أيّتها الموجةُ
هل الزبدُ منكِ، أم منّي؟
اللحظةُ حُبْلى،
لا ندري ما الذي ستلدُه؟
اللغة تُخْتَزل وتمّحي حروفها.
صورُ الجثث تُمْحى بصورٍ أخرى.
نعيش فوق خطوط الصَدْع والانفجارات.
حين يأتي إعصارٌ
يُفْرغُ خزائنه
فتهربُ المدينة في الضباب.
حين تشتعل نارٌ
لا تعثر الغابة على أصابعها كي تضمّ
ما تبقّى منها.
في هذا الزمن
اخلطْ أي شيء بأيّ شيء
اصنعْ أيّ طعم
وقل: هذا هو اسمي.
اخلطْ أفكارك بعواطفك
وقل: هذ إكسيرُ الفكر.
ابحث عن بلدٍ آخر
ادرس أوضاعه
وانْس الشارع الذي ولدتَ فيه.
اعجن الأشياء
اصنع إلهاً
اعْبدهُ قليلاً
وإذا مللتَ ارْمه في القمامة.
اقبض على اللغة
جفّفْها من المعنى
وقلْ: هذه هويتي.
تعيش كمثل من يبني خيمته على الريح
تزرع نفسك في التربة فلا تنمو
تحقنُ نفسك في عضلةٍ
تشحذُ عقلك بتعويذة أرقامٍ
حيث المهاجرون يفتحون كوّةً على ماضيهم
ويَعْلقون فيها.
هنا الوهج ليس ضوءاً
ريشة الهنديّ الأحمر تُرْمى فوق الزجاجات المحطمة
وإبر الأفيون.
الجسد مجرّد عضلةٍ
الذهنُ آلةٌ حاسبة
الروح جيبٌ سريٌّ
ندّخر فيه نقوداً من أجل دفنٍ لائق
أو لحَرْق جثثنا ونَثْر رمادها في المحيط.
أرمي نردي وأُدْمن النظر
تعيش عيناي في التحديق
شفتاي في عشّ كلمات تموت.
بعد أربع سنواتٍ في شيكاغو
صرتُ صديقاً لكراس جلستُ عليها في البارات،
لثلوجٍ تراكمت،
تحوّلت إلى أغصانٍ للأشجار.
بعد ستّ سنواتٍ في كاليفورنيا
تعرّفتُ على الطائر الطنان
وعلى طائر الدخلة
وعلى المسرحيّ الكبير أبي زريق
بتّ أعرف مواعيد تحليق النسور
وأواكب أسراب البجع
في وهج رخام السماء
وازداد عشقي لضوء يسكن الأجنحة.
بعد عشر سنوات في أمريكا
اكتشفتُ أنني
أحبّ قيادة سيارتي بلا هدى على الطرق السريعة
أن السفر لا يعني أن تعبر الحدود
بل أن تستكشفها في نفسك.
أيتها الموجه
هل الزبدُ منك أم مني؟
اللحظة فقاعةٌ
الساعة تُباع وُتشترى في سوق نخاسة الزمن
الشهر يُرمى كمثل كيس قمامةٍ
العام طويلٌ أو قصير
مملٌّ أو مضجر
بحسب إيقاع جيبك.
أيتها الموجة
هل الزبد منك أم مني؟
انْس من أنت
انس أنك مهاجر
أنك مقيم
انس من أين أتيت وإلى أين ستذهب
ألا تشعر بالفراغ تحت قدميك؟
رعاةُ بقر اللحظة يطلقون
النار على الهواء
وآلاتُ القمار
تحمل مفاتيح الجنة والنار.
روبوت يدّعي النبوة
يسير الناس خلفه
يعدُهم بانتصابٍ أبدي.
شاشةٌ تفتح باب الحلم وتُغْلقه.
أيتها الموجة التي تتقدّم
هل الزبدُ منكِ أم مني؟
ها أنذا أتحطّم على شاطئي
أتلاشى مع فقاعتي الأخيرة.
أيتها الموجة،
لا أريد أن أتمرأى فيك
أريد أن أفهم لغتك
أن أستأنس بهديرك
وأشعل حطبك في فراغ ساعتي
كي أتدفّأ قليلاً
من أعضاءٍ تُكتب بحبر السيليكون
من أفكار مصنوعة من دخان الماريجوانا
من نساء يستعرْن وجوهاً وأردافاً وأثداء للسهرة
ورجال يعيشون في خزائن فحولتهم.
أيتها الموجة
هل الزبد مني أم منك؟
صواريخ خارقة لسرعة الصوت تدور حول الكوكب،
حاملاتُ طائرات تحمل المستقبل إلى المقابر
ومسيّراتٌ تصطاد الأحلام.
أيها اليقين أغربْ من هنا
أيها النهار لا أرى شمسكَ
أيها الليل أحنُّ إلى ظلامك
أزلْ قشور أضوائك عني
واتركني وحيداً في شوارع شيكاغو
أعوي كمثل شعاع ضوء ضيّعَ شمسه
أتلقّى الرصاص والطعنات
لأختبر خوفي في المدن.
المسافات تفقد عذريتها
الطائرات تخترقُ جدار الصوت في أحلامي
وتأكل أشلائي.
إنه عصر القنص
عصر صيادي الثروات من جيوب الموتى.
أُفْرغُ الكؤوس
وأطلقُ ضحكتي في الفراغ
أمنح بحضوري هويّة لليل
أرسم وشماً على زند النهار
وحين تعرج الساعة،
وتتزحلق مسرعةً على أرض من الجليد
أعيرها قدميّ.
ما الذي يهمّ في هذا الظلام؟
قد تتفتح وردةٌ ولا يراها أحد،
قد يختنقُ عطرها على ظهر الهواء.
الضوء هنا،
يضيء زاويته،
ويُدفْن، في المكان الذي يعيش فيه.
ما الذي يهم في هذا الضوء؟
بوسعك أن تستأجر امرأة آلية
كي تُمضي الليلة معك
وحين تنتهي تعود عذراء من جديد.
أتمدد، منهكاً، كأنني قطعة أثاثٍ
تجلس عليها الهموم.
غداً قد أفتح الباب وأخرج،
غداً قد أبقى ممدّداً
ويرنّ الهاتف
يعلو الصوتُ في قبّة الفراغ
وتكون يدي ليست معي
وتكون أذني كأنها لم تتشكل
وأعود إلى ضحكٍ يأتي من حيث لا أدري
يتعالى من الأشياء
أو ربما كان أنيناً،
ينادي ميتاً
تحزن عليه الأشياء
وتسير في جنازته
دون أن يراها أحد.
أبحثُ عن هواء أتنفّسه،
يأتي إليَّ طوعاً،
أرفض أن أحوّل أحزاني إلى
أبواقٍ وطبولٍ في أعياد الموت،
لا أريد حزناً يفضي إلى جرحٍ
أو مزيد من النزيف
لا أريد ندباً يصير أنشوطة حول عنقٍ
أو شفرة تقطع وريداً.
لن أصهر ألمي كمثل معدنٍ
وأطلقهُ من الفوهات.
الحياةُ تضيق،
صارت ثقوباً يمرّ منها الرصاص
بيوتاً تتهدّم فوق رؤوس أصحابها
طهاةً جدداً للغة العصر
شواهدَ قبورٍ فوق الأكتاف.
اللغة تسيلُ كمثل المرق من الأفواه
كمثل الوحل على صفحات الجرائد
وتخرجُ مخلوطةً بالسمّ من أفواه المذيعين.
الحياة تضيقُ
لم تعد تناسب أجساداً
تلبسُ أكفاناً في مهرجان القتل.
الجريمة تشقُّ البحر بعصاها
وتقود بعض الشعوب إلى المستقبل.
أدمغةٌ تمتصّ زفير وشهيق الكتب المقدسة
وهو يخرجُ من لهاث المصلين.
أيّتها الموجة
هل الزبد منكِ أم منّي؟
يعرف جسدي أن لغتي ليست لي،
ربما من ثُقْبٍ في جدارها
ستخرجُ شمسه
وحينها، سأقول، منتشياً:
ها هي شمسي قد وُلدت.