"لا يقيم العزيز في البلد السهل
ولا ينفع الذليلَ النجاءُ"
بيت الشعر هذا، قاله الشاعر العربي الحارث بن حلّزة قبل نحو 1400 عاماً. هذا هو التراث الذي ينتمي إليه الأدب الفلسطيني وفلسطين عموماً.
الحياة ليست سهلة بالنسبة إلى العزيز والعادل، ولكنها لا تستحق أن تعاش بلا كرامة. هكذا يقول لنا الحارث. ظل هذا السطر يرن في أذني طوال الأشهر العشرة الماضية، وفعلاً كم هو صعب ومؤلم طريقنا في هذا البلد ومؤسساته. نحن، الذين كافحنا لندرس العربية وأدبها بعزيمة ووفاء ونزاهة. ورفضنا أن نؤدي أدوارًا أوكلت إلينا من قبل النظام الأكاديمي الأميركي.
نحن ضيوف في مجال خبرتنا، الساردون الأصليون، والوجوه الملونة التي تزين صورة المشروع الكولونيالي، نحن الآخرون دوماً، المشتبه بهم باستمرار.
نوفمبر 2023
أنت تدرّسين الأدب العربي في العصور الوسطى بمهارة، لماذا لا تركزين على ذلك؟
حين جلسنا على كراسينا حول الطاولة المربعة، أظن أننا جميعاً ندمنا على اختيارنا لتلك الغرفة. كان أحد الجدران زجاجياً، ويمكن لكل من يمر أن يرانا، كما لو أننا على الشاشة.
كان التوتر ملموساً... كان هذا واحداً من الاجتماعات العديدة التي حاول فيها الزملاء في جامعتي التعامل مع الأحداث المروعة التي وقعت في العام الأكاديمي الماضي من خلال محاولة إنقاذ بعض مظاهر الزمالة.
منذ مهرجان "فلسطين تكتب" ومنذ أحداث أكتوبر المرعبة، والزملاء يقولون: "الأشياء ليست على ما يرام"، افتقدوا الحالة التي كانت عليها الأمور من قبل في قسمنا، افتقدوا الاحترام والتعايش والزمالة. نحن لا نعرف بعضنا البعض كثيراً على المستوى الشخصي، ولكننا على الأقل كنا "متعايشين في سلام". وقد سمعتُ كثيراً هذه الجملة: "ستصبح الأمور أفضل إذا تركنا أفكارنا السياسية في المنزل، وأغلقنا باب العالم وركزنا على عملنا الفكري هنا في الجامعة".
"لكنكم تعرفون أن فلسطين في صلب اهتمامي الفكري"
في صباح نوفمبر 2023، كنت أقول لزملائي إنني: "نظمت مهرجاناً أدبياً، كنت أقوم بواجبي الفكري والأكاديمي، على حد سواء، حين انقلبت حياتي رأساً على عقب". كان بإمكاني أن أذكرهم بأشياء يعرفونها جيداً: كيف تلقت عائلتي تهديدات، وكيف تم نصح شريكي أحمد الملاح، الشاعر الفلسطيني، بعدم الذهاب إلى الحرم الجامعي لأسباب أمنية. كيف أن جامعتنا التي تتأرجح بين ولائها لمصالح مانحيها، والتزامها بحماية أنواع معينة فقط من الخطاب، وإصرارها على تسليح جميع أشكال الكراهية، ترى في كون أحمد فلسطينيًا يرفع صوته ضد الإبادة الجماعية أمرًا إشكالياً للغاية. كان بإمكاني تذكيرهم بالحملات عبر وسائل التواصل التي طالبت بطردنا أنا وهو من الجامعة وحتى ترحيلنا من البلد تماماً. وبعض هذه الحملات للأسف كان يقوم به تلامذة صهاينة من جامعتنا، هؤلاء الذين على عكس زملائهم المتضامنين مع القضية الفلسطينية، تسمح لهم الجامعة بالتنمر والتهديد والترهيب، كما يحلو لهم دون عواقب.
كان بإمكاني أن أذكرهم بحصيلة الموت في غزة (أقصد حصيلة القتل بدم بارد)، وأن أقرأ لهم عناوين حفرت في ذاكرتي، في ذلك اليوم، حين كانت اسرائيل تحوّل مستشفيات غزة إلى مقابر. وكيف كانت كلمة "شفاء" تسكنني ذلك الصباح. كان بإمكاني أن أقول الكثير ولكني ما أردت أن أزيد الأمر سوءا.
احمر وجهي، وشعرت بنبض في رأسي، توتر زملائي وتململوا، تماسكت وقلت: "ولكن الأدب الفلسطيني في صلب اهتمامي الفكري".
نظروا إليّ للحظات، أعرف أن بينهم من أراد أن يقول شيئاً لطيفاً ومشجعاً، كانوا صادقين، ولكنهم مجروحون. فقد اهتز عالمهم، وكانوا هم الجرحى، وأنا من خرب الأمور التي لم تعد كما كانت. وفجأة سمعت أحدهم يقول: أنت تدرسين الأدب العربي في العصور الوسطى بمهارة، لم لا تركزين على ذلك؟
لا أذكر ماذا حدث بعد ذلك، لكن الكلمات ظلت ترن في أذني لأيام، كمنبه جارح يذكرني بلا جدواي في هذا النظام. أنا وكل شيء أفعله. جسدي وعقلي، وصحتي وعائلتي، ومساهماتي الأكاديمية والفكرية. وكل عصور الأدب التي كرست حياتي من أجل دراستها وتدريسها، عليها أن تناسب بكل دقة ترتيبا ما صمم لفائدة آخرين وغرورهم وربما راحتهم أيضا.
بصفتي أكاديمية أدرس الأدب العربي في جامعة في الولايات المتحدة الأميركية، ليس لدي خيارات كثيرة. يمكنني أن أكون أداة لهذا النظام الذي يشيئني، ويغربني، ولا يرف له جفن عندما تباد ثقافتي بالكامل، أو أن أصبح تهديداً، أو عنصر إزعاج في عالم الأكاديميين الهادئ، أولئك الذين يَخِزون جثة الثقافة الأخرى التي يدرسونها بعصا من بعيد، ويسمّون ذلك "بحثاً" و"صرامة أكاديمية".
عندما يباد أربعة آلاف فلسطيني خلال سنة واحدة ويطهر شعب كامل عرقيا لمدة 76 عاماً، يتوقعون منا أن نصمت. يقولون إن حياة الفلسطينيين، وموتهم، وحتى آدابهم، لا تقع ضمن مجال اهتمامنا الأكاديمي. يتوقعون منا أن نكون أكاديميين صامتين وهادئين، أي منافقين.
لا بد أن عندي مشكلة استدعت تدخل زملائي وتعاطفهم. ما هي مشكلتي، لماذا لا أقدّر ما أملك؟ لدي عذر قوي ومقنع للامبالاة وحفظ الذات (كل ذلك في خدمة راحة البال الجماعية، بالطبع).
كم هو غريب كيف يعمل العقل، وكيف يدمّر الناجي ذاته، وكم تصبح متعرجة ومعتمة الدروب إلى الأمام.
شباط 1986
كنت مهددة بالسلاح وظهري إلى الجدار...
كان عمري خمس سنوات، وقفت وظهري إلى الجدار، وفي وجهي فوهة بندقية. كانت عطلة الشتاء، وقفت مع أمي من جهة، وأخي الصغير علي من الجهة الأخرى.
كنا نزور قريتنا في جنوب لبنان، كما كنا نفعل دائماً، لنمضي أيام العطلة مع جدي وجدتي. كان يوماً مشمساً بارداً. وقفت وظهري إلى الجدار، مهددة بسلاح الجندي، ولأن الجندي لم يكن يرفع بندقيته إلى الأعلى، بل تركها تترهل بين يديه. وقفت أنظر مباشرة في الفوهة الطويلة السوداء.
تحرك الجندي على طول الخط، إلى الأعلى والأسفل، وكان قد قادنا جميعاً خارج المنزل. النساء والأطفال. وصاح في وجوهنا بعربية متكسرة، جدتي وأمي وعمتي واثنين من جيراننا الذين كانوا يختبئون معنا، وأنا وأخي علي. وكان الجنود الآخرون يهيجون في البيت..
وشاهدنا فيما بعد أنهم لم يتركوا مخدة ولا فراشاً إلا وفتحوه. فكرت ما الذي يبحثون عنه في نومنا، وفي أحلامنا. ورأينا فيما بعد أنهم أخذوا كل شيء من الثلاجة. كان البيض مكسّراً والفاكهة مرمية على الأرض مهروسة. وأما الجندي الذي كان يحرسنا، ما كان عمره يتجاوز الثمانية عشر عاماً. ونحن واقفون تحت رحمة حكمته وأهوائه وربما مخاوفه أيضاً.
كان ذلك أثناء الغزو الإسرائيلي لجنوب لبنان في العام 1986. لم تكن عملية كبيرة، إنما غزواً "مصغراً" ليتوغلوا أكثر في جنوب لبنان، بعيداً عن المناطق المحتلة. ليقوموا بمهمة محددة. احتلوا قريتنا لمدة سبعة أيام. اختطفوا الشباب، فجروا منزلاً، وأرهبوا القرية وجوارها..
وعندما كبرت، ظللت أعود إلى ذاكرة هذه الأيام السبعة، وأستدعي مغامرة عطلة الشتاء في القرية. وكنت أسأل جدي ماذا حدث حين قادوه هو والرجال معه إلى الجامع وهم رافعين أيديهم فوق رؤوسهم. وكذلك سألت أمي بأن تذكرني بكل هؤلاء الغرباء الذين كانوا في بيتنا لأن الطرق قد أغلقت. وكانوا مجموعة رجال ونساء من القرى المجاورة. وبينهم كان هناك رجلا في منتصف العمر، يدخن باستمرار. وعندما تمضي الغارة، سيبدو مرتاحاً ومرحاً جداً...
لم يكن يخبر قصصا أو يمزح كثيراً، لكنه كان يضيف مسحة فكاهية إلى حديثه.
وأتذكر دائماً، كيف كان جدي خائفاً وهو يحمل جهاز راديو قرب أذنيه، ويشعر بالمسؤولية تجاهنا جميعاً، العائلة والغرباء الذين يحتمون في منزلنا. لم يكن يستطيع أن يخفي نظرة الخوف عن وجهه. أتذكر يديه المرتجفتان وهو يفتح الباب للقائد الإسرائيلي وجنوده المتوغلين في الحديقة، ليسأله القائد بعض الأسئلة بالعربية، ثم يسمح لجنوده أن يقلبوا البيت رأساً على عقب، في كل مرة.
ولكن في كل مرة أعيد تذكر أحداث الأيام السبعة تحت الاحتلال الإسرائيلي في ذهني، يأتي مشهد الجدار وكأنني في ظلام دامس.. لعله كان مخيفاً جداً حتى حفظه عقلي ذو الخمسة أعوام في مكان آخر منفصل عن الذكريات التي أستدعيها أثناء "مغامرة" الحياة تحت الاحتلال.
لكنّ ذلك كله تغير في 20 سبتمبر 2023 حيث جلست في غرفة طويلة معتمة. أطفئت الأضواء وتوقف الكلام. كنا هناك لنشاهد فيلم "فرحة" لدارين سلام، وهو فيلم عظيم ومروع، عن حياة جدتها الناجية من النكبة. وفي الفيلم، يحتجز والد فرحة ابنته في غرفة، ويذهب ليرى ماذا يحدث في الخارج.
فتشهد فرحة النكبة من ثقب القفل في الغرفة، قبل أن تهرب إلى مخيم للاجئين في سوريا، حيث أمضت حياتها هناك.
يجعلنا الفيلم نتابع حياة فرحة في الغرفة وفلسطين تسرق وتغتصب في الخارج. وفي مشهد في الفيلم تراقب فرحة صهاينة مسلحين يوقفون الأم والأب والأطفال مقابل الجدار ويقومون بقنصهم جميعاً ما عدا طفل رضيع، يُترك حياً وبكلف أحد الجنود بالتخلص منه.
ما كان عمر الجندي يتجاوز الثمانية عشر عاماً. والطفل الفلسطيني ترك تحت رحمة حكمته وأهوائه وربما مخاوفه أيضاً.
لم أستطع أن أتنفس حينها، واستفاقت ذكرى ما كنت أعرف أني أملكها. نظرت إلى الأمام في فوهة البندقية، رأيت العينين الزرقاوتين في نهاية النفق الأسود. سمعت صوتاً يخفق في الخلفية، توقف قلبي، كنت في الخامسة في العمر وظهري إلى الجدار.
غريب كيف يخدع الذهن نفسه، وكم هي مرعبة فكرة النجاة، وكم هي ملتوية وعميقة ممرات الذاكرة.
تموز 2024
نعم، لا، بالطبع لا.
التهديدات والكراهية بدأت تصلني عبر الإيميل، ووسائل التواصل، لمدة أشهر، لكن البارحة وصلتني عبر البريد رسالة إلى مكتبي. وكانت النصيحة أن أحتفظ بتسجيل مفصل. وهذا هو سجلي الذي احتفظت به: دخل الشرطي مكتبي، وقال إنه آسف. أساتذة الجامعة يتلقون ذلك على الطرفين.
سألته: طرفين؟ وهل يوجد طرفين في هذا؟
-نعم، لا بالطبع لا...أجابني
أخذ رقم هاتفي ومعلومات كثيرة عني، وصورة للرسالة في هاتفه. وأعطاني اسمه ورقم شارته، ومشى حتى نهاية الرواق، ثم عاد مبتسماً يقول لي: آسف لكني أريد أيضا تاريخ ميلادك.
أعطيته يوم ميلادي وتمنّى كل واحد منا عطلة جميلة للآخر. تركت المكتب وذهبت إلى السيارة. فاتصل بي وأخبرني أن المسؤول عنه يريده أن يأخذ الرسالة الأصلية.
فعدت في السيارة وصعدنا معاً المصعد إلى مكتبي. "لا أحاول أن أقلّل من الأمر، لكن لا تهديد جسدي لك. وعادة لا يطلبون الرسالة إلا في حالة الخطر الداهم".
كان يحاول أن يشرح لي لماذا لم يأخذ الرسالة في المرة الأولى. "نعم، قد يكون مَن أرسلها مجرد مراهق يملك طابعة" كنت أحاول أن أقول كي أخفف عنه، ولكني تذكرت المراهقين الأميركيين الذين يملكون المسدسات والطابعات، فلم أقل شيئاً على الإطلاق.
ودخلنا المكتب، ففتحت الجارور وأعطيته الرسالة فأخذها وهو يلبس قفّازاً أزرق. فقلت: قفّازات وكل شيء؟
ابتسم قليلا، وركبنا المصعد معا، وسألني اذا كنت من الوسط الغربي في أمريكا، ربما معتمداً في سؤاله على رمز المنطقة في رقم هاتفي. فأجبته، "لا، هناك أتممت دراستي في مرحلة الدكتوراه". قال إنه درس هناك أيضاً، فذكرته، "ولكني من لبنان"... فقال: طبعاً.
خرج من المصعد وانتظرني. قلت إني سأنزل طابقاً إضافياً إلى سيارتي. تمنى لي عطلة نهاية أسبوع سعيدة… ومضى.
في السيارة، اتصلت بي مسؤولة من مكتب الشرطة، برتبة أعلى هذه المرة. كنت أعرفها من قبل وقد تحدثنا معاً على الهاتف قبل هذا. أخبرتني أنها آسفة، وعليّ أن أعرف أنهم يفكرون بي. وهي تعلم أن شرطياً قد أتى وأخذ الرسالة. أكّدت لي أنهم سيحققون في الحادثة، ربما يرفعون بصمات اليد، لكن من الصعب المعرفة بهذه الأشياء.
قالت إنها تود اللقاء بي شخصياً على فنجان قهوة أو شاي. أن علينا أنا وهي أن نحضّر خطة أمنية… وحتى لو نفسية.
خطة أمنية نفسية! قالت إنها عملت في الماضي مع أشخاص يعانون من كل أنواع التروما. فطمأنتني: "نستطيع أن ندرّب قلوبنا وعقولنا. سيساعدنا ذلك حين نعلم أي أغنية نستمع في الأوقات الصعبة أو من سيرد عندما نتصل." وتعتقد أنه من المهم أن نلتقي قبل أن يبدأ الفصل الثاني.
طبعا أحب ذلك...أجبتها.
ليتني أستطيع أن أدرب عقلي وقلبي في زمن الإبادة ليتعاونا مع اهتمامات جامعتي، ويخدما شؤون الكلية الهشة وروح الزمالة المنافقة وكذلك العنصرية المحجبة بشفافية. ليتني أستطيع...
غريب كم يخدع العقل نفسه، وكم مخيفة هي النجاة، و سوداء ومتعرجة دروب التروما..
آب 2024
حين تلسعك نحلة، حين تنهض من كابوس مخيف، وحين تصرعك عقود من القهر والعنصرية واللامبالاة والظلم..
إنه عيد ميلادي، لكن لا مجال للاحتفال بشيء، أكثر من أربعين ألفاً من الأهل والأقارب والأصدقاء قد قتلوا في غزة. وأكثر من خمسة عشر ألف منهم مجرّد أطفال. أخذت القطار إلى مدينة واشنطن دي سي. فأحمد سيقرأ شعراً هناك.. فشعرت أنني محظوظة لأجلس في جمهور حميم، وأستمع إليه يقرأ من ديوانه الجديد: حكمة الحدود. يقرأ قصائد تتجاوز الحدود، والأسلاك الشائكة واللغات، ووادي الصمت، حيث يجلس أحباؤنا الموتى وينصتون.
اتصل المحامي الخاص بي.
لجنة الكونغرس المشرفة على التربية والعمل، اللجنة ذاتها التي تتنمر على الجامعات، اللجنة نفسها التي تقمع التعبير الحر. اللجنة ذاتها التي تسلح معادة السامية بحقارة - وبمعاداة واضحة للسامية - حتى تُسكت الخطاب المناهض للإبادة، والتي تبيع الكذبات وتصر على الخلط الكاذب بين اليهودية والصهيونية، تلك اللجنة نفسها مهتمة بي شخصياً الآن.
وقد كتبوا لجامعتي، يطلبون سيرتي الذاتية ومقررات صفوفي، وكل إيميلاتي واتصالاتي التي تتعلق بفلسطين.
وبينما أصرّ على عدم التعاون مع هذا الطلب المتطفل، ليس لدي أي فكرة عن مدى استسلام الجامعة لهذا التنمر. فقط أتأمل أن تمتلك الجامعة حداً أدنى من الكرامة والشجاعة لتدافع عن نفسها وعن الحرية الأكاديمية. وذلك لأن أكاديميين كثيرين حول العالم أرهبوا وعوقبوا وتمت مضايقتهم لأنهم دعموا الفلسطينيين. هذه لحظة توضع فيها حرية الفكر على المحك، في الولايات المتحدة وهذا في العالم أجمع.
ففي الجامعات الأمريكية اليوم، مَن يتحدث عن المظلومين ويدافعون عنهم يصبح هدفاً، أمّا مَن ينشر الكراهية والعنصرية، فلديه الحق في المضايقة والتنمر، بلا عقاب. فكرة الجامعة وروحها على المحك فعلاً...
أنا دارسة للتراث الشعري العربي. أدرس الشعراء من امرئ القيس إلى محمود درويش، ومن السموأل حتى هبة أبو الندى. ولن أقطع هذا التراث إلى أجزاء مستساغة وقابلة للهضم. ولن أقتطع قصيدة فقط لأن النهاية لا تريحكم. ولن أقاطع حديث شاعر مع أسلافه، فقط لأن مهاراتكم بالعربية غير كافية. ولن أؤطر نفسي ولا لغتي لخدمة أهدافكم. كما وأني لن أطهر لساني من كلمات تخيفكم لأنكم لا تفهمونها.
لا نستطيع أن ندعي أننا معنيون بالدراسات الإنسانية بحق، إلا حين نخوض غمار اللغة، والتراث الأدبي، وندرس الأدب كطريقة في النظر، وأسلوب في التفكير والوجود وفهم العالم.
غزة ليست موضوعاً لنختاره أو نهمله، كتّابها وفنانوها ليسوا طعماً أو مادة لمنحة وزمالة قادمة. وأطفالها المذبوحون ليسوا مادة لدراسة إثنوغرافية، أو أنطولوجيا قادمة، أو عرض فني، أو لمشروع إنساني رقمي.
غزة 2023 هي نقطة تحول في التاريخ، ونهاية العالم كما نعرفه. لا شيء يمكنه أن يكون كما كان عليه قبل هذا.
لا أمل لنا كسلالة بشرية إذا لم نواجه المعايير المزدوجة، وهذه العنصرية الراسخة بعمق في كل مؤسساتنا وأنظمة حياتنا. أما قيمنا، كالديمقراطية، وحقوق الإنسان، السلام، التعاطف، التضامن، فكلها زيف ونفاق إذا كانت تنطبق على بعض الناس وتستثني البعض الآخر...
ولا يوجد استبعاد صارخ ومدان أكثر مما يعتبره العالم بأنه "الاستثناء الفلسطيني"...
لا أمل لنا أبدا إذا لم نصغ إلى نداء غزة الآن، ونداء فلسطين المدوي منذ 76 عاماً.
وفي أبراج الأكاديميا العاجية، لا تقدم إلى الأمام، بدون كشف للطبيعة الأكاديمية الاستغلالية، وتورط جامعتنا وتواطئها في العنف الذي نشهده ضد فلسطين والثقافة العربية التي ننتمي إليها.
هذه الإبادة تنادينا كي نصحو، ونتخلص من القيود الخفية وتلك التي ظهرت بشكل صارخ الآن، على حياتنا وعملنا.
وهكذا يتطلب منا الدم البريء أن نكرس وقتنا، لندافع عن ثقافتنا وأبنائها وبناتها كبشر أولاً قبل أن نجرؤ وندرسهم كمثقفين ومبدعين، وننقب تاريخهم وثقافتهم من أجل مصالحنا.
وإذا حصلت اللجنة على معلوماتي، لتعتبر ذلك امتيازا وتنظر في سيرتي الذاتية، هذا السجل الذي أفتخر به للغاية. وإذا تسنى لأعضائها أن يتمعنوا في مقررات صفوفي، آمل أن يقدروا تلك الدعوة المميزة إلى عالم الشعر العربي الواسع والكريم. وليتعلّموا من الشعر الفلسطيني، معنى الحياة والكرامة، وكيف تكون مقاومة الظلم.
وهم يدققون في معلوماتي، منتهكين خصوصيتي وحقوقي المحفوظة بحسب الدستور الأمريكي، علّهم يتعلمون كلمة واحدة في العربية. كلمة تعني الأمل والإرادة بالنسبة إلى الكثير من المظلومين هنا في الولايات المتحدة وفي العالم.
إنها اسم من الفعل (افتعل) والجذر الثامن لفعل (نفض)، هي ما نفعله حين تلسعنا نحلة أو حين نستيقظ من كابوس مزعج...
وهي الشيء الوحيد الذي يمكن فعله حين تصرعنا عقود من القهر والعنصرية واللامبالاة والظلم... هي "انتفاضة"!
[ترجمة تغريد عبد العال، عن موقع Lithub].