[حوار مع عالم الاجتماع والأديان والمؤرّخ رضا أصلان أجراه محرّرو مجلة جاكوبين. رضا أصلان عالم اجتماع وعالم أديان ومؤرخ وأستاذ جامعي أمريكي من أصل إيراني. من أهم كتبه: "المتعصب، حياة يسوع الناصري وأزمنته"، و"لا إله إلا الله: أصول الإسلام وتطوره ومستقبله"].
[تُنشر هذه الترجمة بموجب إذن رسمي من مجلة "Jacobin"].
محرّرو مجلة "جاكوبين": في كتابك "المتعصّب، حياة يسوع الناصري وأزمنته"، قدّمت قراءة جديدة ليسوع بوصفه ثائراً من القرن الأول. ماذا أضافت هذه القراءة إلى فهمك لشخصيته وسياقه التاريخي؟
رضا أصلان: أعتقد أن أهم ما أضافته هذه القراءة هو الدقة في تحليل ما حدث. فعلى مدى ألفي عام، وبعد جهودٍ حثيثةٍ بذلها الجيل الثاني من المسيحيين، أعقبتْها جهودُ الإمبراطورية الرومانية بعد شروعها في تبني المسيحية ديناً رسمياً للإمبراطورية، طرأت حاجةٌ ماسّة لتحرير شخصية يسوع من المعاني والدلالات السياسية الحافّة والمحيطة المشوّشة التي غلّفت بقشرتها رسالته الروحية. وما هو مثير للانتباه بعد انقضاء ألفي عام، هو أننا، بينما نحاول الفصل بين الدين والسياسة، نمرّ في وقت نواجهُ فيه صعوبة كبيرة في العودة إلى كلمات يسوع وأفعاله، وإعادة النظر فيها، وفهمها كمنتج لزمانه ومكانه.
يتعلّق الأمر إلى حدّ كبير بحقيقة أن الدين المسيحي المعاصر يميل إلى النظر إلى يسوع على أنه الله المتجسّد، وإذا كان يسوع هو الله المتجسّد فإن السياق التاريخي يتوقف عن لعب أي دور في كيفية فهم رسالته. ذلك أن أفعاله وكلماته تصير أبدية، ولا يهمّ إلى من كان يوجّه كلامه حين قال ما قاله لأنه، بوصفه الله متجسداً، لا ترتبط كلماته أو أفعاله بسياق محدد. لكن أيّاً كان يسوع، فقد كان إنساناً أيضاً، وعاش في مكانٍ وزمانٍ محدّدين، وخاطب جمهوراً معيّناً، وتعامل مع احتياجات ومخاوف بعينها. ليس بمقدورنا فصل هذه الأمور عن كلماته إذا كان هدفنا الحقيقي هو فهم من كان، وما كان يحاول قوله.
ثانياً، استقطبَ التيّارُ اليمينيّ الدينَ المسيحي للترويج لأفكار تتناقض بشكل جوهري مع تعاليم يسوع وبرامجه. وتشمل هذه الأفكار حرمان الأفراد من الرعاية الصحية المجانية، وتطبيق رأسمالية بلا قيود، وتعزيز السوق الحرة، وإنكار كرامة المثليين، وإغلاق الحدود في وجه المهاجرين الهاربين من العنف والحرب. لذا، من الضروري بالنسبة لنا كمؤرخين أن نكشف عن الرسالة الحقيقية ليسوع، التي كانت راديكالية في زمنها. لو عاد يسوع اليوم وبشّر بالأفكار نفسها التي أعلنها في عصره، لعارضه ورفضه معظم المسيحيين الحاليين، وربما كانوا سيتهمونه ويعتقلونه ويقتلونه كما فعلوا به قبل ألفي عام.
المحرّرون: نحن نعيش الآن على غرار معاصري المسيح في فترة إسكاتولوجية (أخرويّة)، وفيها يعتقد المسيحيون على وجه الخصوص أن الحرب بين إسرائيل وفلسطين تجسّد شيئاً من سفر حزقيال. هل تختلف الألفية الحديثة عن الخطاب المسيحي واليهودي حول نهاية الزمان تاريخياً؟
رضا أصلان: سأبوح لكم بسرّ صغير: نحن نعيش دوماً في أزمنه نهاية العالم. كان المسيحيون يتحدثون عن نهاية العالم في كل قرن، على مدى ألفي عام. لكن طبيعة ما تبدو عليه تلك النهاية وأسبابها كانت تتغير على الدوام. إن حقيقة المسألة هي أنه حين تعتقد أن للزمن بداية إذاً فمن المنطقي أن تكون له نهاية أيضاً. نحن نندفع نحو هذه النهاية بلا توقف. وعليه فإن هذا النوع من الحماس للآخرة الذي نشهده، خاصة في ضوء الحرب في الشرق الأوسط، ليس جديداً، بل خُبز على نار طبيعة التديّن الغربي.
المحررون: في كتابك "ما وراء الأصولية“ قلتَ إننا يجب أن نعرّي الصراعات السياسية من قشرتها الدينية إذا أردنا فهم الأسس المادية لتلك الصراعات. هل يمكن أن تقدم لنا بعض الأمثلة عن صراعات عُدّت طبيعتها دينية خطأً؟
رضا أصلان: نحن نشهد الآن صراعاً دينيّاً هو الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، الذي هو جوهرياً صراع على الأرض، وصراعٌ من أجل الكرامة. إلا أن هذا الصراع ارتبط بالهوية الدينية ليس فقط للمسيحيين واليهود والمسلمين المحليين، بل أيضاً للمسيحيين الإنجيليين، الذين يعتقدون أن الصراع ليس سياسياً، بل هو صراع لإثبات إن كانت كلمة الله صحيحة أم كاذبة. ويظنون أن الأمر يتعلق بتحقيق نبوءة من شأنها أن تؤدي إلى نهاية العالم، وهذا ما يرغب به كثير من المسيحيين.
ويبدو أن الصراع لا حل له، لأنه تم الابتعاد عن الحلول الحقيقية بسبب الإصرار على النظر إلى الصراع لا من خلال عدسة دينية فحسب، بل أيضاً من خلال عدسة الحرب الكونية، والاعتقاد بأن ما يجري في الحقيقة في إسرائيل وفلسطين هو حربٌ في السماء بين قوى الخير الكونية وقوى الشرّ الكونية.
المحررون: هل تعتقد أن الصراع في أيرلندا الشمالية صراع ليس دينياً بل لُبّس قشرة دينية كمثل الصراع في فلسطين؟ إذا كان الأمر كذلك، هل تم نزع تلك القشرة؟
رضا أصلان: لنعد إلى البداية، لأنني أعتقد أن طبيعة السؤال تعكس حسن النية، لكنها تعبّر أيضاً عن فهم ينطوي على خطأ جوهري لما هو الدين وما ليس هو. ينتشر هذا الفهم الخاطئ بشكل خاص في أوساط اليسار. ويسود اعتقاد بأن الدين يتعلق، أولاً وقبل كل شيء، بالمسائل الروحية، أي أنه ممارسة فردية (أو على الأقل يجب أن يكون ممارسة فردية)، وهو بذلك مفصول بطرق عديدة عن العالم المادي والسياسة والاقتصاد. أؤكد مرة أخرى أن هذا يعكس فهماً مغلوطاً لماهية الدين في الحقيقة، لأن الدين لا يتعلق بالمعتقدات والممارسات فحسب، بل هو جوهرياً مسألة هوية. فعندما يصرّح شخص ما: "أنا يهودي"، "أنا مسيحي"، "أنا مسلم"، "أنا بوذي"، "أنا ملحد"، فإنه لا يُطلق تصريحاً دينياً يعبر بالضرورة عن إيمانه. من يقول هذا غالباً ما يعبّر عن هويته الشخصية. عندما يكون هذا التعبير عن الهوية، مثل "أنا يهودي"، "أنا مسلم"، أو "أنا مسيحي"، فإنه يتضمن جميع العوامل التي تشكل هويتنا، بما في ذلك سياساتنا، ومواقعنا الاجتماعية والاقتصادية، فضلاً عن عرقنا وقوميتنا وسلالتنا وجنسنا وميولنا الجنسية والمؤشرات التي تحدد من نحن. يؤثر الدين بشكل جوهري في جميع هذه العوامل التي تشكل هويتنا، لكنه لا يحل محلها ولا ينفصل عنها.
إذا فهمنا الدين بهذه الطريقة، سنتمكن من فهم لماذا يعتقد ثلثا الكاثوليك في أمريكا أن الإجهاض ليس خطيئة، بل هو خيار معقول تماماً للنساء الكاثوليكيات المؤمنات، أو لماذا يؤمن ١١٪ من الملحدين الأمريكيين بوجود قوة عليا.
بالتالي حين يتعلق الأمر بصراع كالصراع الدائر في أيرلندا الشمالية، هل نكون مخطئين إذا فكرنا بالصراع الكاثوليكي البروتستانتي من منظار ديني؟ إذا قلتَ إنك كاثوليكي في أيرلندا الشمالية فإن هذا ليس تصريحاً يعبّر عن إيمانك، بل عن قوميتك وسياستك، ومن أنت، وكيف تفهم مكانك في الكون.
المحررون: كيف تساعدنا هذه المقاربة للدين كهوية في فهم الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني على نحو مختلف؟
رضا أصلان: كانت إحدى النتائج التي تمخّض عنها الصراع الحالي بين إسرائيل وحماس هي أنه دفع من كنا نعرفهم سابقاً باليهود العلمانيين الى اتخاذ موقف راديكالي. لديّ شخصياً العديد من الأصدقاء اليهود الذين لم تكن لديهم تجربة دينية في إطار اليهودية من أي نوع، ولم يكن لديهم ولاء محدد لإسرائيل كدولة يهودية. كانت يهوديتهم تجربةً عرقيّة وثقافية فحسب، وربما كانوا يحتفلون ببعض الأعياد اليهودية. ومع ذلك، بعد السابع من تشرين الأول، لم يقتصر الأمر على أنهم تبنّوا نسخة من اليهودية كانوا قد رفضوها سابقاً، بل دفعهم ذلك أيضاً إلى تبني مواقف راديكالية.
لماذا حدث هذا؟ هل أصبحوا فجأة أشد إيماناً؟ هل يؤمنون الآن بالله أكثر مما كانوا عليه قبل السابع من تشرين الأول؟ كلا. هل أصبحوا أكثر يهودية من حيث معتقداتهم وممارساتهم؟ كلا. هل يخططون للانتقال إلى إسرائيل والتخلي عن جنسيتهم الأمريكية؟ كلا.
لقد تعرّض شعورهم بالهوية - الذي احتوى دوماً على هذا المؤشر: "أنا يهودي“ - للهجوم، وتم إيقاظه بطريقة ما. نتيجة لهذا، توسَّعَ هذا الشعور وبدأ يحجب مؤشرات الهوية الأخرى كلها لديهم، بما فيها هويتهم السياسية كتقدميين وعلمانيين.
المحررون: هل هناك تفسير مماثل للسبب الذي يدفع الناس إلى اللجوء إلى الأصولية الدينية في ظل الظروف المادية المزرية، التي شهدناها مثلاً في لبنان، أم هل هذه سيرورة مختلفة من الراديكالية الدينية؟
رضا أصلان: لا تقتصر هذه الظاهرة على لبنان، بل نراها أيضاً في الهند وإسرائيل. ولقد شهدناها منذ أربعة عقود في إيران، رغم أننا نشهد الآن تحولاً جذرياً في الاتجاه الآخر. حتى في اليابان، التي تُعدّ دولة غير دينية إلى حد كبير، بدأ الشكل الاستعراضي من ديانة الشينتو في الانتشار، خاصة في أوساط الجيل الأصغر من اليابانيين.
لماذا يحدث هذا؟ لنعد إلى مسألة الهوية. إن الدين جزء من الهوية، وهو عنصر واحد ضمن مجموعة من العناصر التي تشكل هويتك. وعندما تشعر هذه الهوية الدينية بأنها مهددة، فإنها تتوسّع وتقوم برد فعل. لكن ماذا يحدث عندما تتعرض مكوّنات أخرى من هويتك لهجوم أو تشكيك؟ مثلاً، ماذا يحدث عندما يتآكل إحساسك بالقومية بسبب العولمة؟ ماذا يحدث عندما تُهاجَم هويتك العرقية، أو يُقلّل من شأنها بطرق مختلفة؟ الجواب هو أنه ستقوم مكوّنات أخرى من هويتك بالرد.
لماذا تتصاعد القومية الدينية في أمريكا، حيث يصفُ ثلث الأمريكيين أنفسهم الآن بفخر بأنهم قوميون مسيحيون؟ ولماذا يتزايد صعود القومية الدينية في الهند؟ يحاول رئيس الوزراء ناريندرا مودي وحزب بهاراتيا جاناتا تعزيز شكل محدد من الديانة الهندوسية يسعى لتحقيق أمة هندوسية خالصة. نرى أيضاً تصاعد القومية اليهودية في إسرائيل، لكن ما سبب هذا التوجه؟ يحدث ذلك لأنه في هذه الدول الثلاث ازدادت صعوبة تحديد معنى أن تكون أمريكياً، أو أن تكون إسرائيلياً، أو أن تكون هندياً من منظار علماني.
إن الهوية القومية تتآكل بسبب التغيرات العرقية والدينية التي تحدث بين سكان هذه البلدان. فقد أصبح من الصعب على غير العادة تحديد ما يعنيه أن تكون أمريكياً في الوقت الحاضر. لذلك يميل الناس إلى القول: "هذا يعني أنه مسيحي“، أو أنه أبيض. أما بالنسبة لما يعنيه أن تكون إسرائيلياً، فهو يعني أن تكون يهودياً. ولكن، أي نوع من اليهود؟ ليس المقصود هنا اليهود بالمعنى الثقافي، أو اليهودية العلمانية لمؤسسي إسرائيل من الأوروبيين، بل النوع الجديد من اليهودية الأرثوذكسية المتطرفة التي تتسم بالقوة والتطرف. حين نفهم الدين بوصفه هوية يبدأ الدور الذي يلعبه في الصراعات السياسية في اكتساب معنى. يمكنك أن تفهم كيف يمكن لشخص أن يرفض الرعاية الصحية الشاملة بناءً على حجة دينية، أليس كذلك؟ لأنه لا يقدم حجة دينية فعلية، بل يستند إلى شعوره بالهوية ويستخدم الجانب الديني منها لتبرير جميع جوانب هويته الأخرى. إن الحركة الدينية الأسرع نمواً في أمريكا هي الحركة التي تُسمّى "إنجيل الرخاء“، القائمة على فكرة أن الإيمان بالله والتمسك بتعاليمه يمكن أن يؤديا إلى تحقيق الرخاء المالي والنجاح الشخصي. أعتقد أنه من المستحيل التفكير بأية شيء يتعارض مع كل ما بشّر به يسوع أكثر من هذه الحركة. لكن إذا فكرتم بالدين، لا بوصفه معتقدات وممارسات، بل بوصفه هوية يتوضّح لماذا ينضم الناس إلى حركة إنجيل الرخاء، لأنهم يحاولون أن يوفّقوا بين المسيحية وعاملٍ آخر من هويتهم: الرأسمالية المنفلتة من أية قيود.
المحررون: يبدو أن لدى الناس في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية شعوراً زائفاً بأن الدين يتراجع عالمياً.
رضا أصلان: هذا الفهم ليس دقيقاً تماماً، لكنه منطقي. نرى اتجاهاً مثيراً للاهتمام، حيث تنطلق المسيحية بثبات نحو الجنوب والشرق كتيار عالمي، بينما يتجه الإسلام، كدين عالمي، نحو الشمال والغرب. هذه التغيرات في الساحة العالمية للدين دفعت المراقبين إلى الاستنتاج: "حسناً، الدين في منطقتي يتراجع".
غالباً ما يُقال إن الدين يتراجع في أوروبا. إن عدد المسيحيين يتناقص في أوروبا لأن المسيحية تتقدم نحو الجنوب والشرق. لكن الإسلام لا يشهد تراجعاً في أوروبا، لأنه يتقدم نحو الغرب والشمال. إن جزءاً من هذا الفهم الخاطئ يتعلق بهذه التيارات العالمية التي ستتطلب على الأرجح قرناً آخر كي نبدأ بفهمها.
يرتبط جزء من هذا الفهم الخاطئ أيضاً بالتصورات الخاطئة التي لدينا عن الدين. يعتقد البعض أنه مع ازدياد ثراء المجتمعات وتعليم الناس وتقدم العلم في فهم طبيعة الكون، سيصبح الناس بالضرورة أقل تديناً. لكن الواقع يثبت عكس ذلك. صحيح أن الإلحاد في تزايد، لكنه لا يزال حركة صغيرة جداً. وتستمر العلمنة في الصعود، وهي لا تعني العلمانية، بل العملية التي تُزال بها السلطة من أقطاب الدين وتنتقلُ إلى مجالات غير دينية مثل السياسة والأوساط الأكاديمية.
في الحقيقة نحن لا نشهد تراجعاً في التديّن الذي يواصل البعض الترويج له. لا توجد علاقة عكسية بين التعليم والتدين، أو بين المعرفة العلمية والتدين، أو بين الصحة والتدين. ما نراه هو أن هذه التيارات تؤثر في كيفية عمل الأديان. فالدين المسيحي الذي نعرفه اليوم يختلف بشكل كبير عن الدين المسيحي الذي كان موجوداً قبل مئة، أو حتى مائتي عام. تؤثر التطورات العلمية والتكنولوجية والتغيرات الاجتماعية وتقدم التعليم، وحتى الازدهار الاقتصادي، على الدين وتساهم في تغييره. وتتيح هذه العوامل للدين أن يتطور ويتكيف بما يتناسب مع احتياجات البشر على أحسن وجه. وبالتالي، يمكننا القول إن هذه العوامل لا تؤدي إلى اختفاء الدين، بل تسهم في تغييره وتحديثه.
[ترجمة: أسامة إسبر، المصدر: Jacobin].