قبل عام، تعرضت السواحل الليبية لفيضان مدمر إثر وصول العاصفة دانيال راح ضحيته الآلاف من سكان مدينتي درنة وسوسة، حيث وصل عدد القتلى لأكثر من 4300 شخصاً وأكثر من 8500 مفقوداً، وفقدت درنة 8% من سكانها مع دمار واسع، إذ مُسحت أحياء بأكملها، وتضررت بشكل كبير البنية التحتية. بالإضافة لذلك، نتج عن الفيضان تدمير المحاصيل المزروعة على أكثر من 16 ألف هكتاراً، وتدمير التربة السطحية الحيوية لـ4.6% من الأراضي الزراعية، وتسبب الفيضان أيضاً بموت أكثر من 74 ألف حيواناً، تمثل 3.2% من الثروة الحيوانية في البلاد.
إن كارثة درنة الناتجة عن العاصفة دانيال تفوق الوصف، فهي أعنف فيضان في القارة الإفريقية منذ عام 1900، مأساة دمرت بالإضافة لخسائرها البشرية ربع الأراضي الشجرية و11% من التربة العارية و26% من المراعي، وهي حدث لا بد من التوقف عنده والنظر في أسبابه ودق ناقوس الخطر بشأن الآثار المدمرة والقاتلة للاحتباس الحراري على المنطقة العربية بشكل عام، ومنطقة شرق المتوسط بشكل خاص.
إن هذا النوع من الأعاصير التي تتشكل في مركز البحر الأبيض المتوسط تحدث بشكل طبيعي خلال الخريف، وكانت دائماً ما تتبدد في البحر، إلا أن هذه الأعاصير بدأت بالوصول إلى شواطئ شرق المتوسط المنخفضة، مثلما حدث في درنة، ففي دراسة نشرت في مجلة نيتشر، أشار الباحثون أن الزيادة الكبيرة في درجات الحرارة في جنوب أوروبا والمياه الساخنة في المتوسط أدت إلى زيادة شدة الإعصار بشكل كبير، ما أدى إلى وصوله للسواحل، على عكس ما كان يحدث مع الأعاصير المتوسطية الأخرى التي تنتهي في البحر.
إن الأثر الذي تركه التغير المناخي في هذه الكارثة كان واضحاً، ولم يتوقف عند زيادة شدة الإعصار بحيث يصل إلى السواحل مع سرعة رياح بلغت 120 كم في الساعة، بل ساعد في زيادة الأثر المدمر له عوامل أخرى تسبب بها التغير المناخي، أو بالأحرى إهمال التعامل مع آثاره، فقد وجدت دراسة حديثة نشرت في نيتشر أن آثار الفيضان المدمرة نتجت عن الطبيعة الهيدروليكية الشاذة لمياه الفيضان التي تحملت بالأتربة الناتجة عن تآكل التربة ما تسبب بفيضان طيني، مما ضاعف الأضرار وفاقم الكارثة.
على الرغم من أن العلماء والناشطين المهتمين بالبيئة وآثار التغير المناخي يصدرون النداءات دائماً لأخذ التهديدات الناجمة عن الاحتباس الحراري بشكل جدي، إلا أن تجاهلها باعتبارها خطراً بعيداً وغير قاتل، أو ليست خطراً من الأساس ثبت بشكل قاطع أنه غير صحيح، فقبل الكارثة الإنسانية التي سببها العدوان الإسرائيلي على غزة، كانت كارثة درنة هي أسوأ كارثة تسببت بضحايا خلال العام 2023 على الأقل، ومن ناحية الكوارث البيئية فهي الأسوأ في القارة الإفريقية منذ أكثر من قرن.
إن بلدان شرق المتوسط الفقيرة تدفع ثمناً باهظاً للتغير المناخي، والذي لم تسهم في التسبب به بنفس القدر الذي ستتأذى منه، ويلزم أن تتخذ إجراءات وسياسات لا يبدو أن صناع القرار في الدول المستقرة منها يعطونها أي أولوية، بالإضافة إلى أن عائق عدم الاستقرار الأهلي والسياسي في بعض بلدان المنطقة يجعل الحديث عن مواجهة التغير المناخي يبدو أمراً خارجاً عن السياق السياسي.
إن مواجهة آثار التغير المناخي التي بدأت تخلف كوارث تضيف إلى ما تتسبب به الحروب والنزاعات الأهلية من ضحايا وكوارث، تتضمن ضرورة إعادة تصميم المدن الساحلية من أجل زيادة قدرتها على الصمود في مواجهة الكوارث، وهنا يلزم بالضرورة أن تشارك الدول المتقدمة خبراتها المتراكمة وإمكاناتها التقنية وقدرتها التمويلية من أجل مساعدة البلدان الفقيرة في المنطقة على إتمام الدراسات اللازمة لهذه السياسات. كما يجب على البلدان القاحلة في حوض شرق المتوسط مثل مصر وليبيا والأردن والسعودية أن تجري تحولاً استراتيجياً في استخدام الأراضي عبر تشجيرها وإنشاء مساحات خضراء بهدف السيطرة على تآكل التربة والتي أثبتت الدراسات أنها سببٌ رئيسيٌ في زيادة آثار الفيضانات والسيول.
إن كل يوم يمر دون اتخاذ خطوات جدية في مواجهة التغيرات المناخية سيؤدي لتفاقم الأضرار الناجمة عنها، ويزيد من التعقيدات أمام إمكانية تنفيذ الحلول أكثر فأكثر، ويرفع بالضرورة كلفتها الاقتصادية والاجتماعية. إن من المفهوم والمنطقي أن تتسبب الدول الصناعية الكبيرة بتدمير البيئة من أجل مصالحها الاقتصادية، وإن كان هذا غير مقبول، وغير أخلاقي، باعتبار أن بلدان العالم الثالت الفقيرة هي من سيدفع الثمن، لكن من غير المفهوم أن تتجاهل البلدان المتضررة مصالحها في السعي نحو اقتصاد مستدام ومواجهة آثار التغيرات المناخية.
إن بناء اقتصاد أخضر ومستدام، ومراعاة المعايير البيئية في البناء وتصميم المدن، وزيادة الغطاء الشجري والمساحات الخضراء، هي خطوات استباقية في مواجهة آثار الاحتباس الحراري وتغيرات المناخ، مع ضرورة التذكير بأن عامل الوقت مهم في حماية الأرواح والممتلكات، وحماية البيئة والتنوع البيولوجي. إن قابلية أراضي المنطقة للسكن والحياة مهددة بالفعل، والثمن الذي نستنكف أن ندفعه اليوم، قد ندفع أضعافه غداً، آملين أن يتنبه الفاعلون والناشطون وصناع القرار لمصيبة تحوم فوق رؤوسنا جميعاً، وأن يتخذوا ما يلزم في مواجهتها، وألا تتكرر الكوارث والمصائب.