تعتبر المنطقة العربية من المناطق التي "لا تنقصها المشاكل" على جميع الأصعدة، إذ لا تكاد تخلو دولة من دول المنطقة من واحدة من الأزمات الاجتماعية أو السياسية أو الأمنية أو الحروب الأهلية أو أزمات الحكم، وبالمقارنة بين كل تلك الأزمات التي يعيشها الإنسان العادي في المنطقة وبين التغير المناخي، يبدو أن أننا نتحدث عن "مشكلة عالم أول"، أو مشكلة غير ملموسة وغير واقعية، وفي بعض الأحيان مستفزة، بيد أن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من المناطق التي ستكون الأشد تأثراً بتغيرات المناخ، وقد بدأت آثاره بالظهور والتأثير بشكل فعلي من المغرب وحتى العراق.
عانت المنطقة والعالم هذا الصيف درجات حرارة قياسية، حيث سجل شهر تموز هذا العام أعلى معدل درجة حرارة في التاريخ الحديث، ورغم أن المنطقة "معتادة" على أن يكون الصيف حاراً، إلا أن الحرارة هذا العام كانت غير اعتيادية، وهنا لن نتحدث عن الأثر المباشر لدرجات الحرارة على الصحة العامة من حيث ازدياد التعرض لضربات الشمس أو الجفاف وحالات الوفاة التي تتسبب بها، لكننا سنتحدث عن أثر ارتفاع درجات الحرارة على جهاز المناعة، حيث وجد باحثون أن التعرض لدرجات حرارة عالية قد يزيد من قابلية الإصابة بالعوامل المعدية، ويضعف الاستجابة المناعية التكيفية، ويسرع من تطور أمراض القلب والأوعية الدموية.
بالإضافة إلى أخطار ارتفاع الحرارة على الصحة العامة للسكان، فإن ارتفاع درجات الحرارة عامل أساسي في تدهور المراعي والأراضي الزراعية والأراضي الصالحة للزراعة، وزيادة التصحر، فبحسب اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر فإن أكثر من 50 بالمائة من الأراضي الموجودة في منطقتي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تُعتبر متدهورة. إن تدهور المراعي والأراضي الصالحة للزراعة في منطقة تعاني اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً سيؤدي إلى تراجع الأمن الغذائي بالنسبة للآلاف وسيزيد من المعاناة الاقتصادية بالنسبة لقطاعات تعتمد في دخلها على الزراعة، وسيزيد بالتالي من المخاطر المتعلقة بالاستقرار والأمن.
لا يقف تأثير ارتفاع درجات الحرارة على القطاع الزراعي عند زيادة التصحر، بل يتعداها إلى جعل المنطقة غير صالحة لإنتاج محاصيل اعتادت المنطقة على إنتاجها لسنوات طويلة، مثل الكرز المغربي الذي تراجع إنتاجه بنسبة 80% بسبب ارتفاع درجات الحرارة، ومن المحتمل جداً أن محاصيل أخرى كثيرة في المنطقة تأثرت بهذه التغيرات، لكن ندرة توفر المعلومات حول القطاعات المختلفة وليس فقط القطاع الزراعي يجعل من الصعب إحصاؤها.
إن التغيرات غير المسبوقة على الطقس أدت لتغيرات ملحوظة في التنوع البيولوجي خصوصاً في الطيور، وباعتبار أن هذه التغييرات "غير هامة" إقتصادياً وغير ملحوظة فقد تم تجاهلها لسنوات، لكن تغيراً خطيراً طرأ خلال السنوات الماضية على سلوك الأفاعي دق ناقوس الخطر خصوصاً في الأردن وفلسطين ولبنان، حيث أدى ارتفاع درجات الحرارة إلى تقليل مدة البيات الشتوي للأفاعي، بالإضافة إلى زيادة تكاثرها وزيادة انتشارها ورقعة تواجدها، بحيث ازدادت الأخطار وارتفعت بشكل كبير لدغات الأفاعي والوفيات الناجمة عنها.
يلعب التغير المناخي أدواراً هامة في تشكيل الحياة من جديد على كوكب الأرض، وتصل تأثيراته لكل شيء تقريباً، ولا يعتبر التنوع والتوازن البيولوجي شيئاً هامشياً في هذا المضمار، إذ من الممكن أن يمثل خطراً فعلياً ومباشراً على حياة الإنسان، باعتبار أن الإنسان جزء من البيئة، يؤثر فيها ويتأثر بها، ومسألة انتشار الأفاعي التي ذكرناها إحدى زوايا قمة جبل الجليد. تؤثر الحرارة على سلوك الحيوانات بشكل كبير، كما أنها تؤثر بشكل واضح ومؤكد على خصوبة الذكور إذ يؤثر الإجهاد الحراري على الخصوبة وإنتاج الحيوانات المنوية، ما يرفع من أخطار الانقراض بالنسبة للكثير من الحيوانات.
إن معاناة منطقتنا وسكانها من مشاكل ومآزق كثيرة إقتصادية وسياسية واجتماعية يجب أن لا تجعلنا نهمل تماماً التأثيرات الخطيرة للإحتباس الحراري وتغير المناخ الذي بدأت آثاره تظهر للعيان ولم تعد مجرد تحذيرات علمية بعيدة المدى، فالمدن الساحلية العربية على المتوسط مثل الإسكندرية تواجه تهديداً حقيقياً نتيجة لذوبان الجليد في القطبين، والمناطق القابلة للزراعة آخذة في التقلص إثر زحف التصحر، وآثار كل هذا على التنوع البيولوجي في المنطقة وأخطاره لم تعرف بعد.
بقدر ما يتزايد تعقيد أزمة التغير المناخي وتداخلها مع النظم البيئية، بقدر ما تتزايد التعقيدات في اجتراح الحلول، وبالنسبة للمنطقة العربية، فإن الوقت بدأ ينفد بالنسبة للكثير من الحلول المقترحة بفعل غياب النظم السياسية المعبرة عن مصالح السكان بشكل رئيسي، إذ يلزم أن تنخرط البلدان الساحلية المتأثرة بالاحتباس الحراري مثلاً بشكل فاعل وجدي في النقاش والضغط العالمي في ما يخص المسألة، بالإضافة إلى ضرورة وجود برامج تنفيذية داخل كل بلد تعنى بمواجهة الأزمة، بدءًا من النفايات وإعادة التدوير، مروراً بسياسات التشجير التي يجب أن تكون مدروسة بشكل علمي بما يسهم في وقف التصحر وتقليل آثار ارتفاع الحرارة على سكان المدن عبر اختيار أماكن التشجير حول المدن وعلى أطراف الأماكن الصالحة للزراعة، بالإضافة إلى تخصيص أماكن ومساحات خضراء داخل المدن بدلاً من الاعتداء على الأرصفة وزراعتها بما يؤدي لزيادة الاعتماد على السيارات.
إن لكل مدينة عربية حلولها الخضراء، وخبراؤها الذين ينتظرون سماع رأيهم وتنفيذ رؤاهم في مواجهة خطر يهدد على المستوى المتوسط صلاحية منطقتنا بأكملها للعيش، ويوماً بعد يوم صرنا نلمس آثاره ونعيشها.