«ليس هذا صدام حضارات، إنه صدام بين البربرية والحضارة. إنه صدام بين أولئك الذين يمجّدون الموت والذين يقدّسون الحياة، ولكي تنتصر قوى الحضارة، فلا بد لأمريكا وإسرائيل أن تقفا معاً، لأنه عندما نقف معاً، يحدث شيء بسيط، ننتصر نحن ويهزمون».
وردت هذه الفقرة في بداية خطاب نتنياهو الذي ألقاه أمام الكونغرس الأمريكي بمجلسيْه في الخامس والعشرين من يوليو. حَفِل الخطاب، كما هي عادة نتنياهو، بالأكاذيب الغوبلزيّة (نسبة إلى جوزف غوبلز، وزير دعاية هتلر)، والسُعار وتأجيج العصبيات العنصريّة. لكن الغالبية العظمى من الحضور من ممثلي الناخبين الأمريكيين (بالإضافة إلى الضيوف الذين يدعون إلى خطابات كهذه، وكان من بينهم إسرائيليون) قابلوا فقرات الخطاب بالتصفيق الحار. وهو تصفيق لم ينل مثله زعيم أجنبي من الكونغرس. فقد سجّلوا أرقاماً قياسية إذ صفّقوا لنتنياهو39 مرة، 23 منها وقوفاً. واستغرق التصفيق، بالدقائق، ربع وقت الخطاب. حتى علّق أحد المغردين بسخرية أن ممثلي الشعب الأمريكي صفقوا لنتنياهو كما لم يصفق مواطنو كوريا الشمالية لرئيسهم كيم يونغ أون!
قاطع نصف الممثلين الديمقراطيين الخطاب ولم يحضروا، وكان لافتاً حضور النائبة الفلسطينية الأصل رشيدة طليب، الممثلة الديمقراطيّة عن ولاية ميشيغان، التي ارتدت الكوفية ورفعت، طوال الخطاب، لافتة كتب على أحد وجهيها «مذنب بجريمة الإبادة» وعلى الآخر «مجرم حرب». ليست هذه أول مرة يخطب فيها مجرم حرب تحت قبة بناية «الكابيتول». فعدد من رؤساء الولايات المتحدة السابقين، الذين كانوا يلقون أثناء رئاستهم خطاباً سنوياً أمام الكونغرس حول «حالة الاتحاد»، كما جرت العادة، يمكن أن يوضعوا في خانة مجرمي الحروب بجدارة. يكفي أن نذكر بوش الأب والابن، وسجلهما حافل بجرائم الحرب. كما ينطبق الأمر على الرئيس الحالي بايدن، المتورط في حرب الإبادة المستمرة ضد غزة والداعم لها.
بالعودة إلى الفقرة أعلاه من خطاب نتنياهو. لم يكن غريباً أن يوظف ثنائية الحضارة – البربرية في مستهله، فهي متجذرة وحاضرة أصلاً في المخيال السياسي الأمريكي وفي أذهان الكثيرين من الحضور. كما أنها فعّالة في استحضار أوهام وتاريخ التفوق العرقي والتذكير بالأواصر الوثقى التي تربط بين أمريكا وإسرائيل، والتي يحرص على التذكير بها زعماء الدولتين. وبالإضافة إلى الاعتبارات والعوامل الجغراسياسية، هناك آصرة أيديولوجية بين استعمارين إحلالييْن تتشابه أساطير بداياتهما، وإن كانتا في قرنين مختلفتين. فهما يشتركان ببعض الرموز وبأيديولوجية الأرض الخاوية، التي كانت تنتظر أن يستعمرها الذين هربوا إليها مضطهدين من قارّة أخرى، أو أولئك الذين عادوا إليها بعد غياب متخيّل، وبوعد إلهي، ليستثمروا خصوبتها لتأسيس «أرض الميعاد» و«منارة حضارة» بين البرابرة. ليست ثنائية الحضارة-البربرية جديدة ولطالما استخدمت في خطاب الامبراطوريات ومراياها الأيديولوجية عبر التاريخ. لكن نتنياهو أضاف إليها جرعة من مفردات من خطاب الحرب على الإرهاب السائد منذ 2001. فجمع ثلاثة تواريخ هي السابع من ديسمبر 1941 (هجوم اليابان على بيرل هاربور الذي دخلت بعده الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية) والحادي عشر من سبتمبر 2001، والسابع من أكتوبر 2023. لتكون إسرائيل وأمريكا في خندق واحد. وشبّه نتنياهو مستقبل الشرق الأوسط بأوروبا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، حين تحالفت الولايات المتحدة مع أوربا ضد «التهديد السوفييتي» الذي شبهه نتنياهو بالتهديد الإيراني. كان عالم السياسة الأمريكي صمويل هنتنغتون، قد روّج لنظرية صدام الحضارات (بين الغرب والإسلام) بعد انهيار الاتّحاد السوفييتي في مقالة نشرها عام 1993، أصبحت كتاباً مهماً نشر بعدها بثلاث سنوات بعنوان «صدام الحضارات: إعادة تشكيل النظام العالمي»، وعلى الرغم من تهافت النظرية وأسسها وافتراضاتها ودحضها، إلا أنها ما زالت فعّالة ومقبولة في الخطاب السياسي والإعلامي. والجدير بالذكر أن هنتنغتون حول بعدها ماسورته النظرية من الشرق ليصوب نحو الجنوب. ففي آخر كتاب نشره قبل وفاته بعنوان «من نحن: تحديّات أمام الهوية الوطنية الأمريكية (2005)» يصبح التهديد الحضاري (والخطر المحدق بالهوية الأمريكية) الثقافة والقيم والتقاليد التي تجلبها أمواج المهاجرين، عبر حدود الولايات المتحدة الجنوبية من المكسيك ودول أخرى في أمريكا الوسطى والجنوبية. فهي بنظر هنتنغتون، تتناقض وترفض أو تقاوم الاندماج، مقارنة بالهجرات السابقة (أي من أوربا)، مع الثقافة «الأصلية» وعمادها اللغة الإنكليزية والقيم البروتستانتية إلخ. أسوق هذا المثال هنا للإشارة إلى أن موقع «الآخر» الحضاري (أو البربري) في هذه الثنائية يظل ثابتاً، والذي يتغيّر هو أولئك الذين يوضعون فيه مرحلياً، للمحافظة على الأسطورة المؤسسة للدولة التي تبقيها أيديولوجيا التفوق العرقي خارج التاريخ والواقع. فالبرابرة، كما تذكرنا قصيدة قسطنطين كافافي (1863-1933)، حلٌ أيديولوجي وطرف ضروري في المعادلة الإمبراطورية، يشكّل غيابه أزمة. «لأن الليل حلّ ولم يأت البرابرة/وبعض رجالنا الذين عادوا للتو من الحدود يقولون لم يعد هناك برابرة/والآن ماذا سيحلّ بنا بلا برابرة؟/كان أولئك الناس حلاً». لكن هناك دائماً برابرة. و«سيأتي برابرة آخرون»، يجرّد نتنياهو الفلسطينيين من الحضارة، فيقول لجمهوره المتحمّس، إن الصدام ليس بين حضارات، بل مع البربرية. فلا حضارة لدى أولئك الذين تدمّر إسرائيل جامعاتهم ومدارسهم ومكتباتهم ومستشفياتهم وجوامعهم وكنائسهم (أي معالم حضارتهم!) ويفتخر ويتباهى جنودها وهم يمارسون ويوثقون بربرية ما يفعلونه. بينما كان المتظاهرون خارج الكونغرس ينددون بجرائم الإبادة هذه، وبنظام التفرقة العنصرية الذي يمثله نتنياهو وبوجوده في العاصمة، كان هو يستهزئ بهم. وكان يحرص على تقديم إسرائيل كنسخة مشرقة من أمريكا المثالية المتخيلة، التي يتساوى فيها الجميع بغض النظر عن العرق، فكان من بين الذين اصطحبهم وقدمهم أثناء الخطاب ضابط من المظليّين، من أصل إثيوبي، وقف بجانبه عريف من بدو رهط، وركّز نتنياهو على أنه مسلم. لا فرق، ما داموا كلهم يقاتلون تحت راية الدولة ويقتلون. واستحضر نتنياهو التوراة قائلاً عن «الأبطال» «هؤلاء هم جنود يهودا». أوقفت الشرطة العسكرية الإسرائيلية الأسبوع الماضي عشرة مثل هؤلاء في معسكر سدية تيمان بالقرب من بئر السبع للتحقيق معهم في تهم تعذيب واغتصاب أسرى فلسطينيين من غزّة. وحين انتشر الخبر، اقتحم إسرائيليون المعسكر محتجين ومتضامنين مع هؤلاء لتخليصهم. وبدأت حملة تضامن واسعة اشترك فيها مسؤولون وأعضاء كنيست دافعوا عن الحق في الاغتصاب والتعذيب ضد «الإرهابيين». ويذكرنا هذا بفضيحة «أبو غريب» أثناء الاحتلال الأمريكي للعراق. وكان هناك، في اليمين الأمريكي، من دافع عن الجنود الأمريكيين وجرائمهم. فمن هم البرابرة في هذا المشهد؟ لماذا صفق ممثلو الشعب الأمريكي بكل تلك الحرارة والهياج؟ هناك، بالطبع، من صفق لإرضاء ناخبيه اليمينيين المساندين لإسرائيل. وهناك من يصفق لإرضاء مموليه واللوبي الصهيوني ومنظمة الأيباك التي تموّل الحملات الانتخابية ويمكنها أيضاً أن تنفق الملايين للحيلولة دون انتخاب أو إعادة انتخاب كل من يقف ضد حرب الإبادة في غزة. كما حدث، على سبيل المثال، مع جمال بومان، الممثل عن ولاية نيويورك. لكن هناك عدد لا يستهان به بين هؤلاء من الذين يؤمنون بما قاله نتنياهو: «ستظل أمريكا قوة للخير والنور في عالم خطر ومظلم. للأحرار في كل مكان، تظل مشعلا للحرية التي تصوّرها (الآباء)المؤسسون في 1776. ويمكن وضع «إسرائيل» بدلاً من أمريكا في الجملة الأولى. واختتم خطابه مبتهلاً «فليبارك الرب التحالف العظيم بين إسرائيل وأمريكا إلى الأبد! سنحمي، معاً، حضارتنا المشتركة».
لعل أصدقاء وحلفاء نتنياهو من المصفّقين الأمريكيين ما كانوا يصفقون له وحده فحسب، بل يصفقون ارتجاعياً للآباء المؤسسين، ولكل الرؤساء الأمريكيين الذين ارتكبوا مجازر لا تحصى في بقاع شتّى داخل البلاد وخارجها، دون أن تطالهم عقوبة أو يردعهم رادع. والسؤال هو من هم البرابرة في هذا المشهد؟ سيحفظ خطاب نتنياهو في أرشيف الكونغرس كوثيقة من تاريخ «الحضارة». ويذكّرنا هذا بمقولة الفيلسوف الألماني ڤاتر بنيامين (1892- 1940) البليغة: «ليس هناك وثيقة حضارة دون أن تكون، في الوقت ذاته، وثيقة للبربرية».
[نُشرت هذه المقالة لأول مرة عبر موقع القدس العربي].