تعيدنا بدرية البدري الروائية العمانية في روايتها فومبي والتي وصلت إلى القائمة الطويلة للبوكر العربية 2024 إلى عهد ظننا أننا تجاوزناه منذ قرن تقريباً وهو العبودية وتجارة الرقيق وزمن السيطرة الاستعمارية على إفريقيا لنهب ثرواتها واستعباد سكانها، ورغم أن هذا صار في الماضي إلا أنه لا يمكن نسيانه بسهولة ولا بد من إلقاء نظرة على تاريخ مليء بآلام بشر قضوا وعانوا ودفعوا أثماناً غالية، فمن ينسى صرخة كونتا كونتي في فيلم الجذور ومشهد صيده في الغابة ورحلته إلى العالم الجديد والمتحضر لكن كعبد، ومن ينسى مانديلا الحائز على جائزة نوبل للسلام.
يأتي عنوان الرواية (فومبي) غريباً ومثيراً وهي تعني الروح الهاربة من قبضة الشيطان حسب معتقدات السكان، فالأرواح الطيبة تكون شفافة بلا لون أما تلك الشاحبة والبيضاء فقد استلبها الشيطان، الشيطان الذي رأوه بالرجال البيض غريبي البشرة والسلوك إذ رأوا فيهم قدرة شيطانية لا محدودة لصنع الشر. تبدأ الرواية بأغنية شعبية من الكونغو عن حظ سيء يرافق الجماعة مع استدراك أن كل ما في الطبيعة سيقتل الرجل الأبيض وليس هذا سوى من باب التمني أو الأمل بأن العدل سيأتي يوماً.
تنتقل بدرية البدري الروائية العمانية والتي كانت قد أصدرت ثلاث روايات هي (ما وراء الفقد، والعبور الأخير، وظل هيرمافروديتوس) وعلى مدار ستة فصول بين عدة رواة هي شخصياتها المختلفة في جهة الصراع، إذ ينتقل السرد بينها ليروي الحدث من وجهة نظر السارد ويضيف رؤيته الخاصة، بدءاً من ستانلي الصحفي الأمريكي من أصل بريطاني الـذي تربى في ملجأ أيتام ولعدم اعتراف والده به أنكر نسَبه ووضع لنفسه اسماً كأنما يود أن يلد نفسه. فاستطاع منذ البداية إخبارنا بقدرته على الاحتيال لتحقيق مآربه، وهذا ما فعله للحصول على دعم صحفي للبدء في حملة استكشافية كانت التمهيد لحملات أخرى تبنتها بلجيكا بشخص ملكها الطامع ليس فقط بتحقيق المجد وإطلاق اسمه على الأماكن البكر التي لم يصل إليها أحد بل هي الرغبة بالحصول على ملكية هذه المناطق لاستنزاف ثرواتها، لكن سلطته مقيدة وفق القانون بسلطة البرلمان، وسعياً وراء طموحه في امتلاك دولة الكونغو قام برعاية مؤتمر الاتحاد الأوروبي الإفريقي الذي رفع شعار الدفاع عن الدول الإفريقية ضد أساليب العبودية والاتجار بالرقيق ودعم التنوير ونشر الحضارة فيها والديانة المسيحية.
استعمار لأغراض سامية
تحت هذه الشعارات كان الباطن الاستعماري فحتى البلدان التي تبدو محايدة لها مطامعها السرية؛ إذ استعمرت بلجيكا الكونغو منذ 1902 إلى 1960 كما استعمرت رواندا حتى عام 1962.
نعم قامت بلجيكا باستعمار الكونغو لأهداف سامية وتحت شعار مناهضة الرق ومنح السكان حريتهم التي يستحقونها كبشر، حشد الملك إمكاناته لزرع الفكرة ونشرها وترسيخها عاملاً بالمقولة "إيصال المعلومة غير الدقيقة بطريقة تبدو في منتهى الدقة". حتى اعترفت أمريكا بحق بلجيكا في الكونغو عبر بيان يؤكد أن احداً لم يقم بعمل نبيل يهدف إلى تحويل شعب همجي إلى شعب متحضر كما فعلت بلجيكا.
هكذا يتم التلاعب بعقول البشر وتكوين الحقائق من الأفكار التي تزرع فيها عبر الإعلام والمؤتمرات وضخ الأخبار. والتلاعب بمصائر البشر عبر استخدام مشبوه للقيم والحقوق والحريات فتتم إقامة بلدان حسب الرغبة لخدمة مصالح الدول الكبرى كما فعلت الولايات المتحدة حين أقامت دولة ليبيريا (أخذت اسمها من ليبرتي) للعبيد المحررين بدل إعادتهم لبلدانهم الأصلية، عبر جمعية خاصة استعمارية أمريكية، مورس نفس الاحتيال على سكان الكونغو الذين لا يعرفون القراءة والكتابة ولا حقوقهم فتم استدراجهم للتوقيع على صكوك عبوديتهم وبيع أراضيهم وقوة عملهم والعمل بالسخرة والالتزام بإحضار العمال اللازمين لجمع المطاط أو الحمل أو مد السكك الحديدية كل ذلك مقابل قطعة قماش ظنوها هدية لهم. هكذا أصبحوا مدينين للملك وعليهم أن يعملوا بشكل متواصل لسداد ديونهم التي تزداد يوما بعد آخر.
كان الأفارقة أنقياء لدرجة أنهم تخيلوا الرجل الأبيض على ظهر السفينة التي تمخر نهر الكونغو، الرب يبحر في النهر وأن البندقية التي يقتل بها أبناء قبيلة الباساكو هي عصاه التي يعاقب بها. ثم اكتشفوا الخديعة التي وقعوا بها لكن لم يعد بإمكانهم فعل شيء سوى الرضوخ وصاروا بيد الرجل الأبيض كالبندقية التي يقتل بها أخوتهم وصارت المعادلة أن يكون الشخص إما قاتلاً أو مقتولاً وبحثاً عن خلاص فردي تاجروا بأخوتهم واصطادوهم وباعوهم وقتلوهم وعذبوهم حسب رغبة الرجل الأبيض. فكانت الجرائم مثل شرب الماء وقتل العائلات للاقتصاص من فرد فيها تجري ببساطة وقد يكون ذنبه ليس أكثر من أن سلة مطاط من بين سلال كثيرة جمعها لم تكن مملوءة بشكل كاف. كان البيض يقومون بجرائمهم بيد أفارقة غالباً حتى صار الموت مشهداً عادياً بل راحة أمام التعذيب الذي لا يتحمله بشر. كما كان هناك الأفارقة الذين يصطادون أبناء جلدتهم كالحيوانات يبرر أحدهم ذلك: “من نصطادهم يظلون أحياء إلى أن نبيعهم ونقبض ثمنهم، لربما وجدوا هناك حياة مرفهة بانتظارهم وهذا يعني أن ما نفعله خير لهم، الأمر السيء الوحيد أنهم لا يعودون أحراراً ويضطرون لنسيان أحبتهم لكن ذلك أفضل من الموت” متناسياً رحلة الشقاء بين الصيد والبيع من تعذيب وتجويع وضرب حتى يفقدوا قدرتهم على المقاومة فيخرجوهم من الشبكة صاغرين للقيود باليدين والقدمين والرقبة كالحيوانات. لكنه يستدرك بعد أن يقول لا يعودون أحراراً فيقول لا أحد في افريقيا حر الجميع عبيد، سواط كانوا مصطادين أو فارين من الصيد رغم الثورات المتتالية والتي لم تنقطع ضد البيض لكن التفوق بالسلاح ومساعدة الأفارقة تحت الضغط مكنا البيض من السيطرة دوماً.
تبرر الدول الأوربية غزوها لإفريقيا الهادف لاستغلال ثرواتها من ذهب وألماس وعاج ومطاط وكنوز كثيرة متوفرة بمبررات كثيرة أولها إنقاذ الأفارقة من عبودية العرب ولمنع الحروب المستمرة بين القبائل الإفريقية المتناحرة دوماً إضافة إلى تخليص أفراد القبائل من عبوديتهم لرئيس القبيلة. ونقل الحضارة إليهم والتي تبين أنها لم تكن سوى في الأسلحة الموجهة لصدور الأفارقة، لكن البيض لم يكتفوا بالرصاص إذ كانوا ينظرون للسكان على أنهم ليسوا بشراً بل حيوانات. فتفننوا بتعذيبهم من تجويع وضرب بالسياط إلى بتر الأطراف أو ترك الكلاب تنهش الأطفال والفاقدين القدرة على العمل، إلى خصي الرجال وانتهاك نسائهم أمامهم وأطفالهم وإرسال الأيتام تارة إلى معسكرات القوة العسكرية أو إلى طهيهم وتقديمهم وجبات طعام للعمال الذين لا يعرفون أنهم يأكلون أبناءهم.
لا يمكننا أن نذكر كل أساليب التعذيب التي توردها الكاتبة لكن يبدو أفظعها أن أحد الضباط كان يزرع وروده بجماجم القتلى، وأثناء جمع المطاط وحتى لا يخسروا شيئاً منه على الأرض كانوا يتركونه يسيل على أجساد الرجال ثم يقومون بنزعه عنهم فيسلخ معه الجلد دون رحمة. أما الحمالون فكم قضى منهم تحت ثقل أحمالهم ودون أن يقدم لهم الطعام الكافي لسند أجسادهم، كتب على النصب التذكاري عند بحيرة ستانلي (حررتهم السكة الحديدية من الأثقال) يا للسخرية فقد بنيت على أجسادهم، لكن القاتل لا يتوقف عن لوم الضحية وعدم تقديرها لما فعله من أجلها.
كشف الأكذوبة وفضح ملك بلجيكا
تم تعيين جورج واشنطن ويليامز المستكشف وهو ضابط سابق ومؤرخ زنجي من قبل الولايات المتحدة لتقييم الوضع في الكونغو بغية إرسال مواطنيها الأفارقة إلى هناك فكانت صدمته هائلة حين شاهد حجم الجرائم وأدرك الكذبة التي تعمم على العالم ورغم سوء صحته كتب تقريره وفضح ما يجري والسلوك الاستعماري الحقيقي. تابع ذلك ادموند موريل الذي استقال من شركة الملاحة بعد أن كشف الحقيقة فكل الثروات التي كانت تشحن إلى أوربا لم يكن يشحن مقابلها شيء لا بضائع ولا أموال فقط بعض الأطعمة للرجال البيض والضباط هناك، قام ادموند بفضح سجل الشحنات ونشر المعلومات في الصحف ونشر صور الجثث المعلقة فوق النار والمشنوقة وشهادات أشخاص تمكنوا من الفرار والإدلاء بشهاداتهم حول حجم التعذيب الذي يتعرض له شعب القبائل المتبقية فقد تم إبادة العديد منها، إلى أن تم تجريم الملك البلجيكي بكل الأعمال الغير قانونية ونهب الثروات على يد لجنة تقصي الحقائق في الكونغو التي انتحر عضو منها لقسوة ما رأى. أما القاضي الثاني فكان لا يمسك نفسه عن البكاء، أتى التقرير ب 150 صفحة وتبين أن تلك الأطراف المبتورة للترهيب والعقاب لم تكن سوى المادة الأولية لشركة اللحوم المعلبة والتي تحمل صورة حيوان على غلافها.
لكن هناك الكثير من الجرائم لم ينتبه لها أحد كأفعال بريطانيا في الأمازون وسيراليون ونيجيريا والتعتيم على ما يجري في زنجبار.
تبدأ الرواية بداية مرتبكة فالاسترسال بخيالات ستانلي رافقه استرسال بالجمل الطويلة، لكنها لا تلبث أن تستحوذ على انتباه القارئ في التشويق وتقديم أحداث تاريخية مهمة بطريقة أدبية جذابة عبر تغيير الرواة فرغم تغير السارد بين فصل وآخر وفي داخل الفصل نفسه إلا أن الكاتبة استطاعت أن تمنح لكل صوت خصوصيته وألمه وحزنه والقدرة على التعبير عما يحتدم بداخله، واستفزاز المشاعر القوية التي تتماشى مع طبيعة السرد وطبيعة الحدث.
تؤنسن بدرية البدرية الأشياء على يد سارديها فمثلاً كان أحدهم يتألم من أجل السوط الذي تخيل أنه يتألم حين ينزل على جسده مستدلاً على ذلك بصوته الذي يبدو كاعتذار.
كما قدمت الشخصيات المتناقضة والتي تواجه بعضها في الصراع دون أن يختلف مستوى السرد، لم تكتف الرواية بالمعلومة التاريخية وإنما وظفت ذلك لإبراز الحقائق الغائبة والمغيبة.
هل انتهت العبودية؟
حين أكدت واقع القارة الإفريقية وصراعاتها الداخلية بدا الأمر وكأنها تشير إلى التشابه بين الديكتاتوريات المحلية والاستعمار العنصري القاتل. فالملك البلجيكي يقوم بالتشبه والمقارنة مع ملكة مدغشقر وأساليبها الوحشية للسيطرة على شعبها، ومن خلال استعراض الحياة الخاصة للملك وأفراد أسرته ندرك ان للعبودية أشكالاً متعددة فرغم أن عائلة الملك من النبلاء لكنهم كانوا عبيداً للتقاليد الملكية وسلطة الأب القاسي والمتهور حتى انتهى بعضهم للانتحار والقتل أو الجنون والفرار، وفي النهاية تدق الكاتبة جرس الخطر حين تقول: لم تنته الحكاية بل إن أبطالها يتكاثرون في الحياة.
فالعبودية لم تنته وإنما تغير شكلها فما زال الانسان طريدة صيد لشبكات عديدة تستهدفه ليس آخرها المفاهيم الحديثة أو العالم الافتراضي بشبكته الإلكترونية أو زرع الرقاقات في الأجساد البشرية.
فالثورات المتلاحقة في عالم التقنيات أذهلتنا وجعلتنا ننسى الكثير من التفاصيل الصغيرة التي استغلتها الشركات الكبرى وحولتنا إلى مجرد حالات رقمية يتم التحكم بنمط حياتها وطريقة تفكيرها وبرمجتها بأفكار مستحدثة تحت مسميات عديدة من الحداثة إلى الخصوصية في الوقت الذي تنتهك فيه خصوصيتنا تحت نفس الشعارات وعبر برامج الحماية ولم يعد خافياً الجرائم التي ترتكب عبر وسائل التواصل من الاحتيال إلى القتل.
إنها الشركات الرأسمالية العالمية التي تدعم كل أشكال السيطرة لتحقيق أرباح تساعدها على النمو بدءاً من الاستعباد الجسدي واحتلال الدول إلى استعباد العقول وتغيير المفاهيم.
فالسلوك الاستعماري ليس ناتجاً عن حالات وعقد نفسية لدى ملك بلجيكا أو ضباطه ورجاله العاملين أو لدى تجار العبيد ولا تعويض لنقص بل إنها تختار من تعتمد عليهم من هؤلاء لتحقيق سياستها ودعم نفوذها.
رواية فومبي من الروايات المميزة والتي تخاطب الإنسان كقضية عامة وكذات فردية لها خياراتها تسجل من خلالها بدرية البدري حضوراً مميزا للأدب العماني الذي يثبت وجوده بقوة.
[تُنشر هذه المقالة بموجب اتفاقية تجمع بين جدلية وموقع صالون سوريا].