تنبع شهرة ثيودور كازِنسكي بشكل أساسي من وقوفه وراء سلسلة تفجيرات إرهابية تذبذبت على مدى ستة عشر عاماً، وعلى الرغم من استخدامه للمتفجرات المصنوعة يدوياً بشكل حصري لم تسفر الهجمات عن العديد من الضحايا، إذ قُتِل ثلاثة أشخاص وأصيب ثلاثة وعشرون شخصاً إثر أربعة عشر تفجير.
يُعرف كازِنسكي بلقب "ينابومبر" الذي ابتدعه الإعلام وفقاً للاسم المستعار الذي أطلقته الاستخبارات الأمريكية أثناء التحقيقات، وهذا اللقب يعبّر عن أهدافه الرئيسية والتي كانت الجامعات والطائرات. هذه الشهرة تختلف عن الشهرة المرتبطة بأي من القتلة المتسلسلين الآخرين، فهم في العادة يعرفون بوحشيتهم وارتفاع عدد ضحاياهم. في المقابل ترتبط شهرة كازِنسكي بالتركيبة الغريبة لشخصيته، فهو متميز أكاديمياً إذ دخل الجامعة بعمر صغير وحصل على دكتوراة في الرياضيات النظرية وأفكاره المناهضة للنظام التكنولوجي هي الحافز الأساسي وربما الوحيد لهجماته، لذلك شاعت مقولته "الثورة الصناعية وعواقبها كانت كارثية على البشرية".
هذه المقولة هي في مطلع المانيفستو الذي أرسله إلى الصحافة وطالب بنشره مقابل توقفه عن التفجيرات، وقد أدى نشره إلى إلقاء القبض عليه في عام 1996 والحكم عليه بثمان أحكام من السجن المؤبد، فقضى سائر حياته في السجن مع الحراسة المشددة إلى أن انتحر قبل عام.
أثناء وقته في السجن كتب المقالات وأجاب على مراسلات عدة، نُشر العديد من تلك المراسلات في جامعة ميتشيغان، كما نشر هو بعضاً مما خطّه في كتابين، الأول هو "العبودية التكنولوجية" والذي يشمل المانيفستو والعديد من المقالات التي تتعمق أكثر في مسائل تكنولوجية واجتماعية، والثاني هو "ثورة ضد التكنولوجيا: كيف ولماذا" والذي يعرض خلاصة بحثه في الثورات وما يمكن وصفه بتوجيهاته أو توصياته لثورة ضد التكنولوجيا، وهذا الكتاب هو موضوع هذه المقالة.
للتعاطي مع أفكاره بشكل موضوعي تحاول المقالة تلخيص أفكاره المناهضة للتكنولوجية أولاً وهو تلخيص لا يعطي طرحه حقه، لكنه تمهيد ضروري للجزء الثاني وهو تلخيص فكره الثوري. قبل البدء يجب الحديث سريعاً عن أخلاقيات التعاطي مع أفكار نشرها كاتبها عبر إجرامه، قد يقول أحدهم بأن في ذلك تغاضياً عن جرمه وتحقيقاً لهدفه وتشجيعاً لمجرمين آخرين، وأقول أن التغاضي عن الأفكار فيه جرم أكبر لأنها إذا كانت صحيحة وكانت الغاية من أفكاره مفيدة للبشرية فنحن نخسر الكثير في تجاهلها، أما إذا كانت خاطئة وأدت إلى سلوكه هذا المسلك فمن المفيد الرد عليها كي لا تَجُرّ آخرين إلى الإرهاب تحت وهم بطلانها. أخيراً يفيد التعاطي معها في سياقات محدودة دون تبجيلها أو تسخيفها في نزع تلك الهالة التي تحيط بأي عمل ممنوع، هالة الحظر التي تغري القراء حتى لو لم يكن العمل يستحق القراءة.
الضدية للتقنية
يختلف نقد كازِنسكي للتكنولوجيا عن الكثير من محاولات النقد التي نعهدها عن التكنولوجيا، والفرق الجوهري هو بأنه ينتقد النظام التكنولوجي بصفته نظاماً مستقلاً بينما ينتقده الآخرون تحت مظلة نقد لأنظمة مختلفة، مثل انتقاد الجانب الاقتصادي وخسارة الوظائف أو السياسي والتعدي على الخصوصية أو الديني وتسهيل المحرمات أو الحداثة وما امتزجت به من معتقدات، هذا النقد الجزئي للتكنولوجيا يتضمن فكرة مواصلة التطور التكنولوجي وتوجيهه بينما تنص النظرة الضدية للتقنية على أن التكنولوجيا الحديثة وصلت مرحلة تنشق تطبيقاتها عن نوايا أصحابها الأصلية مهما حسنت.
كازِنسكي يلخص نقده في أربع نقاط رئيسية في مطلع كتاب العبودية التكنولوجية وهي أولاً أن التطور التكنولوجي يقودنا إلى كارثة محتمة، سواء كارثة بيئية على غرار حروب نووية أو فساد في الطبيعة على نطاق واسع، أو كارثة إنسانية على شكل انحطاط العرق البشري والقضاء على حريته وكرامته. أظن أن النقطة الأولى متفق عليها في المجمل والاختلاف هو على بعض التفاصيل مثل حتمية الكارثة وعلى محط الملامة.
النقطة الثانية هي أن إسقاط النظام التكنولوجي هو الطريق الوحيد لإيقاف الكارثة التي يحملها لنا، وأن أي شيء سوى إسقاطه لن يجدي نفعاً، وهذه النقطة التي يفترق بها معظم الناقدون للتكنولوجيا عن أصحاب النظرة الضدية للتقنية، لأن نقد التكنولوجيا لأسباب خارجة عنه يعني أن الحل قد يأتي من الخارج أيضاً، مثل اختلاف النظرة الاقتصادية أو فرض قوانين سياسية أو تطبيق الشرع، وكل ذلك في سبيل كبح مساوئ التكنولوجيا والاستفادة من حسناتها، هذا مرفوض بالنسبة لكازِنسكي لأن النظام التكنولوجي يكتسب ميزة مستقلة ومحاولة المساومة معه لا معنى لها.
النقطة الثالثة تتهم اليسار السياسي بأنه خط الدفاع الأول ضد الثورات، ويعرّف اليسار بأنه التيار الذي يعتبر العدالة الاجتماعية هي المسألة المركزية، ويقدّم في المانيفستو نقداً لاذعاً لليسار ولكن يبدو أن المغزى من النقد هو إبعاد اليساريين من هذا الطراز عن الثورة التي يدعو لها نظراً لأنهم قد يخطفونها كما خطفوا حراكات مختلفة، وهذا يصل بنا إلى النقطة الرابعة التي تدعو لطليعة ثورية تضع في نصب عينها إسقاط النظام التكنولوجي وتجمع بين رفض اليساريين والكسالى والمختلين وعدم رفض أي تكتيك فقط بسبب راديكاليته.
إذا اختلف القارئ مع النقطة الثانية فهو سيختلف تلقائياً مع النقطة الرابعة، وإذا اختلف مع الثالثة فهو قد يختلف جزئياً مع النقطة الرابعة، لذلك تكمن قوة طرح الضدية للتقنية في النقطة الأولى التي تشير إلى الكوارث التكنولوجية، سواء الواقعة منها أو المرتقبة. ويعتمد الطرح على قلب الفكرة السائدة بأننا نتحكم بالتكنولوجيا كما نشاء، فهي تتحرك بطريقة يصعب التنبؤ بها، مثلاً عندما اخترع الإنسان السيارات لم يفكر بأنها ستحتاج إلى تغيير تضاريس المدن كلياً ورصف الشوارع ولم يعلم كم الضرر البيئي الناتج عن حرق الوقود، والآن أصبح استخدام وسائل النقل الحديثة ضرورة لا رفاهية، فحتى لو لم تمتلك سيارتك الشخصية عليك أن تركب القطار أو الحافلة، ولن تقطع المسافات الطويلة دون بواخر وطيارات.
في الفصل الثاني من كتاب الثورة ضد التقنية يعرض كازِنسكي بعض الافتراضات المنطقية حول طبيعة الأنظمة التي تسعى لاستكمال ذاتها ونسخ تجربتها، ويقول أن طبيعة التنافس قد تفرز الأنظمة على المدى القصير دون اعتبارات للمدى الطويل، وفي نظري يحمل هذا الفصل أكبر خطر يحدق بالبشرية بسبب النظام التكنولوجي.
المثال الذي يضربه هو عن مجموعة ممالك تتنافس في غابة، وكيف يمكن للملكة التي تقطع المزيد من الشجر وتزرع بدلاً منها المحاصيل مما يزيد من تعدادها السكاني ويجعلها أقدر على قهر الممالك التي قد تتوانى عن فعل ذلك لاعتبارات بعيدة النظر، كالحفاظ على البيئة وعدم إلحاق الضرر بالغابة، تؤدي المنافسة المباشرة إلى تفضيل المملكة قصيرة النظر والتي تجلب الدواهي بعد حين.
أحد الردود المحتملة على هذا السيناريو بأن تتمكن المجموعة القاهرة من الانتصار في المنافسة قبل أن تؤدي إلى ضرر كافٍ للغابة لكن من الصعب أن ننقل هذا المثال للواقع وخصوصاً لأن العقلية التي كانت مستعدة للاستثمار في الحاضر على حساب المستقبل هي العقلية السائدة في هذا السيناريو، ونحن ما زلنا في مرحلة المنافسة وقد وصلت أوجها التكنولوجي الذي يستنزف الموارد أينما وجدها.
الاستنتاج من تسلسله في الافتراضات هو أن الأنظمة في محاولتها للحفاظ على نفسها ومع عدم الاكتراث بالمستقبل البيئي ستدمر البيئة كما نعرفها مما قد يؤدي إلى انقراض البشرية، ومع أننا في العالم الثالث نشعر بأن المسؤولية تقع على عاتق الدول الصناعية أو النفطية لكن اللوم لا يقلل من الكارثية، وهنا يحضر مثل السفينة في الحديث النبوي الشريف عن المدهنين في حدود الله والواقعين فيها، مع تعديل الأدوار لينطبق المثال.
بذور ثورية
يستهل كازِنسكي في مطلع كتابه الثاني عدة أمثلة من التاريخ عن الإصلاحات، بدايةً بإصلاحات من الزمن السحيق مثل إصلاحات صولون الأثيني ولوسيوس سولا الروماني إلى أحداث وشخصيات في قرون أقرب زمنياً مثل سيمون بوليفار الذي "حرر" عدة دول لاتينية من الإمبراطورية الإسبانية وأوتو فون بسمارك الذي أسس الإمبراطورية الألمانية، ليصل أخيراً إلى قوانين إصلاحية في الولايات المتحدة مثل قانون حظر الكحوليات والثورة الخضراء في الهند.
الأمثلة التي يعرضها تتفاوت في نجاحها لكنها جميعاً تدل على أنها لم تصلح لآثار مدروسة على المدى البعيد حتى لو نجحت على المدى القريب، ما يرمي إليه من هذه الأمثلة هو صعوبة التحكم بالمجتمعات وتسييرها باتجاه واضح آخره حتى لو اتضحت واخضّرت بداياته، ويدعم هذا الاستنتاج بالإشارة إلى صعوبة التنبؤ ببعض الأنظمة المعقدة وحتى تلك البسيطة إذا اتسمت بشيء من الفوضوية مستعيناً بنظرية فوضى الكون.
بالطبع لنا أن نتخيل درجة من الاختزال في الأمثلة التاريخية وأن مؤرخاً ما قادر على المحاججة ضد أحدها لكن حجة كازِنسكي مدعمة بالمزيد من الأركان، ربما أفضلها هو إقراره بأن هذه الفكرة، أي صعوبة تحريك المجتمع بشكل عقلاني إلى نتيجة معينة في المستقبل البعيد، ليست مميزة. عدا عن ذلك يرد على بعض الاحتجاجات الممكنة، فقد لا يحتاج الأمر تخطيطاً بعيد المدى ويكفينا تعديل المقود لتفادي العقبات المباشرة عندما نلقاها ولكن بما أننا نتحدث عن مجتمع بأكمله يتساءل كازِنسكي عن الوجهة المرجوة، لأن الآراء الفردية عن ماهية المجتمع المثالي تختلف جذرياً، إذاً القدرة على توجيه المجتمع لا تعني بالضرورة توجيهه لوجهة يرغبها الجميع.
من هناك ينتقل إلى رد مبني على حقيقة اعتمادنا على السياسيين، فَهُم قلة ولن تتضارب إرادتهم كما تتضارب إرادة مجموع الأفراد. للرد على ذلك يقتبس من عدة رجال في أعلى مقاعد السلطات يعبرون عن صعوبة التحكم الحقيقي بالدولة كلاً أو مفصلاً، من يوليوس قيصر الذي قال "كلما ارتفع موقعنا، انخفضت حرية أفعالنا" أو أبراهام لينكولن الذي قال "لا أزعم بأنني تحكمت بالأحداث، وإنما اعترف ببساطة أن الأحداث هي من تحكمت بي". وكذلك الأمر مع ملوك يبدو حكمهم مطلقاً إلا أن إرادتهم لا تُبسَط على حاشيتهم ببساطة، مثل الإمبراطور السادس لسلالة سونغ الصينية أو الملك الفرنسي لويس الرابع عشر أو الإمبراطور النمساوي جوزيف الثاني.
ثم يقول أن الحكام الدكتاتوريين الثوريين أمثال أدولف هتلر وجوزيف ستالين قد يملكون قوة تفوق قوة الملوك إذ أنهم تخلصوا من قيودٍ على شكل البنى السياسية والاجتماعية التي كبحت شيئاً من سلطة الملوك والأباطرة وكل هذا لم يمنحهم القدرة المطلقة على تسيير الدولة كما يشاؤون.
لا يجوز أخذ ما سبق كأنه صك غفران للحكام عن القباحات التي ترتكبها دولهم أو تهميش لقدرات الحاكم، وإنما يمكننا قراءته بنفس النفس التحرري في مقالة العبودية المختارة والتي ترتكز على أن قدرة الحاكم الظالم هي بالمعظم قدرة البنية الحاكمة وليست قدرات خارقة لفردٍ بعينه، وهذا الدرس الثوري الذي قد نستشفه بسهولة هنا يبدو صعباً على الكثيرين ممن يدّعون الثورية ولا يوجد في طرحهم الثوري سوى مهمة إسقاط دكتاتور أو ملك بذاته، ولنا في ليبيا شر مثال على عدم جدوى حرق الكبش قرباناً ليتنزل المجتمع المثالي فوراً.
وأغلب الظن أنه أراد دحض أي فكرة طوبائية، لكن الدرس الرسمي في الفصل هو عن عدم قدرة المجتمع على التحكم بنفسه بعقلانية على المدى الطويل، وعندما يشير كازِنسكي إلى البنى السياسية والاجتماعية فهو في يستخدم ذلك لرسم لوحة أكبر تمكننا من رؤية البنية التكنولوجية أيضاً وما تحمله من محددات تقنية للحرية ومخاطر محدقة بالكرامة، لذلك ينتقل من كل الحكام البشر المذكورين إلى حاكم متخيل ليوضح استحالة اجتماع الظروف التي قد تثبّت سلالة من حكام مثاليين يرشدون المجتمع إلى أفضل طريق بشكل مستدام.
ثم يختم الفصل بالاستهزاء ببعض المفكرين الذين يقدمون حلولاً لتحسين المجتمعات الصناعية مثل جيريمي رفكن وبيل أيفي ونيكولاس آشفورد ورالف هال أو لحل المشاكل العالمية مثل ما تفعل نعومي كلاين، ويتساءل ما إن كانوا يقدمون حلولهم بجدية أم أنهم يهربون من أفكار جذرية للحفاظ على مكانتهم في مجتمعات متطورة تكنولوجياً ومنظمة اجتماعياً، ويقول بأنهم يفضلون الهرب مما يهدد نظرتهم للواقع بدلاً من التعامل مع الواقع الذي يهدد حياتهم فعلاً.
الفصل الثاني من كتاب الثورة يتمم نقده للنظام التكنولوجي وما يتعلق باستنزافه للعالم، أما بما يخص الدرس الثوري المستخلص فهو يكمن في سؤال تلقاه بسبب هذه الفكرة -فكرة ترجيحه لأن النظام التكنولوجي سوف يدمر العالم أو نفسه قبل أن ينال من العالم- والسؤال هو عن الداعي لإسقاط النظام التكنولوجي إذا كان سيسقط على يد فساده وتناقضاته دون أن ندفعه للهاوية. إجابته هي عن مقدار ما يمكن إنقاذه من بين الأنقاض، فلو ترك البشر النظام التكنولوجي يطلق عنانه ويسحق الحياة كما نعرفها لن يترك لنا الكثير ولا حتى القليل بعد سقوطه، بينما لو سارعنا في إسقاطه سنحافظ على حد معقول من سلامة البيئة والمجتمعات والنفس البشرية كما نعرفها.
قواعد ثورية ضد الروبوتات
يحتوي الفصل الثالث على الدروس الثورية بشكل صريح ومباشر، أولاً يعتمد على رأي ماو تسي تونغ بأن العمليات المعقدة تحتوي على تناقضات رئيسية وكل ما عليك فعله هو استيعاب التناقض المركزي وأن ذلك كفيل بحل المشاكل تباعاً.
على الثائر أن يهاجم التناقض الرئيسي وأن يفعل ذلك عبر صياغة هدف مباشر وملموس، ولا يجوز الاكتفاء بأهداف عامة أو غامضة. على الهدف المباشر أن يترك المجتمع بحالة من التغيّر التي ستعالج المشاكل المتفرعة، ولذلك يضع الثوري كل طاقته في تحقيق ذلك الهدف الرئيسي، كما نصح كل من نابليون وكلاوزفيتز ولينين بتركيز القوى على نقطة مفصلية.
ماذا لو قسنا الثورات العربية على هذه القاعدة؟ لقد أثنى كازِنسكي على الثورة المصرية، خصوصاً على مسألة توظيف الغضب الشعبي لإجبار الحكومة على التنازل وأن الفشل اللاحق لا يقلل من النجاح الأولى. من الظاهر أن الهدف في "إسقاط النظام" هو هدف ملموس ومركز، فلو أخذنا الثورة السورية قد تصح القاعدة الأولى وتقول أن الخلل ليس منها وإنما من تشتت الطاقات لأن الفصائل حاربت بعضها قبل تحقيق الهدف. لكنني أظن أن الخلل أعمق من ذلك، وهذا الخلل هو أن الهدف ما زال ناقصاً حتى مع وضوحه، لأن إسقاط النظام بحد ذاته لا يجيب السؤال عن طبيعة النظام البديل، وهذا قد ينفع لو كانت الثورة أناركية أو خوارجية ترفض قيام أي نظام مماثل وكذلك في حالة الثورة ضد التكنولوجيا التي تسعى لإسقاط النظام بطريقة تصعّب إعادة ترميمه. لكن الثورات العربية كانت تتحدث ضمنياً عن تحول ديمقراطي وهذا يجعل الهدف أكثر وضوحاً، فالهدف لم يكن إسقاط النظام وإنما إقامة نظام ديمقراطي، على الأقل كان الأمر كذلك عند انطلاقها.
هذه الصياغة مجدية أكثر لكنها ليست الحقيقة التي تضمنها الشعار المشهور "الشعب يريد إسقاط النظام"، مما سهّل انتقال الحكم المنشود من نظام ديمقراطي يريده الشعب إلى إسلامي تريده الفصائل المسلحة، وحتى الديمقراطية في نظر كازِنسكي لا تحقق شرط الاستدامة لأن الانقلاب العسكري ممكن بل ومتوقع في الكثير من الدول وأمريكا اللاتينية مثال على وفرة الانقلابات العسكرية. وهذا ما حصل أيضاً في الثورة المصرية، فهي قد أسقطت النظام التي ثارت عليه وأجرت انتخابات ديمقراطية لكن المكتسبات كانت مؤقتة لأنها لم تنل من التناقض الرئيسي في المجتمع وهو تناقض بين سطوة العسكر والإرادة الشعبية. كما أن التنازع الثوري بعد سقوط النظام -وهو من سنن الثورات ولا يقتصر على الثورة المصرية- فرّط بالطاقات الثورية وفرّغها من مضمونها مما سمح للعسكر بالرجوع إلى سدة الحكم.
أو ربما يمكننا اعتبار الثورة ناجحة في هدفها المباشر والواضح وهو "إسقاط النظام" ولكنها فشلت في كل شيء ظن الثائرون أن الهدف يتضمنه لأنه في الحقيقة لم يتضمن شيئاً سوى الإسقاط المباشر. وكذلك لا يقدم كازِنسكي البديل بعد إسقاط النظام التكنولوجي ولكن تصوره لسقوط مدوِ كفيل بعدم قيامه مجدداً، لهذا يقدم القاعدة الثورية الثانية وهي أن الهدف الثوري الأساسي يجب أن يكون هدفاً لا ينتكس ولا ينعكس، بل يُحدِث أمراً يمنع النظام والمجتمع من العودة إلى الحالة السابقة.
الفشل الربيعي في هذا السياق لا يقع على عاتق الثوار كلياً، السبب في خواء الهدف سبق الثورة في نظري، لم يصدر الهدف خلاصةً لأطروحات ثورية وفكرية وإنما كان وليد اللحظة واعتمد كلياً على روح العصر الديمقراطية كي تملأ الفراغات الفكرية. هذه السلسلة من الأحداث تجبر أي ثائر على التأني في قراءة القاعدة الثانية، فهي ترفض الأهداف القابلة للانعكاس، والهدف ليس شعاراً فحسب وإنما اختزال للأفكار الثورية مما يوصلنا للقاعدة الثالثة.
تعتمد القاعدة الثالثة على فكرة تنافي الرأي السائد القائل بأن الأولوية هي في نشر الأفكار الصحيحة ليستيقظ الجميع، أو ما يعرف بالتوعية، وتنص على أن الخطوة التي تأتي بعد اختيار الهدف الواضح هو في إقناع مجموعة صغيرة تلتزم بتحقيقه عملياً، ولا تكتفي بنشر فكره أو الحديث عنه. وفي هذه القاعدة نلحظ الصراع الخفي بين كازِنسكي وتكنولوجيا الإنترنت، إذ يكتفي معظمنا بالأفعال الافتراضية ويركز البعض جهودهم على نشر الأفكار عليه ولا أستثني نفسي، لكن إقناع الكثيرين بالأفكار ليس ضرورياً في نظره، ما يكفي هو إقناع مجموعة صغيرة مستعدة للتحرك العملي.
يجب التوقف قليلاً على هذه النقطة كي لا يساء فهمها، لأن هناك رأي مثبط للرأي السائد يحاول التقليل من كل الأنشطة الافتراضية ويبدو لي أنه لا يصدر من الحريصين على نقل الحراك خارج الإنترنت وإنما من الساعين إلى بث حالة من اليأس وقتل الحراك في مهده الافتراضي، والذي يمكن أن نعتبره فكراً عاماً ضرورياً لتفادي فخ شح الفكر الثوري قبل أن يثمر هدفاً وثم عملاً. وقد لا نفرّق ظاهرياً بين النوعين من المقللين لأهمية النشر عن قضية ثورية، بين الذي يطالب بالمزيد من الفعل ومن يريد إخماد القول إلا إذا دققنا النظر بمعطيات ثانية وأنماط معينة، والتفريق مهم لأننا لو أخذنا بقاعدة كازِنسكي فنحن نحتاج للنشر حتى تلتقي العقول التي اقتربت أفكارها.
ومن المهم التمييز بين فئتي المقللين من جدوى النشر وعدم التقليل من فكرة رفع الوعي بأهمية قضية ما، لأن التحرك الثوري قد يتطلب حاضنات بدرجة وهيئة ما وتشكيل هذه الحاضنات يتطلب درجة من الوعي والاقتناع بجدوى التضحية ولو بالقليل. نحن نعلم أن كازِنسكي كان أذكى من الاستخبارات ومن أقرانه والمسبب لأسره كان عائلته، أي أنه لم يحظَ بحاضنة ضيقة مقربة ناهيك عن حاضنة مجتمعية، ولنا الحق بمراجعة تجربته الثورية الفردية كي نعدّل القواعد قليلاً. الحل هو في الموازنة لو وافقنا على هذه القاعدة، أي عدم الاعتماد على تحريك كتلة حرجة من الحشود أو انتظار حركتها، دون الاستغناء الكلي عن الشعب والذي يقلل بدوره دائرة الحراك فتقتصر على طليعة مقطوعة من شجرة.
بالطبع هو أذكى من أن يترك هذا الموضوع دون المزيد من التحري، لاحقاً في الكتاب يفيض في الحديث عن فكرة الحاضنة لكن رؤيته لمفهوم الحاضنة مختلف عن المفهوم الشائع في محيطنا، سواء الثورة الشعبية أو المقاومة المسلحة فهما يحتاجان إلى حاضنة تحب الثوار أو تحبذهم. بالنسبة له لا داعي لحاضنة واسعة تؤمن بما يؤمن هو به، وإنما بحاضنة أصابها الإحباط الكافي من الوضع القائم، وبهذا لا تدعم الحاضنة الثوريين بالضرورة لكنها لا تقف في وجههم لأن النظام التكنولوجي سيفقد حينها شرعيته. هذه المجموعة الثورية الصغيرة ليست بحاجة إلى فشل ذريع في المجتمع الصناعي، حسبها فشل يدفع إلى اضطراب كافٍ وشيوع اللامبالاة عند الأغلبية. لا داعي لأن تكون الثورة محبوبة لكن يكفيها أن تصبح محترمة، بل قد تكون كراهية المجتمع للثوار علامة على فعاليتها وفقاً لماوتسي تونغ.
لنا نتساءل ما إن كانت هذه النصيحة مجدية تدعمها الحقائق أم أنها تسربت من شخصية كازِنسكي المنعزلة، لأن أدبيات ثورية مختلفة تدعو إلى عدم استعداء المجتمع وخصوصاً في مرحلة حروب الشوارع، لكن الثورة ضد التكنولوجيا لن تكون مثل الثورات السابقة، فهي ستوجه ضرباتها للبنى الصناعية ولشخصيات بعينها بدلاً من مواجهة الجيش النظامي المسلح.
على أي حال لا يمكننا أن نتصور المجتمع كأنه حاضنة كبيرة وفقاً له وإنما بأحسن الأحوال كمجموعةٍ يائسة ومحايدة، ما يرمي إليه كازِنسكي إذاً هو ضرورة نشر الأفكار مع التنبيه إلى أن التحدي الحقيقي هو في التنظيم والحراك لتلك المجموعة الصغيرة لا في إقناع المجتمع بأكمله. وبما أننا نعيش في عصر تتزاحم فيه الأفكار ينبهنا إلى أن معظمها لن يؤدي إلى ثورة بسبب قوة الفكرة المجردة، وإنما يعتمد التحرك الثوري على العمل الفعلي، وهذا بحاجة إلى نواة من المنظمين وليست فقط من المنظرين. كما يحذر كازِنسكي من أن ينتظر المنظر المنظم لأن الثورة قد تتحرك كما يأوّل المنظم الأفكار النظرية لا كما قصدها المنظر.
لاحقاً في الفصل الرابع يذكر أمثلة على أن الأفكار الثورية قد تنثر على شكل بذور ويمر عليها زمن قبل أن تنمو، وأن البدايات لا تحتاج إلى أعداد هائلة ويستشهد بحقيقة أن ماركس وإنجلز كتبا المانيفستو الشيوعي لحزب لا يتعدى المئات وانحل قبل الثورة، وكذلك يقتبس فيديل كاسترو الذي قال أنه ثار بصحبة اثنين وثمانين رجلاً ولو عاد به الزمن لاكتفى بأقل من عشرين متاعهم الإيمان المطلق.
طليعة بشرية ضد الروبوتات
ماذا عن هذه الدائرة الصغيرة التي تسعى للتغيير الجذري، حصلنا على إجابة الكم وبقي سؤال النوع، القاعدة الرابعة تجيب على هذا السؤال وتدعو لعدم قبول أي شخص "غير مناسب"، ومعيار هذا التناسب يختلف حسب الهدف الرئيسي ولكل ثورة غربالها الخاص. بالنسبة لكازِنسكي فهو صريح بأنه لا يريد اليساريين في ثورته ضد التكنولوجيا، وقد يفسر هذا نفور اليساريين من نشر فكره أو التعاطي معه بجدية. لكن كل أنواع الثورات يجب أن تتجنب أنواعاً معينة من الناس بغض النظر عن الهدف الثوري، مثل المتعاطي للمخدرات أو المختل الذي يريد عذراً لإراقة الدماء. وعلى الدائرة الصغيرة أيضاً أن تضع في نصب عينها فكراً معيناً وتحذر من الاعتماد على مجموعات قد تتقاطع مع فكرها، لأن ذلك قد ينذر بفقدان إرادتها لاحقاً وتشتيت أفرادها، ويخص بالذكر الحذر من المجموعات الأناركية البدائية وكذلك من المجموعات البيئية المتطرفة، ويصل به الأمر لدعوة صريحة باختراق المجموعات البيئية وتحريكها نحو المزيد من الضدية للتقنية والتقليل من اليسارية.
أما الدائرة الأصلية يجب أن تكون نقية بفكرها وهدفها ومدركة للفرق بينها وبين المجموعات المختلفة مهما اقتربت، كما يمكن تشكيل دائرة مركزية لا مساومة على خير من فيها ودائرة أكبر قد تحتمل أفراداً أقل تناسباً. يجب أن تتحلى المجموعة الثورية الأولية بخصائص معينة وفضائل ومهارات، والطبيعة الثورية بلا شك سوف تدفع بعضهم إلى الموت المبكر أو إلى السجن، وقد يمر الزمن ليحيل بعضهم إلى التقاعد، اجتماع هذه الظروف مُعتَبرة في القاعدة الخامسة والأخيرة، لتنص على أن المجموعة الثورية إذا نالت قسطاً كافياً من القوة والزخم فما هي سوى مسألة وقت قبل أن يذهب الكادر الأصلي ويتقدم الانتهازيون الصفوف فتفسد المجموعة كلياً، وبناء على هذا الاحتمال يجب أن تحقق الحركة الثورية هدفها بأسرع وقت ممكن.
هذه القاعدة تبدو بديهية لكنها معلولة، لأن المجموعة الثورية لا يمكن أن تتصرف وكأن الفساد قادم لا محالة، لذلك يمكن تأويلها بشكل أفضل بأن الأهداف الرئيسية يجب أن تكون معقولة على المدى القريب، وتعريف هذا المدى يحتاج إلى الاستعانة بأمثلة تاريخية تدرك أن الحروب الثورية لا تطول، ولكن الثورة المسلحة بصورتها المألوفة ليست الطريق الوحيد لو كنا كازنسكيين، فقد يقدم فرد أو مجموعة صغيرة طليعية على محاولة الوصول إلى الأهداف الواضحة دون نية دخول حرب أهلية، وربما من أسوأ ما تركه فشل الثورات في الربيع العربي هو الإيمان بأن التغيير يتطلب حرباً أهلية دموية ولا شيء أقل من ذلك يمكن اعتباره كافياً أو ثورياً. لكن هناك العديد من التغيرات المجتمعية التي لم تتطلب لهذه الدرجة من العنف وبالخصوص التغيرات الحقوقية التي تطلبت تضحيات دون أن تتخطى عتبة الصدام المسلح مع الحكومات. بالتأكيد ستختلف التكتيكات وفق عقيدة الطليعة، فهذه العقيدة الدينية والسياسية ستحدد الأخلاقيات والأدوات، مثلاً كازِنسكي يعتبر أن الطليعة للثورة ضد التكنولوجيا يجب ألا تنفي احتمالية أي تكتيك راديكالي مباشرة ولا ينفي الحاجة لاستخدام التكنولوجيا ضد التكنولوجيا إذا كان الهدف إسقاط النظام التكنولوجي بأكمله.
من ذلك نستنتج أن تفادي الفساد المحتمل يوجب على الطليعة السعي لتحقيق أهداف معقولة في عمر واحد، ولو صحّت هذه القاعدة يمكننا أيضاً أن نرفض فكرة تحميل أجيال مستقبلية المهمة الأساسية لأن في ذلك تسويفاً وهروباً من الواجب التاريخي الموقوت. نحن لا نعلم كم ستسوء الأحوال لو تركنا الأمر كما هو لعقود. حتى لو آمنّا بأن جيلاً لاحقاً سيحمل نفس المبادئ وأنه بأعجوبة سيحمل نفس التصور الذي يحمله المنظرون والمنظمون الأوائل إلا أن مهمتهم ستزداد صعوبة إن لم يمهّد لها الجيل السابق، والصعوبة قد تصل مرحلة الاستحالة. ويصح هنا التفريق بين الثورات التي تسعى لإسقاط الأنظمة الداخلية والحروب التحريرية التي تسعى لإسقاط الأنظمة الخارجية مثل الاستعمار وهذا التفريق واقعي وتاريخي وليس نظري فحسب، فالمسيرات التحررية قد تدوم لقرون بينما تنتهي الثورات المباشرة بفترة بين سنة وعشرين، وفي حالة النظام التكنولوجي يتعارض الأمل بإعادة ابتكار التكنولوجيا لتتماشى مع قيم مختلفة تقلل من مساوئ النظام لأن الزمن اللازم لتطوير التكنولوجيا البديلة.
تتمة الفصل الثالث تدخل في تفاصيل هذه القواعد، ليؤكد على أن القواعد مرنة تحتمل التغيير وفق الظروف لكنها متينة بما فيه الكفاية وقد تساعد متانة أحد القواعد في التقليل من الخلل في غيره، مثلاً عندما يكون الهدف واضحاً لا يقبل التحلل يصبح قبول بعض الشخصيات غير المناسبة محتملاً لأنها لن تتمكن من خطف الحركة وتوجيهها إلى هدف مختلف أو شخصي. وعلى أي حال لا يجب أن تلتزم الحركة الثورية بهذه القواعد بحذافيرها إلا أنها قواعد تطرح أسئلة يجب على الحركة الثورية إجابتها إلا إذا رغبت بالاعتماد على الحظ والأدعية.
استراتيجي وراء القضبان
ينتقل الكاتب في الفصل الرابع لقراءة عامة لاستراتيجية ثورته المنشودة، ويشير أولاً إلى ما أسماه الأغلوطة الديمقراطية بما يتعلق بتبعات الثورات، وعلى حد قوله فإن العقبة أمام تحقيق مطالب الثورة لا يعتمد على رغبة الأغلبية كما يظن البعض وإنما على ديناميكية الحركات المجتمعية وأن عدد الأفراد المستعدين للتضحية بشكل طوعي هو عدد هامشي. ويستدل عليهم بأمثال المسيحيين الأوائل الذين استشهدوا في سبيل نشر الدين وصولاً إلى الفدائيين المسلمين المعاصرين، سوى القلة هذه هناك الأغلبية من البشر الذين قد يتحولون لأبطال مكرهين عندما يدخل مجتمعهم في حرب أو فترة قاسية تنعدم فيها مقومات الحياة، ويختار المواطنون احتمال الصعاب والاستمرار بحياتهم على الرغم من ضراوة الظروف وهذا بذاته بطولة.
بعد نقاش كل القواعد يكتب كازِنسكي بصراحة ومباشرة تصوره لثورته ضد التكنولوجيا، وأظن أن القارئ قادر على توقع طبيعتها نظراً لما سلف، في البداية تتشكل نواة ملتزمة في الدول العظمى مثل الولايات المتحدة والصين ودول أوروبية وروسيا وحتى في الهند وأمريكا اللاتينية، ثم تبث أفكارها معتمدة على المنطق لا على الشعبية حتى يقتنع المزيد بالأفكار الثورية دون السعي لتحقيقها مباشرة، وفي لحظة معينة يتخبط النظام ويؤدي فشله إلى حالة من الإحباط واليأس العام، على النواة الثورية التربص وانتهاز اللحظة فور تمييزها دون أي تردد، لكنه يحذر من التسرع والبدء قبل الأوان وهذا متوقع لو نظرنا لما حصل معه شخصياً.
عدا عن انتهاز الفرصة هناك مسألة التردد على أسس أخلاقية، بالنسبة لكازِنسكي لا يجوز للثائر ضد النظام التكنولوجي بأن يرى خصمه سوى كأنه شر محض وأن يتصرف على هذا الأساس، وأي نوع من التردد يجب أن يسحق داخلياً في النواة الثورية وخارجها. فمثلاً لا يجب أن يتردد الثائر لأن سقوط النظام التكنولوجي قد يؤدي إلى حرب نووية، لأن استمراره سيؤدي إلى كوارث بيئية تدفع البشر نحو الانقراض الكلي بينما الحرب النووية على فظاعتها لن تنهي العرق البشري برمته.
ثم يدعو للتنظيم حول فعاليات قد لا تضخ مباشرة بالعمل الثوري ولكنها تكسب النواة الخبرة والمعرفة المطلوبتان، وتوحّد الإرادة وتثمن الانضباط وتوحيد المواقف، وهذا لا يعني الطغيان على أعضاء الطليعة من قبل القياديين وإنما عبر الاتفاق حول المسائل الرئيسية، والاستعداد لطاعة القياديين في المسائل الحساسة التي لن يسمح الوقت بحلها نقاشاً لأن الدواعي الثورية قد تمنع التأني الديمقراطي.
كما يجب على النواة الثورية أن تحذر في انتقاء معاركها دون التبخيس بثقتها بذاتها، ويجب على القياديين بث هذه الثقة. ثقةٌ لن تنفع لو تواضع الثوريون في هدفهم الرئيسي، وإلا ستتواضع الإرادة ومقدار التضحية بالتناسب مع الهدف المتواضع، فلو لم يتجرأ الثوري في كل المفاصل فهو سيخسر وهنا ينبهنا الكاتب إلى ضرورة التحلي بالمتانة النفسية لتخطي الخسارات، مستشهداً بانتكاسات للحزب الشيوعي في الصين وروسيا ومؤتمر الوطن الأفريقي وحكايات قادة مثل ملك إسكتلندا روبرت الأول. هذه الأفكار تفسر هدف كازِنسكي العملاق وهو يفوق كل الثورات السابقة والصراعات المذكورة التي طمحت للإطاحة بأنظمة سياسية محلية أو التحررية التي سعت لدحر المحتل، فهو يروم إسقاط نظام عالمي!
الكتاب مليء بالأمثلة التاريخية لدعم فكره مع تنويه في آخره عن أنه يستمد العبر من ثوريين دون الإشادة بأفكارهم أو مجاملة مسيرتهم، أكبر مثال هو تكرار استقاء الأمثلة من الحركة البلشفية ولينين خصوصاً مع أن الشيوعية حركة محبة للتكنولوجيا. ويشير إلى أن التعلم من الماضي ضروري لكنه لا يشبه التعلم من كتاب للطهي وإنما أقرب إلى استخلاص الأفكار من التجارب السابقة، ولا يشين هذه العملية كون الأستاذ التاريخي يتعارض بعقيدته عن التلميذ لأن الخلاصة تكتيكية وليست عقائدية.
ماذا عن الأدوات؟ البغضاء ضد النظام التكنولوجي ككل لم تمنع كازِنسكي من ختام كتابه بنهي الثوار عن استخدام التكنولوجيا، بل أشار إلى أهمية تعلّم ما يكفي كي يتفادى الثوار طرق التنصت المستحدثة، كما حذّر من مستقبل تصبح فيه قوات الأمن تعتمد على الروبوتات التي لا تتردد في قتل البشر كما قد يتردد الشرطي إذا تلقى أمراً بقتل أبناء جلدته، لهذا يقول أن الثورة المستقبلية ستعتمد إلى حد كبير على قدرة الطرفين على التلاعب التكنولوجي وتسخير التكنولوجيا لهزيمة الخصم.
رأي العبد الفقير في الكتاب
بالنسبة للأمثلة المطروحة فهذا الكتاب ثمين جداً لأي شخص مهتم بالفكر الثوري حتى لو اختلف مع النظرة الضدية للتقنية، موضوعية كاتبه جعلت الكتاب عابراً للأيديولوجيات. صياغته بالكتابة مباشرة وأكاديمية نوعاً ما لكنها سلسة بما فيه الكفاية. وقد تكون قراءة المانيفستو "المجتمع الصناعي ومستقبله" متطلباً مسبقاً لفهم أبعاد المشكلة التقنية لكنه ليس متطلباً إجبارياً.
يمكن تصنيف هذا الكتاب على أنه حالة خاصة من أدب السجون، لن تجد في صفحاته أي إشارة عن معاناته الشخصية أو أحوال السجن المريرة التي دفعته إلى الانتحار، لكن صعوبة الظروف لم تمنعه من الأمل بأجيال لاحقة تكمل ما شرع به أو بصحة فكره، فهو قضى عمره وراء القضبان في صقل فكره لا بالتخلي عنه. وبما أن هذا الكتاب صدر تحت الرقابة المشددة على القارئ مهمة التدقيق بين السطور، فالكاتب يدعو نصّاً إلى طليعة ثورية تعمل بشكل قانوني وعليها ألا تخل بأي قوانين، لكن السوابق والخلاصة الفكرية تحذر من كارثة تكنولوجية ومن الصعب تصوّر فكر منطقي يجمع بين خطر هائل وتروٍّ عاقل. قد يقول أحدهم أنه قال ذلك فقط ليتخطى الرقابة وقد يقول آخر أنه دفع ثمن كسره للقوانين وهذا دفعه للدعوة إلى تحركات قانونية على الأقل في مرحلة أولية، لكن على أي حال هناك حاجة لقراءة متقدمة تكشف عمّا بَطَّن النص.
شخصياً أرجّح أنه سعى لتمرير أفكاره تحت أنف الرقابة، ودفع تقيةً غرامة المرور بالدعوة إلى درجة عالية من القانونية، والدلالة هو أنه لم يخفف من وتيرة نقده لخطورة التكنولوجيا. في بعض الصفحات تشعر بأنه يدفعك للتحرك مباشرة وفي مطلع الكتاب يذكر أن الدافع للنشر هو شعوره بأن الوقت ليس في صفّه إذ تجاوز السبعين من عمره، وأن هذا العمل جزء من عمل أكبر لكنه يخشى من تأجيل النشر لذلك دفع بهذا الجزء المهم إلى المطبعة، وهذا كله يدل على أنه لم يتراجع عن أي أفكاره الضدية للتقنية ولا عن ضرورة التعجل في حل المشكلة التكنولوجية. ولو جمعنا محتوى الكتاب مع الحقائق المحيطة بكتابته وبحياة كاتبه نجد صورة تراجيدية لا تخلو من البطولة، ولو آمنّا بصحة النظرة الضدية للتقنية أو ما يوازيها من أي نظرة ثورية ترفض النظام العالمي القائم، فهذا الكتاب ينفع كأحد أهم المعالم.