"الكلمةُ صارَ جسداً" الجسد العنصر الأقدم، خامتنا الأولى، أداة التعبير الأكثر بدائية، لكنها الأكثر نجاعةً (عندما تعجز وسائل التعبير الأخرى عن قول ما لا يقال). التعبير بالجسد سابقٌ للأفكار ولتمثلاتها من كلمات وأدوات إبداعية أخرى، به يعبر الإنسان عن رغباته وهواجسه. فهو يولدُ وجسده يصرخُ مع روحه، يلج الحياة متألماً متمرداً ويستمر في محاولة التأقلم مع المحيط الاجتماعي والسياسي الذي يولد ويعيش فيه. وفي مجتمع يرزح تحت طبقات متعددة من التسلط والسلطات (اجتماعية، دينية، سياسية، وفوقها سلطة الاحتلال) يصبح هذا الجسد حاملاً لثقلٍ كبير من القيود، لكنه بالنسبة للفنان المؤدي عالمه الأول وأداته الأولى والأكثر نجاعةً في التعبير عن الأفكار والقضايا المصيرية (الحرية بكل معانيها: الجسدية والفكرية، والإبداعية، الفردية والوطنية والإنسانية،..) والمسرح يمنحه مساحة للعب، ولفتح المسارات وتقريب المسافات وإثارة التساؤلات بينه وبين ذاته من جهة، وبينه وبين المتلقي من جهة أخرى، يرمي الجسدُ على الخشبة حمولته الفكرية، لكنها هنا ليست حمولة صلدة جافة، هنا هي مرنة، لعبية، حرة، تعبث بالفضاء وتعيد نسج علاقة المؤدي مع فضائه المسرحي من جهة ومع الفضاء العام من جهة أخرى، فالمسرح في النهاية مساحة للكشف والاكتشاف للطرفين للمؤدي وللمتلقي.
في عرض "ريش" لفرقة شادن للرقص المعاصر، والذي قُدم في شهر أيار على خشبة مركز محمود درويش في مدينة الناصرة الفلسطينية، ثم انتقل الى مدن أخرى، الناصرة التي قال عنها درويش في إحدى أمسياته مع أهلها: "منذ تساءل نتانائيل: أيخرج من الناصرة شيءٌ صالح؟ خرجت منها البشارة وكل شيءٍ صالح، فهذه الضيقة الحجم الوارفة الاسم هي إحدى عواصم المعنى الروحي الكبرى المبجلة برسالة يسوع الناصري التي تهدي الجلاد قبل الضحية لأنه خيرٌ للضحية أن تعلم جلادها من أن تتعلم منه"، نحن في الأرض المقدسة على مسرحٍ موازٍ، للواقع المرير في قطاع غزة، حيث تنتهك حرمة الأجساد الإنسانية في كل لحظة من قبل جلادٍ يدّعي الديمقراطية والتحضر، تقوم فرقة صغيرة من الأشخاص الشغوفين بمسرح الحركة والرقص المعاصر بإعادة الاعتبار للجسد الإنساني الفلسطيني المنتهك، في المدينة التي خرجت منها البشارة، وخرج منها المسيح الذي قدم جسده قرباناً لخلاص البشرية، إذ ستُعلم الضحية الجلاد كيف يحترم حُرمةَ الجسد، وكيف أن الجسد، برمزيته، عالم لا يمكن هزيمته.
يقوم العرض من ناحية الأداء الحركي على الخشبة على ثلاث مؤديات ومؤدي واحد، ويقدم رؤية خاصة لعلاقة المُستَلِب المستبد بالضحية المُستَلب، إذ نرى أن نقطة ارتكاز العرض الأولى تقوم على الشخصية المُستبِدة المسيطرة، وهي هنا سيدة ترتدي بدلة زرقاء تؤديها (ماشا سمعان) باقتدار، يمكن أن تقدم للمتلقي عدة احتمالات برمزيتها، كما أن اللون الأزرق يوحي للمتلقي بعدة أمور منها أنه لون مرتبط بالذكورة في الثقافة الشعبية وهذه السيدة تمارس فعلاً سلطوياً ذكورياً بامتياز، ومنها مثلاً سيطرة الفضاء الأزرق على عالمنا اليوم. تتموضع الشخصية المتسلطة على ستاند معدني يبدو من داخله كمكتبة، فمن يمتلك المعرفة يمتلك السلطة حسب فوكو (سلطة المعرفة)، ويبدو الستاند ككرسي شاهق الارتفاع يكشف مساحة الخشبة تطل منه السيدة مستعرضةً قوتها وبطشها وتلذذها في استلاب ضحاياها. تتقن (ماشا) أداء هذه الشخصية تماماً وتأسر المشاهد جاعلة إياه يتتبع حركاتها بانتباه شديد، ليس فقط حركة جسدها المدروسة جيداً والذي تمكنت من السيطرة عليه بحرفية عالية، لكن أيضاً حركة صوتها فالأصوات الغريبة غير المفهومة، والتي تبدو كنوع من الصوائت الغامضة، صوائت تعبر عن الرغبة أحياناً وعن التشويش غير المفهوم الذي تطلقه السلطة أحياناً أخرى لإرباك الضحايا، ثم بنطقها بكلمة (ريش) في النهاية، وهي الكلمة التي تصادرها من ضحاياها، فريش تعني الحرية، لكنها حرية مستلبة تماماً. تقول الكريوغراف ومخرجة العمل شادن أبو العسل على صفحتها: "شغفي بالطيران والتحليق كان دائماً هاجساً وحاجة وجودية ملحّة." بالنسبة لشخص يعيش في الناصرة داخل حدود رسمت بيد من حديد يمكننا أن نفهم ذلك. الشخصية التالية يمكن تسميتها المرأة الدمية، أدتها "هيا خورية"، وهي شخصية شديدة الامتثال، وشديدة الاستلاب، والفريسة الأولى التي لمحتها واشتمت رائحة ضعفها من علو شاهق (السيدة بالبدلة الزرقاء) فانقضت عليها كما ينقض النسر على فريسته، ثم لدينا شخصية الرجل التي يؤديها عنان أبو جابر، باقتدار جسدي ونفسي كبير، نعتقد للحظة أننا ضمن علاقة ثلاثية بين امرأتين ورجل، واحدة سلطوية وأخرى مستلبة ورجل مستلب، لكن في الحقيقة نحن خارج أي حكاية هنا إذ يمكن أن يندرج هذا العرض ضمن ما أطلق عليه بالمسرح الفيزيائي، وهو مسرح ما بعد حداثي، يعتمد على الأداء الحركي للمؤدين بعيداً عن أي نص درامي يُقرأ، إذ إن الكريوغراف والدراماتورج أبقيا الاحتمالات مفتوحة في التصميم الحركي والدرامي، إذ نجد أن أجساد المؤدين تنسج ما يوحي بحكايات متعددة تسلم عقل المشاهد لقراءات مختلفة، وهنا تكمن أهمية العرض الأدائي الحركي المصنوع بشكل جيد ومدروس من قبل الكريوغراف ومصممة الرقص والأداء الحركي شادن أبو العسل، والدراماتورج حازم كمال الدين، والمؤلف الموسيقي سعيد مراد، فمن بناء الشخصية التي يقوم بها المؤدي من خلال تواصله مع ذاته واكتشاف امتدادات جسده الفيزيائي وما بعدها وتأثير ما تتركه حركة هذا الجسد في المؤدي الشريك وفي المتلقي، إلى وعي كل مؤدٍ بدوره وبحدوده الخاصة وتقاطعها مع حدود المؤدين الآخرين، إذ إن الحركة المصممة لاثنين أو ثلاثة كانت متناغمة تماماً كسيطرة (ماشا) على أدواتها وربط الآخرين بها، إذ كانت تبدو كمن يحركهم بخيوط خفية، في لحظات معدودة سمحت لنفسها بالتفلت من دور المتسلطة، وكأنها هي أيضا بحاجة للحرية، لكنها سرعان ما تعود للدور المنوط بها، تقاطعهم المؤدية (عشتار المعلم)، تدخل المسرح كعنصر ناري مؤقت يخترق الفضاء يخلخل عروة العلاقة المعقدة بين الثلاثة، بتحرير الفضاء قليلاً وتحريض المستلبين على فعل التحرر، عنصر يؤدي وظيفته ويخرج.
في لحظات قليلة تسرق الشخصيتان المستلبتان (المرأة الدمية والرجل) لحظات تقارب يبدو فيها حنو المُستلِب على المُستَلب، لحظات نادرة يشعران فيها بالحرية ويجربان فيها اللعب والتحرر، حتى تعود (ماشا) لوقف اللعبة وتسحبهما بصوتها نحو دائرة الطاعة، يرقصان معها فتتحول الإضاءة الزرقاء إلى حمراء كناية عن الرغبة، للحظة تتماهى السيدة المُستبدة مع شخصية المرأة المُستَلبة الدمية إشباعاً لنرجسيتها تلعب قليلاً معها، ثم لدينا مشهد الرقصة الثلاثية ترافقها موسيقا إيقاعية، العلاقة المتبادلة غير المفهومة لتبجيل المُستَلب للمستَلِب، حيث يرفع المستلبان الشخصية المستبدة. تحاول الشخصيتان القراءة يقرأ الرجل مقطعاً مفككاً من كتابٍ مقدس لكن السيدة المتسلطة تقاطعه وتمنعه. يستكين، بينما تحاول الدمية الوقوف في وجه المتسلطة التي تدميها بسهامها وأدواتها. يتقدم الرجل، وينزع سلاحها فتتحول لكائن يبدو وديعاً للحظة، لكنه ما يلبث أن يستمر في تعذيب ضحيته أثناء ذلك تتحول الإضاءة إلى اللون الأحمر يقدم الرجل الكتاب وإكليلاً من الزهور للمتسلطة لتضعه في عنق المرأة الدمية. يتموضع الثلاث خلف بعضهم بعضاً، الرجل في المقدمة ثم الدمية ثم المتسلطة الزرقاء التي تستمر في تحريك الدمية كما تريد، تتفنن في تعذيبها وتحطيمها ثم تفلتها وتصعد لكرسيها. يجلس الرجل بقرب المرأة الدمية، يسندان رأسيهما إلى بعضهما البعض بهدوء ولطف، بينما تحاول السيدة المتسلطة اختراع لغة جديدة أو نطق كلمة ريش، ثم تخلع سترتها وترقص تتحول الإضاءة نحو البقعة الترابية في الخلف وتنطلق الموسيقا بينما يراقبها الرجل والمرأة الدمية، تتسلل وراءها (عشتار) صاعدة إلى كرسيها، الآن الشخصيات الأربع تؤدي مع بعضها البعض على المسرح، تحاول المرأة الدمية تفريغ المكتبة من الكتب، أثناء محاولة (المتسلطة) السيطرة على الرجل، و(عشتار) في أعلى الكرسي تعمل مع المرأة الدمية على قلب الكرسي (كرسي السلطة). تؤدي عشتار رقصتها على الكرسي المقلوب، لكن المتسلطة لا ترحمها تبدأ بالتنكيل بها، تفترش (عشتار) الأرض بجسدها المُنهك، توقف (المتسلطة) المرأة الدمية عن الدوران وتعاود السيطرة عليها في محاولة مستميتة بينما يقف الرجل يراقب. تضحك الدمية بينما تحاول المستبدة إسكاتها بوضع يدها على فمها وتعيد السيطرة على كليهما. لكن الدمية تفلت وتخرج وتدخل بعيدا عن دائرة المستبدة التي تحاول إحكام السيطرة على الرجل ببث صوتها في رأسه مستفردةً بتعذيبه وهو يضع يديه حول رأسه محاولاً إغلاق أذنيه مصدراً صوتاً كصوت الكلب كناية عن تدجينه أو اعتراضه أو ألمه مع صوته تتحول الإضاءة إلى الأحمر. ثم إعتام انتهى.
الجسد يمكن أن يكون أبعد من كلمة في اللحظة الفلسطينية الراهنة، ولكن بما أن الجسد جوهره التفكير حسب ديكارت يمكننا أن نقرأ هذا العرض من زاوية المفاهيم (كالسلطة، المعرفة، الاستلاب، الحرية، التحرر، الحب، مقاومة الحب، الانتظار، الإقدام...إلخ) تتحرك أجساد المؤدين ضمن دوائر تتقاطع وتتنافر وتحاول التحرر من بعضها البعض في حركة دائمة مرهقة تبدو أبدية، تختزل بإشاراتها ما يحدث خارج الخشبة في الفضاء العام للمدينة وللبلاد، حيث الرقابة شديدة على كل كائن حي، وكل إنسان فلسطيني يمكن التعرف عليه من وجهه إلى بصمته، ليصبح مجرد (داتا) قابلة للاستهداف في أية لحظة.
السينوغرافيا:
قام بصناعتها كُلٍ من شادن أبو العسل وحازم كمال الدين فكان الديكور مدروساً مع حركة المؤدين ومع الإضاءة ليؤدي المطلوب منه بتكثيف عالٍ وهو عبارة عن غرضين مسرحيين أساسيين. الأول: كرسي شاهق الارتفاع صمم بطريقة خاصة ليحتوي بداخله على مكتبة، أيضاً ليبدو كبرج مراقبة من يملكه يملك القدرة على الإمساك بالمكان، وكأنه برج مراقبة لمحيط مُسيج يُحيل مباشرة لأبراج الاحتلال، استخدمته السيدة المستبدة معظم الوقت، لكن في النهاية تمكنت (عشتار المعلم )من قلبه بمساعدة المرأة الدمية المُستلبة. الغرض الثاني، كان عبارة عن مقعد يشبه مقعد الحديقة، وهو منخفض الارتفاع استخدم للجلوس وللعب من قبل الشخصيتين المستلبتين، وبالتالي استخدم الفارق في مستويات العلو للتعبير عن فوارق السلطة، اختيار مقعد الحديقة والكرسي البرج يوحيان أن العرض يجري في الخلاء(في مدينة ما)، بالإضافة لأغراض أخرى كالكتب وطوق الزهور الجافة وأداة تشبه السلسلة في (يد ماشا) استخدمتها لإخضاع ضحاياها، فيما الخلفية تتألف من قماش منشورات مرنة تعكس الإضاءة المناسبة للمشهد. الإضاءة التي قام بتصميمها محمد شاهين كانت زرقاء معظم الوقت لتدل على الصرامة والسلطة خاصة أنها مناسبة للون ثياب السيدة التي تمثل الاستبداد من جهة وربما لتُذكر بالفضاء الأزرق الافتراضي الذي يشكل عالماً موازياً للعالم الواقعي، والذي تجري فيه معارك كبيرة حالياً ومناطق اشتباك حول العالم مع وضد ما يجري في فلسطين. تحولت الإضاءة في مشهد الرقص للبرتقالي والأحمر قليلاً لتنشر مشاعر الرغبة والحيوية والحماس أثناء الرقصة الثلاثية. ثم تحولت من الأزرق نحو البرتقالي والبني ثم نحو الأبيض قليلاً مرافقةً حركة المرأة الدمية أثناء محاولاتها التحرر واكتشاف ذاتها في مشهد بديع ل (هيا خورية).
الموسيقى:
ربما أحد الأمور العديدة التي يتميز بها العرض هو موسيقاه، إذ من النادر في المسرح العربي أن نجد اهتماماً حقيقياً بموسيقا العرض المسرحي، وأقصد هنا التأليف الموسيقي للمسرح، قامت موسيقا سعيد مراد المقدسي هنا بتحضيِر الفضاء وبتهيئة وعي المشاهد، واندمجت بشكل عضوي مع حركة المؤدين مستفيدةً من الدراماتورجيا والسينوغرافيا آخذةً بلب المتلقي كمفردة فاعلة ضمن مفردات العرض، لتمنح إحساساً تصويرياً مناسباً (الترقب، التحريض، الرغبة، التوتر، الانقضاض) يسير التأليف الموسيقي مع التأليف الكريوغرافي لحركة المؤدي محرضاً من جهة ومرافقا للصراع الذي يبدو كنوع من الهيمنة الناعمة التي تكاد لا تلقى مقاومة من الضحية أثناء تحريكها وسلب طاقتها وحيويتها. ثم يصبح حيوياً جداً في الرقصة ليعبر عن الرغبة والحماس، بينما نجدها كصوت الصولجان أثناء صعود (ماشا) إلى الكرسي وإظهار جبروتها. باختصار كانت الموسيقا تقرأ أبعاد حركة المؤدي وتعطيها عمقاً جميلاً. المؤديات والمؤدي تمتعوا بضبط جيد للحركة وكل عنصر في العرض مدروس بعناية. وفريق العمل كله يأتي من تجارب إبداعية مهمة ومِران طويل يظهر بوضوح على الخشبة.
ريش!
إنتاج فرقة شادن للرقص المعاصر
كونسبت وكوريوغرافيا شادن أبو العسل
فنانو العرض:
عشتار معلّم، عنان أبو جابر، ماشا سمعان، هيا خوريّة
دراماتورغي حازم كمال الدين
موسيقى سعيد مراد، هندسة الصوت فادي مراد
سينوغرافيا شادن أبو العسل، حازم كمال الدين
تنفيذ الديكور سمير حوّا
تنفيذ الملابس هيفاء كنح