وتسرد جانباً من حكايته دون أن يقصد أو يشعر. تتناول روايتي الأحدث "تمهيد لعزلة طويلة" حكاية رجل يعمد إلى تغيير مصائر الآخرين والتلاعب بها، وإعادة رسمها وتشكيلها بصورة متخيلة أجمل من تلك التي قررها عليهم القدر، محاولاً بهذا منحهم شيئاً من البهجة الزائفة والطمأنينة المشتهاة، أو تجنيبهم لحظات قاسية أو موتاً محتماً، وهو إذ ينذر نفسه لهذه المهمة التي ينساق فيها لمخيلته الخصبة وسرده الأنيق، إنما يفعل هذا سعياً منه للتكفير عن زلاّته والتطهر مما علق بروحه من سقطات وأكاذيب وخيبات. لتكون الرواية بهذا، رواية الاحتمالات المتعددة، وجواز كل الوجوه وعدم جوازها في آن واحد.
تمضي فصول الرواية التي تجري أحداثها في عمّان، في أزمنة متداخلة، وأجواء تتشابك فيها العلاقات الإنسانية وقصص الحب والمصائر الغامضة، مع الأحداث السياسية والاجتماعية التي تفرض نفسها على المشهد الروائي وتدخل طرفاً فاعلاً فيه. ومع تصاعد البناء الدرامي للحكاية، تتوالد القصص وتتعقد الأحداث لتميط اللثام عن تفاصيل صغيرة، كانت تتشكّل على مقربة من القارئ كتمهيد للحظة فارقة، تدفع بطل الرواية للانسحاب من الحياة، واللجوء لعزلة طوعية طويلة، يُخضع فيها نفسه وحياته لمحاكمات نفسية عميقة، ترهق ذاته المكبلة بالأسى، لتمسي العزلة ملاذاً، والألم مهرباً، ومواجهة الذات سبيلاً وحيداً للخلاص، ليدرك بطل الرواية في نهاية المطاف أن المسالك المختصرة لا تصل بنا عادة للوجهة المنشودة، علاوة على أن عبثنا بأقدار الآخرين وتلاعبنا بها، لا يمكن له بأي حال من الأحوال أن يغيّر شيئاً من قدرنا نحن.
(ج): عملك الأحدث عبارة عن رواية، هل لاختيارك جنساً أدبياً بذاته تأثير فيما تريد أن تقوله، وما هي طبيعة هذا التأثير؟
(ز. م.): ما يهمني كروائي هو الكيفية التي أستطيع من خلالها تحويل الفكرة التي تدور بمخيلتي، بما تحويه من أحلام ورؤى وقصص وأحداث وملامح وشخصيات وصراعات، إلى نص إنساني قابل للتأمل، وأرى أن الرواية بعوالمها الرحبة قد منحتني ما أريد. الرواية كما أراها أفقٌ مفتوح على تجليات الحياة الإنسانية، فإذا كان الشعر بسطوته الجارفة هو النمط السردي الذي عبّر طويلاً عن روح العالم القديم ومعتقداته، فإن الرواية بعوالمها المتشعبة والمتعددة، استطاعت أن تسطّر ملحمتها الخاصة. في روايتي الأحدث وما سبقها من روايات، من الطبيعي أن يكون البحث في حاضر الإنسان ومصيره المبهم في صدارة اهتماماتي، فما جدوى الحياة إن فقد الإنسان فيها قيمته وجوهره الحقيقي! أنا وفيٌّ ومنحازٌ دوماً لقيم الإنسانية والجمال والحق والمحبة، لا أتقصد التنقيب عن مخاوف الإنسان، قدر حرصي على منح شخوص رواياتي الحق في التعبير عن أحلامهم وآرائهم وتطلعاتهم وهواجسهم بحرية تامة، دون أن أفرض عليهم رؤية أيديولوجية أو تياراً فكرياً ما. اليوم أرى أن قضايا مجتمعاتنا متشابكة ومتداخلة بصورة يصعب فرزها، فجميع مسارات الحياة وقصصها وحكاياها وهذه الشبكة المعقدة من العلاقات والتبدلات الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية تتمحور بشكل أساسي حول الإنسان، فأي طريق ستسلكه روائياً، سيقودك لسؤال الحياة الجوهري حول هذا الإنسان.
(ج): ما هي التحديات والصعوبات التي جابهتك أثناء الكتابة؟
(ز. م.): هي لحسن الحظ تحديات لوجستية أكثر منها إبداعية أو أدبية؛ أي تحديات تتعلق بالتزامات الحياة المتعددة والمتشعبة، وضيق الوقت المتاح للكتابة، وارتباطات عديدة سواء للسفر أو المشاركة في أنشطة وفعاليات ثقافية متنوعة. لذا أحاول قدر استطاعتي تخصيص الوقت الكافي لإنجاز الأعمال الروائية التي أعكف على كتابتها.
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الإبداعية؟
(ز. م.): صدر لي لليوم 8 روايات ومجموعة قصصية واحدة، وقد شكّلت هذه الأعمال فيما بينها ملامح مشروعي الروائي الذي يحفر عميقاً في العلاقة الشائكة بين السلطة وأدواتها وإخفاقها من جهة ومعاناة الفرد العربي ومصيره وخيباته من جهة أخرى. حصلت روايتي "نزلاء العتمة" على جائزة أفضل رواية عربية لعام 2015 ضمن جوائز معرض الشارقة الدولي للكتاب، كما اختيرت روايتي "يوم خذلتني الفراشات" للقائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب عام 2012. وصدر لي إضافة لهذين العملين الروائيين، أعمال أخرى هي رواية "بالأمس كنت هناك"، ورواية "أنا وجَدّي وأفيرام"، ورواية "أفرهول"، ورواية "حيث يسكن الجنرال"، ورواية "سيدة أيلول"، ومجموعة قصصية بعنوان "أبي لا يجيد حراسة القصور".
(ج): هل هناك نصوص كانت ذات تأثير خاص، أو قرأتها أثناء إنجاز النص؟
(ز. م.): لا تبدأ عملية القراءة مع انطلاق أي مشروع كتابي ولا تتوقف أيضاً بانتهاء النص الذي يعكف الكاتب على إنجازه، القراءة عملية يفترض أن تتسم بالديمومة والتنوّع. شخصياً أقرأ كثيراً في السياسة والأدب والأديان والتاريخ والعلوم والفلسفة، وأتابع بدقة ما يجري في هذا العالم محاولاً بلورة رؤية شخصية وتصور حقيقي لما يدور حولي في هذا العالم الحافل بتناقضاته وأحداثه الجسام.
(ج): هل تُفكّر بقارئ محدّد أثناء الكتابة، صفه لنا؟
(ز. م.): ليس ثمة قارئ محدد في عقلي ولا أتوجه بكتابتي لشريحة أو فئة بعينها. أكتب لأقاسم القرَّاء هواجسهم وأحزانهم وخيباتهم، محاولاً إضاءة شيء من الدروب المعتمة لهم، في نهاية المطاف نحن في قلب هذا العالم نتشارك القضايا ذاتها، تلك القضايا التي تقف شائكة بوجهنا وتمتد على مدى طيف واسع من وجوه القمع السياسي وانتهاك الحقوق، والبطالة والفقر والفساد وسوء توزيع الثروة، التوتر بين التقليد والحداثة وتحديات التكنولوجيا، الخوف على الهويات والانتماءات المحلية، قلق الاغتراب والهجرات بمضامينها المتنوعة، المرأة وقضاياها الشائكة، التحولات العميقة في قضايا العدالة الاجتماعية، الحرب وأهوالها وبشاعاتها. هذه الشبكة المعقدة لا تعني قارئاً أو فرداً بعينه، بل يمتد تأثيرها لينال الجميع دون استثناء. وكما أقول دائماً ليس المطلوب من الرواية أن تحلَّ جميع مشاكلنا أو تقدِّمَ لنا وصفة سحرية لحياة أفضل، هذا ليس غرض الرواية وفضاءها، الرواية مشروع إنساني ونفسي عميق، يتيح لنا التخلص من عذاباتنا والتأمل الأنيق في كل شيء حولنا، وانتظار الغد بشيء من الأمل.
(ج): ما هو مشروعك أو عملك الروائي القادم؟
(ز. م.): الأفكار والمشاريع لا تنتهي، ويحتاج الكاتب عمراً مضاعفاً لإنجاز وكتابة المشاريع التي تحتشد في داخله. ما يهمني بالمقام الأول هو إنجاز أعمال روائية تحترم القارئ وذائقته، أعمال تتسم بالتجديد والتجريب على صعيد الرؤية والموضوعات والبناء وتقنيات السرد. بالتأكيد لن أغامر بنشر أي عمل جديد ما لم يقدم إضافة حقيقية لي ولمشروعي الروائي وللقراء على حد سواء.. وأرى أن من الضروري لأي روائي يتعامل مع نصه الروائي بوصفه انعكاساً لرؤيته الذاتية وتطورات الحياة وتبدلاتها، أن يفكر دوماً في تطوير أساليبه سواء على مستوى تقنيات الشكل واللغة وطرق السرد وبنية المكان وحركة الزمان وزوايا الرؤية والمعالجة واستخدام الحيل السردية وتوليد الحكايا، على أن يتم توظيف هذا التجريب أو تطوير أسلوب الكتابة لخدمة العمل الروائي ولإيصال رسالته بالشكل الأمثل.
مقتطف من الرواية
"كذبتُ في حياتي مرات كثيرة، وأخطأتُ مرة واحدة فقط. أما أوهن لحظات حياتي فسآتي على ذكرها بعد قليل.
امرأتان فقط رحلتا قبل أن تعلما سرّي، أمي التي رحلت منذ وقت طويل، وحنان التي مضت وتركتني عاجزاً ووحيداً. وكلاهما اليوم في عالم صامت وبعيد.
مثلما بدأ كل شيء بحلم، انتهى بحلم أيضاً. في حلمي الأول، رأيت شيخاً متربعاً فوق الغيوم، حزيناً وكان حزنه عميقاً ومرئياً، كلما دققت النظر في هيئته، غابت ملامحه وتلاشت. أراه من بعيد، يجلس صامتاً وكأن على كتفيه عبء ثقيل، يمرُّ بيمناه على حقول شاسعة ومليئة بالسنابل وكأنه يمسّد عليها، بينما تعصر يسراه غيمة مكتنزة فينهمر من بين أصابعه النحيلة، مطرٌ غزير. لم أفهم شيئاً من هذا المشهد الذي كان غارقاً بالسكينة والغرابة! الجو بارد ولا صوت سوى تمايل السنابل عن يمينه ووقع حبات المطر عن يساره.
لا أعرف في أي وقت من النهار كان هذا! ما أتذكره أن ضوءاً بلون الحليب يغمر المساحة التي تحيط به، ونجوماً صغيرة وبرّاقة تمتد لمسافة شاسعة وتضيء حوله بكثافة.
لا أعلم أيضاً إن كنت أقف حينها على غيمة أو فوق نتوء صخري حاد أو حافة تشبه نهايات الأشياء! لكني كنت متعباً، متعباً للغاية، حلقي جافّ ولا أقوى على صعود الدرج الأملس الذي لمحته بالقرب مني.
كنت أشعر أن ثمة مسافة شاسعة بيني وبينه، لكأنه كان يبتعد ويقترب بصورة لا تصدق! هكذا خيّل إليّ. أما أنا فواقف في مكاني وفراغ عميق حولي أخشى السقوط فيه. بقيت صامتاً فترة طويلة، أراقب باندهاش ما يجري حولي وأجول ببصري في الأرجاء. كنت وحيداً ومرتبكاً وأنا أرى الأفق يتضاءل أمامي، ويكاد ينحشر في زاوية أضيق من رأس دبوس.
انتابني خوف مفاجئ، رحت أصرخ بشدة لكن لا مجيب، أفزع صراخي على ما يبدو سرب حمام كان يحطّ بالقرب مني. طار الحمام وراح يصفق بأجنحته مخلفاً فوقي شيئاً من الريش الخفيف. عدت للصراخ مجدداً، لكن هذه المرة ناديت عليه. كان هذا آخر أمل لي لتفكيك هذا المشهد الغريب الذي وجدت نفسي أسيراً له.
لم أتوقع أن يسمعني أو يلتفت نحوي. كنت أظنه مضى بعيداً في مسارات سحيقة وملتوية، لكنه فعل! التفّ عائداً بسرعة واقترب مني ثم حال بيننا شيء ما؛ لا أدري ما هو بالضبط! سحابة كثيفة من الدخان؟ غشاء لا نهائي من البياض الرقيق؟ أو فجوة يصعب الإحاطة بمداها! في تلك اللحظة توقفت عن الصراخ، وبانَ الخوف والإجهاد على وجهي. تركني قليلاً حتى هدأت ثم تطلع نحوي مليّاً وأشار لمكان قَصي وقال لي كلمة واحدة لا غير: "عُد".
وهذا ما كان.
عدت مطيعاً كما أمرني، لكن لم يفارق عقلي يوماً هذا المشهد الذي ما زلت أذكر تفاصيله بدقة.
ما لا أعلمه وقالته لي أمي فيما بعد، إن الدهشة عقدت لسانها حينما فتحتُ عيني ونهضت من سريري! كانت تظن أني تركتها ورحلت لعالم آخر، رغم ذلك لم تخبر أحداً ولم تصرخ أو تبدِ أي انفعال عندما حاولت إيقاظي ذاك الصباح ولم أستجب لها. لو كانت واحدة غيرها للطمت وجهها وملأت البيت صراخاً وعويلاً لكنها لم تفعل، بل جلست بجانبي وظلت تتأمل وجهي. عندما نهضتُ، لم تسألني عن شيء، كانت تعلم أني سأقصُّ عليها يوماً ما حكاية ما جرى، لذا ظلت تنتظر، وفي اليوم الذي جلستُ فيه قربها ورحت أحكي لها ما جرى، نظرت لي برقة وقالت: أتعرف معنى عُد؟. قلت لها كلا. قالت لي لا عليك، ثم ضمتني لصدرها وشردتْ طويلاً.
اليوم وبعد كل تلك السنوات، يظل السؤال حائراً في عقلي، لماذا طلب مني العودة! وهل عدت حقاً؟ ولأي غرض؟ وأي معنى لحياتي اليوم وقد تمنيت في مراحل كثيرة لو بقيت في ذاك العالم الغارق في سحره ونظامه الدقيق.. تمنيت لو أني طويت تلك الصفحة عند ذاك السطر وانتهى الأمر. لكني عدت كما أريد لي، وها أنا أكمل حياتي وحيداً وتعيساً ومحاطاً بأسئلة لا إجابة لها. رحلت أمي وغابت بعدها حنان أيضاً، وها أنا أقف وحيداً ومثقلاً بالأسى أمام جدران تسد الأفق أمامي.
اليوم أدرك أكثر من أي وقت مضى أنه من دون أن تفقد شخصاً عزيزاً على قلبك، لا يمكن لك أن تكوّن فكرة واضحة عن قسوة الحياة.
ليس لدي ما يكفي من الشمع لأصنع لك تمثالاً. لا ترف الأزمنة الهادئة، ولا ضوء القمر المرتجف، ولا ما يسعف من كلمات لأنهي قصيدتي نصف العمودية. لم يعد في اللوحة أمامي ذاك البياض الذي يتيح لي رسم وردة أخيرة؛ رغم كل هذا، ما تزال طريقي محتشدة بأشخاص تحفل حياتهم بالشقاء، وعليّ أن أهب كل واحد منهم ومن حيث لا يدري، حياة جديدة.
لا أحد يأبه لما أفعل في ساعات الليل الطويلة التي أقضيها وحيداً. أقف في شرفة البيت الضيقة، وأجول بنظري في المدى الفسيح أمامي.. في البيوت التي يلتصق بعضها ببعض من غير انتظام، في أزقة الحيّ المعتمة والمغبرة، في النوافذ المغلقة التي يتناسل من بين شقوقها ضوء متكاسل وشحيح، في حكايا القلق والألم والحسرة التي تعشش في أرواح الناس وبيوتهم. حين تخذلني قدماي، أجلس على كرسي صغير، أراقب سماء عمّان التي تخلت عني مثلما تخلّت عن هؤلاء المساكين وتركتهم في شقاء يومي، أرشف شاياً بارداً واسترق السمع على جارتي أم شادي وهي تبكي بحرقة في طقس لم يتغير منذ شهور. أعيد مطالعة الوجوه المتعبة، الغارقة في البؤس والتي تصرّ على الالتصاق بذاكرتي، أو أقلّب بقايا الصور التي التقطها في تجوالي اليومي في شوارع عمّان والتي لم يعد يعوّل أصحابها على شيء في هذه الحياة.
أي مهمة شاقة تلك التي نذرت نفسي لها!
لا شيء حولي سوى الحزن والتعاسة. أعيش حياة طافحة بالألم وانعدام الرغبة، كلما ظننت أن باستطاعتي تجاوز محنة صغيرة، برقت أمامي المئات غيرها. يقال إن هنالك مئة درجة على سلّم الوعي بين كونك واعياً بالكامل، وكونك ميتاً. في هذه اللحظة بالذات لا أعلم على أي درجة من المئة أقف!".