صدر مؤخراً للأكاديمي والأستاذ الجامعي الأمريكي من أصل مغربي يونس البستي عن منشورات جامعة ييل كتاب بعنوان "حكايات طنجة" يضم مختارات قصصية من أعمال محمد شكري.
علاوة على عمله الأكاديمي كأستاذ جامعي ومدير للدراسات الأكاديمية هناك، هو مترجم وناقد أدبي. وحاصل على العديد من الجوائز، بما في ذلك وسام الاستحقاق الوطني الفرنسي من رتبة قائد، ووسام السعفة الأكاديمي، وجائزة Poorvu لعام 2020 للتميز في التدريس في جامعة ييل Yale، وتقدير خاص لمساهماته في التعليم من مجلس شيوخ ولاية ماساتشوستس، وزمالات بحثية، بما في ذلك زمالة بحثية من المعهد الأمريكي للدراسات المغاربية.
بسبب النقص الكبير الذي لمسه في ترجمات الأدب العربي إلى اللغة الإنكليزية أخذ على عاتقه مهمة تعريف المجتمع الأكاديمي الأمريكي بأعمال عدد من المبدعين العرب المهمين عن طريق ترجمتها ووضع قراءات ودراسات تمهيدية لها، حيث يتمحور مشروعه حالياً حول ترجمة أعمال الكاتب المغربي محمد شكري ثم أعمال ما يسميهم أعمدة القص المغاربي، بالإضافة إلى ترجمات شعرية لعدد من الشعراء المعاصرين العرب. كان لنا معه الحوار التالي.
سوزان المحمود (س. م.): لماذا اخترت محمد شكري؟ هل لذلك علاقة بدراسات أدب ما بعد المرحلة الاستعمارية؟ أم هو مشروعك الخاص؟
يونس البستي (ي. ب.): نعم إنه مشروعي الخاص، شغفٌ قديم. شغفٌ ذاتي وأكاديمي بنفس الوقت. شكري شخصية استثنائية وجدت في لحظة تاريخية محددة. أمازيغي ريفي وفد إلى طنجة مع عائلته من جبال الريف هرباً من المجاعة معتقدين أن طنجة فيها خبز، كما قالت والدته في سيرته الذاتية (وهو ما نوهنا له في كتابنا الأكاديمي مع د. روجر آلن "قراءات في أعمال محمد شكري – الجوع في عدن") ولكن طنجة كانت مدينة يرثى لها ترزح تحت الوصاية الدولية (إسبانيا -بريطانيا – فرنسا – أمريكا الخ ...) وبسبب الاستعمار عاش شكري مع عدد كبير من سكانها الفقر والحرمان، والتشرد، والعنف، والأمية، والسجن، وعمل في أسوأ المهن حتى يعيل نفسه إلى أن بدأ التعلم في سن العشرين وانطلق في عالم الأدب. سمعت عنه أول مرة حين كنت في الثالثة عشرة من عمري في المرحلة الإعدادية، أعماله كانت محظورة في المغرب وخاصة "الخبز الحافي"، لكنه كان شخصية محبوبة في الأوساط المغربية، والكتاب المحظور كان محفوظاً في مكتبة المنزل، وحصلت على نسخة منه حين بلغت الرابعة عشرة من عمري. أبهرني وزاد اهتمامي به عندما اطلعت على سيرته الذاتية، وباكراً قررت أن أتخصص بأدبه وأن أُدرّسَ كتبه في مادة الأدب، في الوقت الذي اهتم به جميع زملائي بدراسة كتاب غربيين اهتممت أنا بتقديم شكري في الجامعات الأمريكية والعالمية. ولا أزال أعمل على أدبه أكاديمياً منذ 15 عاماً بحثاً وترجمةً.
(س. م.): أقامت جامعة ييل مؤتمراً حول محمد شكري لعبتَ دوراً محورياً في تنظيمه، ما الذي يمكن أن تقوله لنا عن هذا المؤتمر؟
(ي. ب.): قمتُ بتنظيم أول مؤتمر عن شكري باللغة الإنجليزية في جامعة ييل Yale في أكتوبر 2022. ودرّستُ أول فصل دراسي عنه لطلاب الجامعة في الولايات المتحدة الأمريكية في المراحل الدراسية الأولى، والدراسات العليا. درسنا قراءات في مجمل أعماله، و ثلاثية السيرة الذاتية (الخبز الحافي، زمن الأخطاء، وجوه) ثم القصص، المجموعتان (مجنون الورد، الخيمة)، وكل ما كتبه شكري من مذكرات (بول بولز في عزلة طنجة)، (جان جينيه في طنجة)، (تينسي وليامز في طنجة)، أيضاً ألقيت محاضرات عنه في معظم البلدان في الصين والسويد وأستراليا ورومانيا وبلجيكا، (ليس فقط شكري درّست أيضاً ثلاثية أحلام مستغانمي)، معظم الناس يعرفون "الخبز الحافي" لكنهم لا يعرفون بقية أعماله حتى كان يقول: إن "الخبز الحافي" لعنتي، لأنه نشر كتباً مهمة، وهو معروف حتى الآن بصاحب "الخبز الحافي" فقط رغم كل الإنجازات التي قدمها في حياته. ألقى شكري رواية "الخبز الحافي" شفهياً على صديقه بول بولز فكان يسجلها أولاً ثم يعيد تدوينها وأصدرها أول مرة بالإنجليزية عام 1973 وكان واضحاً فيها البعد الاستشراقي، ثم صدرت بالفرنسية بواسطة الطاهر بن جلون سنة 1980، ولم تصدر بالعربية حتى سنة 1982 في المغرب ومولها من جيبه الخاص. في 2021 كتب الكاتب المعروف محمد برادة رسالة موجهة إلى صديقه شكري بمناسبة ذكرى وفاته وكان قد غادرنا عام 2003، تَرجمتُ الرسالة إلى الإنجليزية ونُشِرت في مجلة "الأدب العالمي اليوم" World Literature Today وهي مجلة أمريكية عريقة عمرها يقرب مئة سنة.
(س. م.): جميعنا ندرك مدى خطورة فعل الترجمة ومدى مسؤولية المترجم عن نقل العمل من اللغة والبيئة الأم إلى لغة أخرى ومتلقين مختلفين، هل واجهت صعوبة في ترجمة عوالم شكري القصصية المُفعمة بالروح المحلية؟
(ي. ب.): نعم هناك صعوبة في ذلك، الترجمة بالنسبة لي مرتبطة بعملية التذوق والقراءة، أقرأ النص عدة مرات حتى أشعر به وأستوعب جماليته تماماً، وغالباً أقضي وقتاً طويلاً في تذوقه واستيعابه، ثم أكتب عدة مسودات للنص الذي سأترجمه، بعدها أختار الأفضل، محاولاً نقل روح النص ومناخاته لقارئ اللغة الإنجليزية.
(س. م.): من أين تستمد مجموعة "حكايات من طنجة" أهميتها اليوم؟ خاصةً أن الكتاب صدر عن دار نشر أكاديمية عريقة كجامعة ييل Yale، وصنف ضمن أفضل الترجمات لهذا العام، كما كان قد صدر كتابك السابق "أصوات معاصرة" عن جامعة جورج تاون Georgetown، هل هو اعتراف رسمي من المجتمع الأكاديمي الأمريكي بالأدب العربي؟
(ي. ب.): في الحقيقة حتى اليوم ما يزال الاهتمام الأكاديمي الأمريكي بالأدب العربي محدود جداً، ربما أحد الأسباب التي جعلتني أختار مشروعي في الترجمة هي النقص الشديد في ترجمات أعمال كتاب عرب إلى الإنكليزية، فعندما كنت طالباً ودرست فصل الأدب العالمي، لم يكن هناك اسم كاتب عربي واحد ضمن قائمة الدرس، وذلك لعدة أسباب و من بينها ندرة دور النشر التي تترجم الأدب العربي إلى الإنجليزية واللغات الأخرى، وندرة الجوائز المقدمة للأعمال العربية الجيدة، حدث تغير ضئيل بإحداث جائزة البوكر العربية، لكنه غير كافٍ، لهذا أقوم بهذه الترجمات من العربية إلى الإنكليزية لأن المجموعات القصصية التي صدرت مهمة جداً فقد جمعتُ في هذا الكتاب قصص مجموعتين لشكري(مجنون الورد والخيمة) وهما تقريباً يضمان معظم أعماله القصصية، لرغبتي بتعريف القراء بها، وكانت موافقة دار نشر جامعة ييل Yaleعلى نشرها في غاية الأهمية، منذ صدورها وحتى الآن أصبح لدينا العديد من القراءات الأكاديمية لحكايات طنجة، وصنفت ترجمتي لهذه القصص ضمن أفضل الترجمات في مجلة "الأدب العالمي اليوم". وسيصدر لي في شهر أكتوبر كتاب "وجوه" وهو الكتاب الثالث في السيرة الذاتية لشكري، وبذلك تكون الثلاثية جميعها قد أصبحت بيد القارئ الغربي. ترجمة أعمال شعرائنا وكتابنا للغة الإنجليزية أمر بالغ الأهمية ليتمكن أدبنا من أخذ مساحته الخاصة ضمن خارطة الأدب العالمي والترجمة هي الوسيلة الأساسية لذلك.
(س. م.): ما مدى إيمانك بأن قراءة أدب بلد ما يسهم في تصحيح النظرة العالمية تجاه هذا البلد؟
(ي. ب.): الثقافة معقدة جداً وتأثيرها بعيد وغير مباشر، بالنسبة لي أؤمن بجماليات الأدب الذي يؤثر علينا، وما يحدثه من تغيير في القارئ بعد قراءة النص. وأعتبر أن ترجمة نص أدبي جيد عمل معرفي وجمالي، المترجم يخلق نصاً جديداً يكاد يوازي النص الأصلي وبالتالي المترجم يقوم بعمل إبداعي.
(س. م.): بفضل تطور التكنولوجيا أصبح موضوع الترجمة الفورية أمراً ممكناً ومتاحاً للجميع، كيف ترى دورها، هل يشكل هذا خطراً على عمل المترجم والباحث الأكاديمي، وهل اختلفت مسؤوليته اليوم؟
(ي. ب.): لا يمكن لتطبيقات الترجمة أن تحل محل المترجم الأدبي، لا يمكن ترجمة الشعر أو الأدب باستخدام التطبيقات، لأن المترجم الأدبي قارئ متمكن للأدب ومتذوق له، وعندما يقوم بترجمة نص شعري أو أدبي، يبذل جهداً كبيراً ليخلق نصاً جديداً يشق حياته الخاصة بلغة أخرى، فالمترجم إذاً أيضاً مبدع. في الماضي لم تكن دور النشر تذكر اسم المترجم لأسباب تسويقية، اليوم نجد اسم الكاتب واسم المترجم على الصفحة الأولى.
(س. م.): هل يمكننا أن نتحدث عن كتابك الجديد الذي سيصدر في أكتوبر "وجوه"، وهو الكتاب الثالث في السيرة الذاتية لمحمد شكري، وبدأ يلقى ترحيباً أكاديمياً إذ يقول روبين كرنسويل من جامعة ييل Yale في هذه الترجمة المدهشة "في ختام سيرته الذاتية الخيالية الروحية، يتنازل شكري عن مركز الصدارة لمجموعة من الشخصيات الحية - الإخوة، والمنافسين، والأنا البديلة. ومع ذلك فهو الرجل والكاتب الذي عرفناه دائماً: مفلس وملعون، متعاطف ومدنس، أفضل مرشد لنا في ليالي طنجة". ما هي الصعوبات التي واجهتك في ترجمة هذا الكتاب؟
(ي. ب.): نعم قمت بترجمة كتاب "وجوه" وهو يترجم لأول مرة إلى الإنكليزية وبذلك تكون ثلاثية السيرة الذاتية لمحمد شكري مكتملة "الخبز الحافي، زمن الأخطاء، وجوه" وبين يدي قارئ اللغة الإنكليزية، وهذا أمر مهم جداً. يتحدث كتاب وجوه عن الشخصيات التي عاشرها والتقى بها شكري في طنجة، شخصيات شعبية محلية لها خصوصيتها، وعن الأماكن وعلاقة الأشخاص بها، كما رصد تحولات المدينة وساكنيها خلال فترة زمنية محددة.
(س. م.): تحدث د. روجر آلن في مقدمة الكتاب عن البعد الشفهي في إبداع محمد شكري المتعلق بالذاكرة، كما تحدث عن تفرد شكري واختلافه عن جميع أساطين القصة مثل إدغار آلن بو وغوغول وموباسان وزكريا تامر ويوسف إدريس، وذلك باعتماده على غرائزه في القص وامتلاكه أسرار المكان وسكانه وهو هنا طنجة بكل تنوعها، ما تعليقك على ذلك؟
(ي. ب.): شكري يختلف تماماً عن هؤلاء. لن نتحدث عن الحياة القاسية لأن زكريا تامر كان عنده حياة قاسية أيضاً، ولكن أحد الفروق الجوهرية بين شكري وبينهم جميعاً هو أن ما ساعد شكري في كتابته هو الذاكرة، والذاكرة فقط، لأنه بقي لا يقرأ و لا يكتب لمدة طويلة جداً امتدت لعقدين كاملين وعاش في أزقة طنجة مع شطارها، كان هناك اختيار لبعض الأشياء كما نعرف نحن، فحين تُكتب السيرة الذاتية يتم اختيار بعض الأشياء وإغفال أخرى، ولكن بالنسبة لشكري معظم الناس لن يجرؤوا على كتابة هذه الأشياء. عادة السيرة الذاتية تتحدث عن الإنجازات العظيمة التي قام بها الإنسان فقط في حين عندما نقرأ "الخبز الحافي" نجد كل الأشياء التي عانى منها في طفولته ومراهقته وشبابه الأول، ليس هناك أي مجد أو بطولة أو إنجاز. بالعكس كان يصور واقعاً مريراً مر به مع سكان هذه المدينة. وهو بدون آباء إبداعيين. معلمته الحقيقية هي الحياة والتجربة في الشارع، يتمتع أسلوب شكري ببساطة اللغة وسلاسة العبارة، لكن هذه السهولة تخفي صوراً عميقة جداً ومؤثرة دون ابتذال، يبتعد شكري تماماً عن تجميل الواقع البشع، يسمي الأشياء بمسمياتها، لكنه يسرد قصته بطريقة جميلة محببة، فيرتفع الواقعي الفج إلى مصاف الأدب الإنساني العميق.