أن تكوني أستاذة للأدب العربي في زمن الإبادة

أن تكوني أستاذة للأدب العربي في زمن الإبادة

أن تكوني أستاذة للأدب العربي في زمن الإبادة

By : هدى فخر الدين Huda Fakhreddine

"لا يقيم العزيز في البلد السهل

ولا ينفع الذليلَ النجاءُ"


بيت الشعر هذا، قاله الشاعر العربي الحارث بن حلّزة قبل نحو 1400 عاماً. هذا هو التراث الذي ينتمي إليه الأدب الفلسطيني وفلسطين عموماً. 

الحياة ليست سهلة بالنسبة إلى العزيز والعادل، ولكنها لا تستحق أن تعاش بلا كرامة. هكذا يقول لنا الحارث. ظل هذا السطر يرن في أذني طوال الأشهر العشرة الماضية، وفعلاً كم هو صعب ومؤلم طريقنا في هذا البلد ومؤسساته. نحن، الذين كافحنا لندرس العربية وأدبها بعزيمة ووفاء ونزاهة. ورفضنا أن نؤدي أدوارًا أوكلت إلينا من قبل النظام الأكاديمي الأميركي.

نحن ضيوف في مجال خبرتنا، الساردون الأصليون، والوجوه الملونة التي تزين صورة المشروع الكولونيالي، نحن الآخرون دوماً، المشتبه بهم باستمرار.

نوفمبر 2023

أنت تدرّسين الأدب العربي في العصور الوسطى بمهارة، لماذا لا تركزين على ذلك؟ 

حين جلسنا على كراسينا حول الطاولة المربعة، أظن أننا جميعاً ندمنا على اختيارنا لتلك الغرفة. كان أحد الجدران زجاجياً، ويمكن لكل من يمر أن يرانا، كما لو أننا على الشاشة.

كان التوتر ملموساً... كان هذا واحداً من الاجتماعات العديدة التي حاول فيها الزملاء في جامعتي التعامل مع الأحداث المروعة التي وقعت في العام الأكاديمي الماضي من خلال محاولة إنقاذ بعض مظاهر الزمالة.

منذ مهرجان "فلسطين تكتب" ومنذ أحداث أكتوبر المرعبة، والزملاء يقولون: "الأشياء ليست على ما يرام"، افتقدوا الحالة التي كانت عليها الأمور من قبل في قسمنا، افتقدوا الاحترام والتعايش والزمالة. نحن لا نعرف بعضنا البعض كثيراً على المستوى الشخصي، ولكننا على الأقل كنا "متعايشين في سلام". وقد سمعتُ كثيراً هذه الجملة: "ستصبح الأمور أفضل إذا تركنا أفكارنا السياسية في المنزل، وأغلقنا باب العالم وركزنا على عملنا الفكري هنا في الجامعة".

"لكنكم تعرفون أن فلسطين في صلب اهتمامي الفكري"

في صباح نوفمبر 2023، كنت أقول لزملائي إنني: "نظمت مهرجاناً أدبياً، كنت أقوم بواجبي الفكري والأكاديمي، على حد سواء، حين انقلبت حياتي رأساً على عقب". كان بإمكاني أن أذكرهم بأشياء يعرفونها جيداً: كيف تلقت عائلتي تهديدات، وكيف تم نصح شريكي أحمد الملاح، الشاعر الفلسطيني، بعدم الذهاب إلى الحرم الجامعي لأسباب أمنية. كيف أن جامعتنا التي تتأرجح بين ولائها لمصالح مانحيها، والتزامها بحماية أنواع معينة فقط من الخطاب، وإصرارها على تسليح جميع أشكال الكراهية، ترى في كون أحمد فلسطينيًا يرفع صوته ضد الإبادة الجماعية أمرًا إشكالياً للغاية. كان بإمكاني تذكيرهم بالحملات عبر وسائل التواصل التي طالبت بطردنا أنا وهو من الجامعة وحتى ترحيلنا من البلد تماماً. وبعض هذه الحملات للأسف كان يقوم به تلامذة صهاينة من جامعتنا، هؤلاء الذين على عكس زملائهم المتضامنين مع القضية الفلسطينية، تسمح لهم الجامعة بالتنمر والتهديد والترهيب، كما يحلو لهم دون عواقب.

كان بإمكاني أن أذكرهم بحصيلة الموت في غزة (أقصد حصيلة القتل بدم بارد)، وأن أقرأ لهم عناوين حفرت في ذاكرتي، في ذلك اليوم، حين كانت اسرائيل تحوّل مستشفيات غزة إلى مقابر. وكيف كانت كلمة "شفاء" تسكنني ذلك الصباح. كان بإمكاني أن أقول الكثير ولكني ما أردت أن أزيد الأمر سوءا.

احمر وجهي، وشعرت بنبض في رأسي، توتر زملائي وتململوا، تماسكت وقلت: "ولكن الأدب الفلسطيني في صلب اهتمامي الفكري".

نظروا إليّ للحظات، أعرف أن بينهم من أراد أن يقول شيئاً لطيفاً ومشجعاً، كانوا صادقين، ولكنهم مجروحون. فقد اهتز عالمهم، وكانوا هم الجرحى، وأنا من خرب الأمور التي لم تعد كما كانت. وفجأة سمعت أحدهم يقول: أنت تدرسين الأدب العربي في العصور الوسطى بمهارة، لم لا تركزين على ذلك؟

لا أذكر ماذا حدث بعد ذلك، لكن الكلمات ظلت ترن في أذني لأيام، كمنبه جارح يذكرني بلا جدواي في هذا النظام. أنا وكل شيء أفعله. جسدي وعقلي، وصحتي وعائلتي، ومساهماتي الأكاديمية والفكرية. وكل عصور الأدب التي كرست حياتي من أجل دراستها وتدريسها، عليها أن تناسب بكل دقة ترتيبا ما صمم لفائدة آخرين وغرورهم وربما راحتهم أيضا.

بصفتي أكاديمية أدرس الأدب العربي في جامعة في الولايات المتحدة الأميركية، ليس لدي خيارات كثيرة. يمكنني أن أكون أداة لهذا النظام الذي يشيئني، ويغربني، ولا يرف له جفن عندما تباد ثقافتي بالكامل، أو أن أصبح تهديداً، أو عنصر إزعاج في عالم الأكاديميين الهادئ، أولئك الذين يَخِزون جثة الثقافة الأخرى التي يدرسونها بعصا من بعيد، ويسمّون ذلك "بحثاً" و"صرامة أكاديمية".

عندما يباد أربعة آلاف فلسطيني خلال سنة واحدة ويطهر شعب كامل عرقيا لمدة 76 عاماً، يتوقعون منا أن نصمت. يقولون إن حياة الفلسطينيين، وموتهم، وحتى آدابهم، لا تقع ضمن مجال اهتمامنا الأكاديمي. يتوقعون منا أن نكون أكاديميين صامتين وهادئين، أي منافقين.

لا بد أن عندي مشكلة استدعت تدخل زملائي وتعاطفهم. ما هي مشكلتي، لماذا لا أقدّر ما أملك؟ لدي عذر قوي ومقنع للامبالاة وحفظ الذات (كل ذلك في خدمة راحة البال الجماعية، بالطبع).

كم هو غريب كيف يعمل العقل، وكيف يدمّر الناجي ذاته، وكم تصبح متعرجة ومعتمة الدروب إلى الأمام.

شباط 1986

كنت مهددة بالسلاح وظهري إلى الجدار...

كان عمري خمس سنوات، وقفت وظهري إلى الجدار، وفي وجهي فوهة بندقية. كانت عطلة الشتاء، وقفت مع أمي من جهة، وأخي الصغير علي من الجهة الأخرى.

كنا نزور قريتنا في جنوب لبنان، كما كنا نفعل دائماً، لنمضي أيام العطلة مع جدي وجدتي. كان يوماً مشمساً بارداً. وقفت وظهري إلى الجدار، مهددة بسلاح الجندي، ولأن الجندي لم يكن يرفع بندقيته إلى الأعلى، بل تركها تترهل بين يديه. وقفت أنظر مباشرة في الفوهة الطويلة السوداء.

تحرك الجندي على طول الخط، إلى الأعلى والأسفل، وكان قد قادنا جميعاً خارج المنزل. النساء والأطفال. وصاح في وجوهنا بعربية متكسرة، جدتي وأمي وعمتي واثنين من جيراننا الذين كانوا يختبئون معنا، وأنا وأخي علي. وكان الجنود الآخرون يهيجون في البيت..

وشاهدنا فيما بعد أنهم لم يتركوا مخدة ولا فراشاً إلا وفتحوه. فكرت ما الذي يبحثون عنه في نومنا، وفي أحلامنا. ورأينا فيما بعد أنهم أخذوا كل شيء من الثلاجة. كان البيض مكسّراً والفاكهة مرمية على الأرض مهروسة. وأما الجندي الذي كان يحرسنا، ما كان عمره يتجاوز الثمانية عشر عاماً. ونحن واقفون تحت رحمة حكمته وأهوائه وربما مخاوفه أيضاً.

كان ذلك أثناء الغزو الإسرائيلي لجنوب لبنان في العام 1986. لم تكن عملية كبيرة، إنما غزواً "مصغراً" ليتوغلوا أكثر في جنوب لبنان، بعيداً عن المناطق المحتلة. ليقوموا بمهمة محددة. احتلوا قريتنا لمدة سبعة أيام. اختطفوا الشباب، فجروا منزلاً، وأرهبوا القرية وجوارها..

وعندما كبرت، ظللت أعود إلى ذاكرة هذه الأيام السبعة، وأستدعي مغامرة عطلة الشتاء في القرية. وكنت أسأل جدي ماذا حدث حين قادوه هو والرجال معه إلى الجامع وهم رافعين أيديهم فوق رؤوسهم. وكذلك سألت أمي بأن تذكرني بكل هؤلاء الغرباء الذين كانوا في بيتنا لأن الطرق قد أغلقت. وكانوا مجموعة رجال ونساء من القرى المجاورة. وبينهم كان هناك رجلا في منتصف العمر، يدخن باستمرار. وعندما تمضي الغارة، سيبدو مرتاحاً ومرحاً جداً...

لم يكن يخبر قصصا أو يمزح كثيراً، لكنه كان يضيف مسحة فكاهية إلى حديثه.

أنا دارسة للتراث الشعري العربي. أدرس الشعراء من امرئ القيس إلى محمود درويش، ومن السموأل حتى هبة أبو الندى. ولن أقطع هذا التراث إلى أجزاء مستساغة وقابلة للهضم. ولن أقتطع قصيدة فقط لأن النهاية لا تريحكم. ولن أقاطع حديث شاعر مع أسلافه، فقط لأن مهاراتكم بالعربية غير كافية. ولن أؤطر نفسي ولا لغتي لخدمة أهدافكم. كما وأني لن أطهر لساني من كلمات تخيفكم لأنكم لا تفهمونها

وأتذكر دائماً، كيف كان جدي خائفاً وهو يحمل جهاز راديو قرب أذنيه، ويشعر بالمسؤولية تجاهنا جميعاً، العائلة والغرباء الذين يحتمون في منزلنا. لم يكن يستطيع أن يخفي نظرة الخوف عن وجهه. أتذكر يديه المرتجفتان وهو يفتح الباب للقائد الإسرائيلي وجنوده المتوغلين في الحديقة، ليسأله القائد بعض الأسئلة بالعربية، ثم يسمح لجنوده أن يقلبوا البيت رأساً على عقب، في كل مرة.

ولكن في كل مرة أعيد تذكر أحداث الأيام السبعة تحت الاحتلال الإسرائيلي في ذهني، يأتي مشهد الجدار وكأنني في ظلام دامس.. لعله كان مخيفاً جداً حتى حفظه عقلي ذو الخمسة أعوام في مكان آخر منفصل عن الذكريات التي أستدعيها أثناء "مغامرة" الحياة تحت الاحتلال.

لكنّ ذلك كله تغير في 20 سبتمبر 2023 حيث جلست في غرفة طويلة معتمة. أطفئت الأضواء وتوقف الكلام. كنا هناك لنشاهد فيلم "فرحة" لدارين سلام، وهو فيلم عظيم ومروع، عن حياة جدتها الناجية من النكبة. وفي الفيلم، يحتجز والد فرحة ابنته في غرفة، ويذهب ليرى ماذا يحدث في الخارج.

فتشهد فرحة النكبة من ثقب القفل في الغرفة، قبل أن تهرب إلى مخيم للاجئين في سوريا، حيث أمضت حياتها هناك.

يجعلنا الفيلم نتابع حياة فرحة في الغرفة وفلسطين تسرق وتغتصب في الخارج. وفي مشهد في الفيلم تراقب فرحة صهاينة مسلحين يوقفون الأم والأب والأطفال مقابل الجدار ويقومون بقنصهم جميعاً ما عدا طفل رضيع، يُترك حياً وبكلف أحد الجنود بالتخلص منه.

ما كان عمر الجندي يتجاوز الثمانية عشر عاماً. والطفل الفلسطيني ترك تحت رحمة حكمته وأهوائه وربما مخاوفه أيضاً.

لم أستطع أن أتنفس حينها، واستفاقت ذكرى ما كنت أعرف أني أملكها. نظرت إلى الأمام في فوهة البندقية، رأيت العينين الزرقاوتين في نهاية النفق الأسود. سمعت صوتاً يخفق في الخلفية، توقف قلبي، كنت في الخامسة في العمر وظهري إلى الجدار.

غريب كيف يخدع الذهن نفسه، وكم هي مرعبة فكرة النجاة، وكم هي ملتوية وعميقة ممرات الذاكرة.

تموز 2024

نعم، لا، بالطبع لا.

التهديدات والكراهية بدأت تصلني عبر الإيميل، ووسائل التواصل، لمدة أشهر، لكن البارحة وصلتني عبر البريد رسالة إلى مكتبي. وكانت النصيحة أن أحتفظ بتسجيل مفصل. وهذا هو سجلي الذي احتفظت به: دخل الشرطي مكتبي، وقال إنه آسف. أساتذة الجامعة يتلقون ذلك على الطرفين. 

سألته: طرفين؟ وهل يوجد طرفين في هذا؟

-نعم، لا بالطبع لا...أجابني

أخذ رقم هاتفي ومعلومات كثيرة عني، وصورة للرسالة في هاتفه. وأعطاني اسمه ورقم شارته، ومشى حتى نهاية الرواق، ثم عاد مبتسماً يقول لي: آسف لكني أريد أيضا تاريخ ميلادك.

أعطيته يوم ميلادي وتمنّى كل واحد منا عطلة جميلة للآخر. تركت المكتب وذهبت إلى السيارة. فاتصل بي وأخبرني أن المسؤول عنه يريده أن يأخذ الرسالة الأصلية.

فعدت في السيارة وصعدنا معاً المصعد إلى مكتبي. "لا أحاول أن أقلّل من الأمر، لكن لا تهديد جسدي لك. وعادة لا يطلبون الرسالة إلا في حالة الخطر الداهم".

كان يحاول أن يشرح لي لماذا لم يأخذ الرسالة في المرة الأولى. "نعم، قد يكون مَن أرسلها مجرد مراهق يملك طابعة" كنت أحاول أن أقول كي أخفف عنه، ولكني تذكرت المراهقين الأميركيين الذين يملكون المسدسات والطابعات، فلم أقل شيئاً على الإطلاق.

ودخلنا المكتب، ففتحت الجارور وأعطيته الرسالة فأخذها وهو يلبس قفّازاً أزرق. فقلت: قفّازات وكل شيء؟ 

ابتسم قليلا، وركبنا المصعد معا، وسألني اذا كنت من الوسط الغربي في أمريكا، ربما معتمداً في سؤاله على رمز المنطقة في رقم هاتفي. فأجبته، "لا، هناك أتممت دراستي في مرحلة الدكتوراه". قال إنه درس هناك أيضاً، فذكرته، "ولكني من لبنان"... فقال: طبعاً.

خرج من المصعد وانتظرني. قلت إني سأنزل طابقاً إضافياً إلى سيارتي. تمنى لي عطلة نهاية أسبوع سعيدة… ومضى.

في السيارة، اتصلت بي مسؤولة من مكتب الشرطة، برتبة أعلى هذه المرة. كنت أعرفها من قبل وقد تحدثنا معاً على الهاتف قبل هذا. أخبرتني أنها آسفة، وعليّ أن أعرف أنهم يفكرون بي. وهي تعلم أن شرطياً قد أتى وأخذ الرسالة. أكّدت لي أنهم سيحققون في الحادثة، ربما يرفعون بصمات اليد، لكن من الصعب المعرفة بهذه الأشياء.

قالت إنها تود اللقاء بي شخصياً على فنجان قهوة أو شاي. أن علينا أنا وهي أن نحضّر خطة أمنية… وحتى لو نفسية.

خطة أمنية نفسية! قالت إنها عملت في الماضي مع أشخاص يعانون من كل أنواع التروما. فطمأنتني: "نستطيع أن ندرّب قلوبنا وعقولنا. سيساعدنا ذلك حين نعلم أي أغنية نستمع في الأوقات الصعبة أو من سيرد عندما نتصل." وتعتقد أنه من المهم أن نلتقي قبل أن يبدأ الفصل الثاني.

طبعا أحب ذلك...أجبتها.

ليتني أستطيع أن أدرب عقلي وقلبي في زمن الإبادة ليتعاونا مع اهتمامات جامعتي، ويخدما شؤون الكلية الهشة وروح الزمالة المنافقة وكذلك العنصرية المحجبة بشفافية. ليتني أستطيع...

غريب كم يخدع العقل نفسه، وكم مخيفة هي النجاة، و سوداء ومتعرجة دروب التروما..

آب 2024

حين تلسعك نحلة، حين تنهض من كابوس مخيف، وحين تصرعك عقود من القهر والعنصرية واللامبالاة والظلم..

إنه عيد ميلادي، لكن لا مجال للاحتفال بشيء، أكثر من أربعين ألفاً من الأهل والأقارب والأصدقاء قد قتلوا في غزة. وأكثر من خمسة عشر ألف منهم مجرّد أطفال. أخذت القطار إلى مدينة واشنطن دي سي. فأحمد سيقرأ شعراً هناك.. فشعرت أنني محظوظة لأجلس في جمهور حميم، وأستمع إليه يقرأ من ديوانه الجديد: حكمة الحدود. يقرأ قصائد تتجاوز الحدود، والأسلاك الشائكة واللغات، ووادي الصمت، حيث يجلس أحباؤنا الموتى وينصتون.

اتصل المحامي الخاص بي. 

لجنة الكونغرس المشرفة على التربية والعمل، اللجنة ذاتها التي تتنمر على الجامعات، اللجنة نفسها التي تقمع التعبير الحر. اللجنة ذاتها التي تسلح معادة السامية بحقارة - وبمعاداة واضحة للسامية - حتى تُسكت الخطاب المناهض للإبادة، والتي تبيع الكذبات وتصر على الخلط الكاذب بين اليهودية والصهيونية، تلك اللجنة نفسها مهتمة بي شخصياً الآن.

وقد كتبوا لجامعتي، يطلبون سيرتي الذاتية ومقررات صفوفي، وكل إيميلاتي واتصالاتي التي تتعلق بفلسطين.

وبينما أصرّ على عدم التعاون مع هذا الطلب المتطفل، ليس لدي أي فكرة عن مدى استسلام الجامعة لهذا التنمر. فقط أتأمل أن تمتلك الجامعة حداً أدنى من الكرامة والشجاعة لتدافع عن نفسها وعن الحرية الأكاديمية. وذلك لأن أكاديميين كثيرين حول العالم أرهبوا وعوقبوا وتمت مضايقتهم لأنهم دعموا الفلسطينيين. هذه لحظة توضع فيها حرية الفكر على المحك، في الولايات المتحدة وهذا في العالم أجمع.

ففي الجامعات الأمريكية اليوم، مَن يتحدث عن المظلومين ويدافعون عنهم يصبح هدفاً، أمّا مَن ينشر الكراهية والعنصرية، فلديه الحق في المضايقة والتنمر، بلا عقاب. فكرة الجامعة وروحها على المحك فعلاً...

أنا دارسة للتراث الشعري العربي. أدرس الشعراء من امرئ القيس إلى محمود درويش، ومن السموأل حتى هبة أبو الندى. ولن أقطع هذا التراث إلى أجزاء مستساغة وقابلة للهضم. ولن أقتطع قصيدة فقط لأن النهاية لا تريحكم. ولن أقاطع حديث شاعر مع أسلافه، فقط لأن مهاراتكم بالعربية غير كافية. ولن أؤطر نفسي ولا لغتي لخدمة أهدافكم. كما وأني لن أطهر لساني من كلمات تخيفكم لأنكم لا تفهمونها.

لا نستطيع أن ندعي أننا معنيون بالدراسات الإنسانية بحق، إلا حين نخوض غمار اللغة، والتراث الأدبي، وندرس الأدب كطريقة في النظر، وأسلوب في التفكير والوجود وفهم العالم.

غزة ليست موضوعاً لنختاره أو نهمله، كتّابها وفنانوها ليسوا طعماً أو مادة لمنحة وزمالة قادمة. وأطفالها المذبوحون ليسوا مادة لدراسة إثنوغرافية، أو أنطولوجيا قادمة، أو عرض فني، أو لمشروع إنساني رقمي.

غزة 2023 هي نقطة تحول في التاريخ، ونهاية العالم كما نعرفه. لا شيء يمكنه أن يكون كما كان عليه قبل هذا.

لا أمل لنا كسلالة بشرية إذا لم نواجه المعايير المزدوجة، وهذه العنصرية الراسخة بعمق في كل مؤسساتنا وأنظمة حياتنا. أما قيمنا، كالديمقراطية، وحقوق الإنسان، السلام، التعاطف، التضامن، فكلها زيف ونفاق إذا كانت تنطبق على بعض الناس وتستثني البعض الآخر...

ولا يوجد استبعاد صارخ ومدان أكثر مما يعتبره العالم بأنه "الاستثناء الفلسطيني"...

لا أمل لنا أبدا إذا لم نصغ إلى نداء غزة الآن، ونداء فلسطين المدوي منذ 76 عاماً.

وفي أبراج الأكاديميا العاجية، لا تقدم إلى الأمام، بدون كشف للطبيعة الأكاديمية الاستغلالية، وتورط جامعتنا وتواطئها في العنف الذي نشهده ضد فلسطين والثقافة العربية التي ننتمي إليها.

هذه الإبادة تنادينا كي نصحو، ونتخلص من القيود الخفية وتلك التي ظهرت بشكل صارخ الآن، على حياتنا وعملنا.

وهكذا يتطلب منا الدم البريء أن نكرس وقتنا، لندافع عن ثقافتنا وأبنائها وبناتها كبشر أولاً قبل أن نجرؤ وندرسهم كمثقفين ومبدعين، وننقب تاريخهم وثقافتهم من أجل مصالحنا.

وإذا حصلت اللجنة على معلوماتي، لتعتبر ذلك امتيازا وتنظر في سيرتي الذاتية، هذا السجل الذي أفتخر به للغاية. وإذا تسنى لأعضائها أن يتمعنوا في مقررات صفوفي، آمل أن يقدروا تلك الدعوة المميزة إلى عالم الشعر العربي الواسع والكريم. وليتعلّموا من الشعر الفلسطيني، معنى الحياة والكرامة، وكيف تكون مقاومة الظلم.

وهم يدققون في معلوماتي، منتهكين خصوصيتي وحقوقي المحفوظة بحسب الدستور الأمريكي، علّهم يتعلمون كلمة واحدة في العربية. كلمة تعني الأمل والإرادة بالنسبة إلى الكثير من المظلومين هنا في الولايات المتحدة وفي العالم.

إنها اسم من الفعل (افتعل) والجذر الثامن لفعل (نفض)، هي ما نفعله حين تلسعنا نحلة أو حين نستيقظ من كابوس مزعج...

وهي الشيء الوحيد الذي يمكن فعله حين تصرعنا عقود من القهر والعنصرية واللامبالاة والظلم... هي "انتفاضة"!


[ترجمة تغريد عبد العال، عن موقع Lithub].


بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬