في سياق تحليل الأرقام والتوقعات حول انخفاض نمو الطلب على النفط، جاء الطلب على السيارات الكهربائية في الصين والولايات المتحدة الأمريكية كمسبب رئيسي حيث توقعت شركة الاستشارات العالمية "وود ماكينزي" أن ينخفض النمو في الطلب على النفط عالمياً، وفي الصين والولايات المتحدة، أكبر المستهلكين للنفط في العالم. يأتي هذا الرأي ليتوافق مع أرقام أخرى تخص السيارات الكهربائية، حيث ارتفعت أسهم العديد من شركات السيارات الكهربائية الصينية، وكذلك الطلب على السيارات الكهربائية، ما عزز الآراء التي رجحت أن سبب التراجع في نمو الطلب على النفط هو التوجه العام نحو السيارات الكهربائية.
على الرغم من أن انخفاض نمو الطلب على النفط يعد خبراً إيجابياً بالنسبة لأنصار الطاقة النظيفة والاقتصاد المستدام، إلا أن تحليل هذا الخبر باعتباره ناجماً عن خيار آخر صديق للبيئة مثل الطلب على السيارات الكهربائية يزيد من أهمية وإيجابية الخبر، وذلك لأن قطاع النقل يعد من القطاعات الأكثر تلويثاً للبيئة والأكثر مساهمةً في الاحتباس الحراري، ولأن التغيّر في هذا القطاع قد يسهم في التحول شيئاً فشيئاً نحو اقتصاد صديق للبيئة.
لم يكن التوجه نحو ارتفاع الطلب على السيارات الكهربائية في الصين مثلاً مقترناً بخيارات فردية اقتصادياً وبيئياً، بل بسبب تشجيع رسمي من الدولة، وسهولة اقتناء السيارة باعتبارها منتجاً محلياً، بالإضافة لوجود بنية تحتية تتمثل في محطات شحن كهربائية منتشرة ورخيصة. لا تشجع الصين السيارات الكهربائية فقط لأنها منتج محلي، بل لأنها تسهم أيضاً في تقليل الطلب على النفط في بلد يعد الأكثر استيراداً للنفط في العالم، وبالتالي فقد كان لحسابات الأمن القومي الصيني وأمن التزود بالطاقة دوراً فعالاً في الدفع بنمو الطلب على النفط نحو الهبوط ودفع السيارات الكهربائية نحو الواجهة.
يبدو من سلسلة القرارات الأخيرة في الأردن مثلاً، أن كلاً من المعايير البيئية وأمن التزود بالطاقة لا يقعان ضمن الأولويات التي تسعى لها الحكومة، حيث اتخذت الحكومة الأردنية قرارين قاتلين بالنسبة للتحول نحو اقتصاد أقل تلويثاً وأكثر استدامة، القرار الأول ضمن تعليمات استيراد السيارات الكهربائية، والذي حظر استيراد السيارات الكهربائية التي لا تطابق المواصفتين الأوروبية والأمريكية، قد يبدو إيجابياً باعتباره يهدف لرفع مستوى السلامة والأمان على الطرق، لكن الواقع لا يبدو كذلك، إذ يقتصر تطبيق القرار على السيارات الكهربائية دون باقي السيارات التي تعمل على البنزين والديزل والسيارات الهجينة، وباعتبار أن السيارات الكهربائية تعتبر سيارات حديثة فإن هذا يشكك في أن الهدف يتصل بسلامة السائقين والركاب، ويدفعنا للتفكير في الأسباب الأخرى التي تقع خلف هذا القرار، مثل عرقلة شراء السيارات الكهربائية الصينية التي تعتبر أسعارها في متناول أيدي المواطن الأردني، بهدف الحفاظ على نمو الطلب على البنزين والحفاظ على استفادة الدولة من عائدات الضرائب الباهظة على المحروقات، دون أدنى تفكير بأثر ذلك على الاقتصاد الكلي، فضلاً عن الآثار البيئية.
إن القرارات اللاحقة عززت من القناعة بأن الحكومة الأردنية لا تهتم بأي معيار اقتصادي أو بيئي لا يحقق للميزانية العامة المزيد من العوائد على المدى القصير، فقد جاء النظام الجديد للطاقة المتجددة بحيث يقضي على آمال الراغبين بالتحول نحو استخدام الطاقة الشمسية لتوليد الكهرباء، عبر فرض رسوم كبيرة على المتاجر الراغبة في استخدام الطاقة المتجددة، وتعقيد إجراءات الحصول على التراخيص، بينما استثنت التعليمات الجديدة المشتركين القدامى بالطاقة الشمسية، وهم في الغالب شركات الإتصالات والبنوك وشركات أخرى كبيرة ونافذة. لا تضرب هذه القرارات فقط التحول نحو الطاقة المتجددة والمعايير البيئية، بل تضرب أيضاً الاستثمار في قطاع الطاقة المتجددة الذي يضم مئات الشركات والأمن الوظيفي لعشرات آلاف المهندسين والفنيين والعمال. هذه القرارات والأنظمة الجديدة تهدف للحفاظ على استهلاك النفط والغاز الطبيعي والصخر الزيتي ضمن العقود غير المدروسة التي ورطت بها الحكومة الأردنية البلاد.
إن كمية التنافر بين النموذجين الصيني والأردني، نضربه هنا كمثال يؤكد أن التوجه نحو الاقتصاد المستدام يقترن بالإرادة السياسية، وينبغي أن تكون وراءه رؤية اقتصادية وبيئية تضع الاستدامة في الموارد كأولوية تضاهي الرفاه الاجتماعي والربح الاقتصادي، وقد ثبت على أرض الواقع أن الخيارات الصديقة للبيئة ليست معادية للربح. إن للصين أسبابها الاقتصادية في تشجيع الطاقة المتجددة والسيارات الكهربائية، وللأردن كذلك حساباتها، لكن ما يعرفه كل المتابعين والباحثين، أن القرارات التي تعادي التوجه نحو الاقتصاد المستدام قصيرة النظر، وستتسبب بضرر كبير، ليس فقط على المدى الطويل في تأخير التحول الاستراتيجي الذي يحقق أمن الطاقة ويضمن المزيد من العدالة الاجتماعية، بل على المدى المتوسط في استنزاف العملة الصعبة التي سيتم تصديرها للخارج لشراء النفط والغاز.
إن المنطقة العربية ككل تعاني من آلام كثيرة وحروب مدمرة، خارجية وأهلية، بالإضافة إلى الاستبداد السياسي وازدراء مصالح الناس الاقتصادية وحقهم في بيئة آمنة، إلا أن الأمل لا ينعدم في أن يتحقق السلام والعدل أولاً، وبناء الأوطان على أسس سليمة، تراعى فيها حقوق الإنسان، وتصاغ السياسات على مصالح الشعوب، دون الجور على البيئة ومواردها المحدودة، وبناء اقتصاد مستدام يضمن الرفاه والعدالة الاجتماعية.