(دار نثر، مسقط، 2024)
[مايكل تشولبي هو أستاذ الفلسفة في جامعة إدنبرة. نشر العديد من الأعمال التي تناولت نظرية الأخلاق، والأخلاق العملية، وفلسفة الموت والاحتضار].
[ترجمة المترجم العُماني علي المجيني].
جدلية (ج): كيف اخترت الكتاب وما الذي قادك نحوه؟
علي المجيني (ع. م.): الحقيقة هي أن الكتاب اختارني. هل يبدو ذلك مُبتذلًا؟ ربما، لكن هذا ما حدث فعلًا. قبل أن تعرض دار نثر مشروع ترجمة الكتاب عليّ، لم أكن أخطط سوى للاستمرار في نشر المقالات المترجمة على الصحف المحليّة، لكن الحظّ كان له رأي آخر. أول ترجمة منشورة لي كانت مقتطفًا من كتاب جاريد كوشنر عن زيارته للسلطان قابوس في 2019، ولمّا كان موضوع المقال يتناول خبايا القصر، وجد إقبالًا عاليًا حتى وصل إلى إدارة دار نثر، فعرضوا عليّ مشروع ترجمة كتاب التفجّع: دليل فلسفي. كنت مترددًا حول قبول العرض في بداية الأمر، لأسباب تتعلق بعدم ثقتي في قدرتي على إنجاز مشروعٍ كهذا، إلا أنني وبعد قراءة الكتاب، تيقنت أن ترجمته ستكون بداية رائعة لمسيرة أي مترجم. تطلب الأمر قرابة الشهرين لأتخذ قرارًا نهائيًّا، بدأتُ بعدهما بالعمل على المشروع. ومن عجائب المصادفات أنني وخلال فترة ترجمة الكتاب تعرضت لتجربة التفجّع إثر وفاة جدّي، فكان الكتاب قد أعدّني للكثير مما أقبَل عليّ وعلى عائلتي، مما دفعني بحماسٍ لإنجاز المشروع.
(ج): ما هي الأفكار والأطروحات الرئيسية التي يتضمنها الكتاب؟
(ع. م.): مبحث الكتاب الرئيسي هو تجربة التفجّع (Grief) بوصفها ردة فعل إنسانية تجاه فقدِ شخص نعبأ بأمره، يتناول الكتاب هذه التجربة عبر إطار فلسفي، ليضع النظرية الفلسفية الأولى من نوعها في هذا المجال. البروفيسور مايكل تشولبي هو مؤلف الكتاب وهو فيلسوف أمريكي معاصر مهتم بجوانب عدّة تتعلق بالموت. يعمل الكتاب على تفكيك مفهوم التفجّع وإعادة تركيبه بطريقة تزيل الغموض المحيط بهذه التجربة الإنسانية الشاملة وفهمنا لها. فينطلق من محاولة وضع تعريف جامع مانع لها عبر الفصلين الأول والثاني من الكتاب، ثم يتناول الأبعاد الأخلاقية لها مدافعًا عن ادعائه بأن التجربة وإن كانت مؤلمة فهي تمثل مصدر خيرٍ للإنسان، كما يشمل هذا الاستقصاء الأخلاقي فحص عقلانية التفجع كتجربة إنسانيّة، ويختتم تشولبي الاستقصاء في الفصل السادس عبر تأكيده على أن التفجّع يمثل واجبًا يدين به كلّ إنسان تجاه ذاته لا تجاه الميّت أو تجاه الآخرين. ينتهي الكتاب عند الفصل السابع الذي يتناول المؤلف فيه الخطر الذي يمثله تصنيف التفجع كاضطراب في الصحة النفسية على فهمنا لذواتنا ولتجاربنا الحياتيّة. ويؤكد تشولبي في خاتمة كتابه على أن الكتاب لا يمثل وصفة علاجية لتجارب التفجّع، ولا يُمكن للكتاب أن يُخبرك عن تجربتك الخاصة، لكنه يُمثّل خريطة بالمعالم الأساسية للتفجّع، قد تعينك على فهم التجربة قبل أو بعد الخوض فيها، لكن ليس خلالها.
(ج): ما هي التحديات التي جابهتك أثناء البحث والترجمة؟
(ع. م.): أستطيع أن أقول إنني واجهت عددا من التحديات التي عززت من فهمي للغة بوصفها منظومة شديدة التعقيد، إلا أن التحدي الأبرز تمثّل في ترجمة كاملة (Grief) للعربية، فهي غالبًا ما تترجم إلى (الحزن)، إلا أن تلك الترجمة ليست دقيقة، وخصوصا في سياق هذا الكتاب الذي يفكك المفهوم ويعيد هيكلته داخل اللغة الإنجليزية ذاتها، فكان لزامًا على من يُترجم العمل أن ينجو بنفسه من استخدام مفردة مثل الحزن. خطرت ببالي مصطلحات مركبة مثل حزن الفقد، إلا أنها وبغض النظر عن عدم دقتها، ستؤثر بشكل كبير على انسيابية الأفكار وسهولة اللغة. عليه فقد وقع اختياري على مفردة التفجّع التي اقترحها عليّ الأستاذ المترجم أحمد المعيني، فقمت ببحث حول المفردة واستخداماتها السابقة، فوجدت تعريفًا لها في معجم لسان العرب يقول: "شدةّ التضوّر والتوجّع للرزية"، كما وجدت استخداما يتيمًا لها في ترجمة مفردة (Grief) على الإنترنت. وهكذا، ورغم كونها لا ترتبط حصرًا بالموت، إلا أنها مفردة طازجة إن صح التعبير، يمكن تطويعها لتعني ما يعنيه مفهوم (Grief) في سياق الكتاب.
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك في مجال الترجمة والإبداعية؟
(ع. م.): أجبت عرضًا على هذا السؤال في إجابة السؤال الأول.
(ج): من هو الجمهور المتوقع للكتاب وما الذي تأمل أن يصل إليه القراء؟
(ع. م.): بحكم أن تجربة التفجّع هي تجربة سيخوضها أي إنسانٍ على وجه الأرض، فإن جمهور الكتاب هو الإنسان العربي بشكل عام. ولا يمكن بأي حالٍ من الأحوال أن أنكر وجود مستوىً من التعقيد الفلسفي في الكتاب، إلا أن الكاتب عمل على تيسير طرحه قدر المستطاع، كما حرصت أنا أيضًا على أن تخلو ترجمة الكتاب من أي تعقيدات تنتج عن تكلّف أو تقعّر. وكما يذكر الكاتب في مقدمته أن الكتاب يقدم أقصى نفع ممكن لأولئك الذي لا يمرّون بنوبة تفجّع أثناء قراءته. أمّا عمّا آمل أن يصل إليه قراء الكتاب، فهو الأمر ذاته الذي حققه لي الكتاب خلال ترجمته، وهو فهمٌ أفضل لأنفسنا فيما يتعلق بفقد الأحبّة للموت. كما أن هذا الكتاب يأتي في فترة صار الموت فيها بطلًا من أبطال زماننا العربيّ، وعليه كثيرًا ما أؤمل نفسي بأن قراءته قد تساعدنا في إرساء فهمٍ أعمق لمشاعرنا فيما يتعلق بفقد القادة السياسيين والعسكريين الذي نعلق بهم الكثير من الآمال، بالنظر لاعتماد الكاتب على مثل هذه الميتات في صياغة تعريف واضح للتفجّع.
(ج): ما هي مشاريعك الأخرى/المستقبلية؟
(ع. م.): في الوقت الحالي أُركّز على تقييم التجربة الأولى، كما أنني مستمرّ في ترجمة المقالات ونشرها، وأعمل على ترجمة الشعر كتمرين للياقة. أعتقد أن مشروعي القادم قد يكون في مجال الأدب، الرواية أو القصة القصيرة.
مقتطف من الكتاب
(الفصل 4.5، ص 199)
جادلتُ في الفصلين الثاني والثالث أن المشاعر المختلفة التي نمر بها خلال انخراطنا في التفجّع، تكشف جوانب مختلفة من علاقتنا مع المتوفّى، العلاقة التي يكون فقدانها فتحوّلها موضوع التفجّع، وعليه فإن مشاعر الحزن، والأسى، والألم التي نشعر بها في التفجّع تكشف لنا أهميّة المتوفّى بالنسبة لنا.
لاحظ أن ذلك يضع آلام التفجّع في علاقة سببيّة بمعرفة الذات، والتي كما قلت، هي الخير الذي يتفرّد التفجّع به. الألم، إلى جانب المشاعر الأخرى التي نمر بها في التفجّع مثل الغضب، والقلق، والدعة، وما شابه، يسهم في جعل معرفة الذات ممكنة. لكن، لاحظ أن طرفي العلاقة السببية هنا أكثر ارتباطًا ببعضهما من ارتباط التكلفة المحضة بالمنافع الناتجة عن تحمّل تلك التكلفة؛ إذ نحن لا نستسلم لألم التطعيم لأن الألم يجعل الوقاية من الأمراض المعدية ممكنةً، الوقاية من المرض لا تنتج عن الألم، إنما تنتج عن تحفيز اللقاح لجهاز المناعة، ولهذا السبب سيكون التطعيم غير المؤلم أمرًا مرغوبًا فيه بقدر ما يجعل التطعيم أقلّ كلفةً. أما في حالة التفجّع وآلامه، فإن الآلام ترتبط بعلاقة تكامل مع المنافع المعنيّة، الألم هو جزء من الطريقة التي نصل من خلالها إلى معرفة الذات، وليس أثرًا جانبيًّا عرضيّا للآليّة السببية التي تمكننا في الواقع من معرفة الذات.
أرى أن الثكالى ينظرون برغبة إلى آلام التفجّع لأنهم مدركين، ولو بشكل غير مكتمل، أن هذه الآلام هي استثمار في خير التفجّع. أن تستثمر في خير ما يعني أن تتحمل تكلفةً ما، إلا أن هذا الاستثمار يحمل دلالات أبعد من ذلك، الاستثمار التزام وتكريس للنفس لمنفعة أو مشروع ما، إن الاستثمار في خير ما ينطوي على تحديد الوسائل التي ستحقق ذلك الخير، وليس الأمر مجرد تكاليف يجب تحمّلها، أو شرّ لا بدّ من معاناته عن طيب خاطر على أمل تحقيق الخير الذي نسعى إليه، إنما بدلًا من ذلك يُنظر إلى الوسائل التي ستحقق ذلك الخير على أنّها نافعة بسبب العلاقة السببية التكامليّة التي تربطها بالخير الذي نسعى إليه.
خذ على سبيل المثال، شخصًا يقضي سنوات عديدة في كتابة رواية ثم يفوز بجائزة أدبيّة مرموقة، إن سنوات الاشتغال العديدة اللازمة لكتابة رواية تفوز بالجائزة هي (على مستوىً ما) مجرّد تكاليف؛ إنها تنطوي على تضحيات بالوقت والجهد وما إلى ذلك، والتي ستكون تجارب شعوريّة شاقّة ومُكلِفة، ومع ذلك، فإن الاشتغال هنا ليس مجرد تكلفة، إن القيمة أو الأهمية الإجمالية لكتابة الرواية والفوز بالجائزة وما إلى ذلك، لا تُحسب ببساطة عن طريق طرح "مساوئ" الاشتغال اللازم لكتابة الرواية ثم الفوز بجائزة عنها من "منافع" إتمام كتابة الرواية ومن ثم الفوز بالجائزة. إنما وعوضًا عن ذلك، فإن إتمام كتابة الرواية والفوز بالجائزة يغيّران أهميّة الاشتغال اللازم للقيام بذلك، إن إتمام الرواية وثم الفوز بالجائزة يعزز من صحّة الاشتغال أو يبرره، ممّا يزيد من شعور المؤلف بالرضا عن المشروع بأكمله، بالطبع سيكون المؤلف سعيدًا لأن الاستثمار "آتى أُكله"، لكن هذا المردود لا يتكون حصرًا من الكيفية التي حقق بها الاشتغال نتائجًا جيّدة، بل يشتمل المردود أيضًا كيف يصبح الاشتغال نفسهُ خيرًا في حدِّ ذاته نظرًا لدوره الأساسي في تمكين الراوية من الاكتمال. وهنا لم يعد الاشتغال مجرّد مساهم سلبي في مشروع الكاتب، حيث يعمل أيضًا كمساهم إيجابي في حدّ قيمته بقدر ما هو يُمثِّل استثمارًا من جانب المؤلف. يدرك الكاتب الآن ما أسماه (جي. أي. مور) "الوحدة العضويّة"، وهي حالة قيّمة، لا تكون فيها قيمة الكلّ ناتجًا لقيم المكونات كلّ على حدة[1]، وفي هذه الحالة، فإن الاشتغال الشاق أو المكلف يصبحُ جيّدا بالنظر إلى ارتباطه الوثيق والذي لا يمكن فصله عن الخير الكامن في المشروع ككل.
وهكذا أيضًا في حالة التفجّع؛ حيث تمثّل آلامهُ، ولو عن غير قصد، استثمار الفرد الفاقد في إمكانية تحقيق معرفة الذات من خلال التفجّع. وبقدر ما يولّدُ التفجّع معرفة ذات قيمة، فإن الآلام تؤتي أُكلها وتصبح أكثر من مجرّد تكاليف. أرى أن الثكالى غالبًا ما يتوقّعون هذه الإمكانية، وبالتالي يرغبون في آلام التفجّع لأنها تمثّل استثمارهم في خير التفجّع.
قد تثير هذه الرؤية اعتراضًا مفاده أن الثكالى يمكن فقط أن يكونوا مُستَثمرين في آلام التفجّع إذا كانوا ملتزمين بشكل واعٍ بالصالح الأكبر الذي تحققه هذه الآلام، والحاصل ربما أن عددًا ضئيلًا من الثكالى هم من يمكن القول أنهم ملتزمون وعيًا بهدف معرفة الذات، فقليل فقط منهم من ينظر إلى تفجّعه من خلال هذا المنظور، وقليل منهم من يسترشدون بوعي الطريق نحو الهدف، وعليه فإنهم ليسوا مستَثمَرين في آلام التفجّع حسب الطريقة التي ارتأيتها.
لكن تذكّر التمييز السابق بين هدف النشاط وغرضه (القسم 3.6)، حيث أشرت إلى أن المكونات الجزئية المتنوعة للنشاط يمكن أن تكون لها أهداف معيّنة دون أن يظهر الغرض الأكبر من النشاط في هذه الأهداف. الأمر كذلك في حالة التفجّع؛ إن أهداف مكوّنات التفجّع المختلفة، بما في ذلك البحث عن المواجهات المؤلمة مع غياب المتوفّى المعنيّ، لا يجب أن تتصل بالغرض الأكبر الذي عزوته للتفجّع، وهو تحقيق معرفة الذات.
علاوةً على ذلك، لا ينبغي لنا أن نفترضَ أننا نعرف ما هي نوايانا في كل مساعينا البشرية المقصودة، ولا ينبغي أن نفترض أن كلّ نشاط عقلاني مدعّمٌ بسببٍ نفهمه بالتزامن مع مباشرتنا النشاط. لاحظت (آغنيس كالارد) أننا حتى عندما نمارس نشاطًا نتوقّع أن يغيّر حياتنا بشكل كبير -لاحظ أنني اقترحت أن التفجّع الناجح سيغيّر هوياتنا العمليّة إلى حدّ ما- فإننا لا نحتاج إلى التيقّن مسبقًا من سلامة دوافعنا لهذا المسعى. وفقًا (لكالارد): "يمكنك التصرّف بعقلانيّة، على الرغم من معرفتك بأن تصوّرك المسبق للخير الذي تتصرف من أجله قد يكون خاطئًا بعض الشيء"[2]. في مثل هذه الحالات، نتوقّع أننا سنتغير بحيث يمكننا تقدير الأسباب التي دفعتنا نحو هذا النشاط، حتى وإن اتضحت الأسباب عند نهايته فحسب. وهذا هو الحال مع التفجّع؛ حيث نتفجّع على أمل خير لم نعرفه بعد، وبشكل أو بآخر نحن مدفوعون في تفجّعنا بالغريزة. ولأننا كائنات اجتماعيّة تقوم هويّاتها العملية على وجود الآخرين، فإن أنظمتنا العاطفيّة "تُصدم" بموتهم، لكن التفجّع الذي يجسّد هذه الصدمة ليس مشروعًا نقوم به بالضرورة عن سبق إصرار وترصّد، وبهدف واضح ومحدد.
هوامش:
[1]: G. E. Moore, Principia Ethica (Cambridge: Cambridge University Press, 1903), p. 27.
[2]: Agnes Callard, Aspiration: The Agency of Becoming (Oxford: Oxford University Press, 2018), p. 72.