حين أعلن رئيس مجلس أمناء جامعة كولومبيا اختيار نعمت شفيق رئيسة للجامعة في يوليو/تموز 2023، وكانت أول امرأة تشغل هذا المنصب، امتدح «ثقتها التي لا تتزعزع في الدور الحيوي الذي يمكن، ويجب، أن تلعبه، مؤسسات التعليم العالي في حل أكثر مشاكل العالم تعقيداً». ترى هل تعد حرب الإبادة الشاملة التي تشنّها إسرائيل ضد الفلسطينيين في غزّة، من بين أكثر مشاكل العالم تعقيداً بنظر من يحتلّون مناصبهم في مجالس أمناء الجامعات المرموقة، والرؤساء الذين واللواتي يقع اختيارهم عليهم، وعليهن؟ وما الدور الذي لعبته جامعة كولومبيا ورئيستها في التعامل مع مشكلة بالغة التعقيد كهذه؟
كانت شفيق (التي ولدت في الإسكندرية لعائلة مصرية هاجرت في الستينيات إلى الولايات المتحدة، ودرست هناك، ثم حصلت على الدكتوراه من أوكسفورد) قد بدأت مسيرتها المهنية في الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، ثم البنك الدولي، ثم انتقلت إلى قسم التنمية الدولية في المملكة المتحدة، ثم صندوق النقد الدولي، ثم بنك إنكلترا، حيث أشرفت على لجان تتصرف بما يقارب 600 مليار دولار.. وكانت رئيسة كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية.
وبعد اختيارها لرئاسة جامعة كولومبيا، تداولت وسائل الإعلام تفاصيل عن «رؤية» شفيق وفلسفتها في ما يتعلق بمهمة الجامعة في هذا العصر الذي لا يخلو من التحديات المعقّدة. وكان لرؤيتها وأفكارها النظرية عموماً وقع إيجابي. على سبيل المثال، تؤمن شفيق بأن «على الجامعات أن تنمّي بيئة لا يتفق فيها الناس دائماً، لكنهم يتعلمون من بعضهم بعضا، وينمون الفهم المتبادل. وهذا جزء من تشجيع مجتمع منفتح. كما أن «على عمل الجامعة أن يشجع العدالة الاجتماعية والازدهار في مجتمع تعددي. للجامعات دور محدّد في إعطاء الشباب فرصاً لمواجهة الاختلاف، وأن يتعلموا كيف يشتبكون مع الاختلاف. في العالم المعقد الذي نعيش فيه، تصبح القدرة على التعامل مع أناس لديهم منظار مختلف ووجهة نظر مختلفة للغاية طريقاً أساسياً لبناء مجتمع متماسك فذلك يسمح للناس بالعيش والتقدم واتخاذ القرارات سوية».
كما هو الحال مع رؤساء الدول، والزعماء السياسيين، فإن حجم الهوة بين الخطاب النظري، والتطبيق والممارسة، تجلّى بوضوح لدى أول اختبار. فقد شهد عهد شفيق، الذي لم يدم أكثر من سنة وأسبوعين، إذ استقالت من منصبها في 14 أغسطس/آب 2024، قرارات وخطوات اتخذتها ضد الطلاب المناصرين لفلسطين والداعين لوقف حرب الإبادة، ناقضت مقولاتها عن دور الجامعة ووظيفتها وأفكارها عن «المجتمع المفتوح الذي يشجّع الاختلاف». وجاءت استقالة شفيق بعد أسبوع من استقالة ثلاثة عمداء في جامعتها، بعد أن سربت رسائل نصيّة تبادلوها واتهموا بمعاداة الساميّة. وهي خامس استقالة لرئيس ورئيسة جامعة أمريكية منذ بدء حرب الإبادة ضد غزّة وتبعات الحراك الطلابي في الجامعات الأمريكية.
ما سيذكره التاريخ عن عهد شفيق هو قمع حرية الرأي والتعبير داخل الجامعة، بإصدار قرارات تقمع مجموعات الطلاب المناهضة لحرب الإبادة. فقد منعت مجموعتي «طلاب من أجل العدالة في فلسطين» و«صوت يهودي للسلام» متذرعة بادعاء أصبح شائعاً منذ بدء حرب الإبادة في الجامعات الأمريكية، وهو أنها خالفت قوانين الجامعة. وحين أقام تحالف الطلاب في جامعة كولومبيا أول مخيم في الولايات المتحدة وطالب المعتصمون بوقف إطلاق النار وبسحب استثمارات الجامعة من الشركات المساهمة في حرب الإبادة، استدعت شفيق شرطة نيويورك سيئة الصيت، التي اعتقلت أكثر من مئة متظاهر في أبريل/نيسان من العام الماضي. وفصلت العشرات من الطلاب ومنعتهم من دخول الجامعة، ومن المشاركة في حفل التخرّج. وسيذكر التاريخ تلعثم شفيق وخنوعها أثناء مثولها للاستجواب أمام الكونغرس الذي قادته النائبة اليمينية إليس ستيفانك، الممثلة الجمهورية عن ولاية نيويورك، واستعدادها لفصل أساتذة وإحالتهم للتحقيق لإرضاء مستجوبيها وجمهورها.
بالعودة إلى سيرة شفيق المهنية. قد تبدو، لأول وهلة، أكثر ملائمة لمؤسسة مصرفية، لا لمؤسسة أكاديمية. لكن هذا يقول الكثير عن التحوّلات التي طرأت على التعليم العالي في الولايات المتحدة منذ نهايات السبعينيات. وعن تحوّل الجامعات الخاصة، تدريجياً، من جامعات فحسب إلى صناديق استثمارات هائلة، تحتوي على جامعة كما يقال عند مناقشة هذا الموضوع. وليس في الأمر مبالغة. فللجامعات الأمريكية أكثر من 130 مليار دولار مودعة في صناديق الاستثمار الكبرى. ولكل هذا تأثير بالغ على طبيعة عمل وهيكلة الجامعات وعلى أولوياتها الأكاديمية وحيوات الطلاب، لكن الأهمّ، في ما يخص موضوعنا، هو التأثير الهائل لأصحاب رؤوس الأموال وتغلغلهم في مجالس الأمناء، وانصياع الجامعات لتوجهاتهم وانحيازاتهم السياسية، كما لتأثير الشركات الكبرى على سياسات الجامعات والضغط الذي يمكن تفعيله في أي وقت.
المفارقة أن الصهاينة ومن يصطف معهم من اليمينيين والمحافظين، لا يظنّون أن شفيق دعمتهم بما فيه الكفاية، وأنها كان يجب أن تكون أكثر حزماً ضد خصومهم. مع العلم أن شفيق أصدرت قراراً في نوفمبر/تشرين الثاني 2023 بتشكيل فريق عمل خاص لمواجهة معاداة السامية (وأخفق الفريق في تعريف معاداة السامية وفي تقديم إجابات مقنعة عن مهمة الفريق في أول لقاء مفتوح). لكنها لم تتعامل بجدية ولا بحزم مع العنصرية المستشرية ضد الطلاب المناصرين لفلسطين، والمثال الأبرز هو قيام أحد الطلاب بمهاجمتهم بسلاح كيمياوي في حرم الجامعة. بعد يوم من استقالة شفيق كانت هناك شاحنة تقف خارج مدخل جامعة كولومبيا وتحمل صورة كبيرة للرئيسة المستقيلة كتب عليها: انتبهوا أيها الطلبة! سمحت شفيق لمعاداة الساميّة أن تدمّر مهنتها. لا ترتكبوا الخطأ نفسه! وهو أسلوب من أساليب الترهيب ضد الطلاب القادمين والعائدين استعداداً للسنة الأكاديمية التي ستبدأ في سبتمبر/أيلول لثنيهم عن مواصلة الحراك الذي بدأ العام الماضي. لكنها أساليب لن تنجح.
[نُشرت هذه المقالة في البداية على موقع القدس العربي].