تأتي الرواية الأخيرة للروائية السورية نجاة عبد الصمد بعد خمس روايات هي على التوالي: "بلاد المنافي"، و"غورنيكات سورية"، و"في حنان الحرب"، و"لا ماء يرويها" و"منازل الأوطان"، وهي روايات صورت فيها معاناة الإنسان السوري عموما والمرأة خصوصاً قبل الحرب وبعدها، أما روايتها السادسة التي صدرت بعنوان خيط البندول فتتحدث فيها عن مهنتها كطبيبة نسائية وتتناول معاناة المرأة.
التصقت عبد الصمد بالبيئة التي تنتمي إليها (السويداء)، فهي من مواليد قرية الدويرة في أسرة كادحة انتقلت إلى مدينة السويداء. سافرت لدراسة الطب في الاتحاد السوفياتي ثم تخصصت في التوليد والجراحة. في روايتها "بلاد المنافي" تطرقت إلى الواقع الضيق على الشباب والأسر في منطقة الجنوب السوري مما دفعهم للهجرة من أجل العمل وتحمل الظروف القاسية والغربة، ليجمعوا ما يعينهم على بناء أسرة وإقامة المنزل. وفي روايتها "لا ماء يرويها، التي نالت جائزة كتارا في دورتها الرابعة، تروي معاناة المرأة التي تلخص طبيعة المجتمع الذكوري القاهر والذكر المقهور أصلا والذي يمارس سلطته على المرأة فتقضي حياتها لا ترتوي من ماء الحياة كأنها السويداء التي تعوم على مياه جوفية غزيرة وتعاني من العطش.
أما رواية "غورنيكات سورية" فتناولت الألم السوري في حرب طالت ولم تتوقف إلا وقد استنفذت الأرواح، فأتى الكتاب على شكل لوحات تروي أطيافاً متعددة للألم السوري تتوزع على مناطق عدة وتغطي مساحة البلاد فبدت كأنها ترسم جدارية ضخمة لها مقاربة عمل بيكاسو حين رسم لوحته الشهيرة غورنيكا تخليدا لضحايا القصف الألماني الإيطالي لبلدة غورنيكا في إقليم الباسك عام ١٩٣٧ لمساعدة الجبهة القومية الإسبانية في الحرب الأهلية الإسبانية وهي إذ تضع على الكتاب "مرويات من النافذة الخلفية للوجع السوري" توجز العمل كأن هذه المرويات هي فسيفساء اللوحة الجدارية للألم السوري المؤثرة والتي كتبتها عبد الصمد بالكلمات.
تعود في روايتها "خيط البندول" إلى حكايات وقضايا المجتمع الواقعية الإنسانية، وإلى ما يتعلق بمهنتها كطبيبة، وإلى الأمومة، المفهوم الإنساني الغريزي والعميق لدى الأنثى، ومن خلال تواشج القضايا والمفاهيم ترسم حكايات تستمدها من الواقع وبعضها قد اؤتمنت عليه حتى لا تذهب السير إلى طي النسيان كما تقول عبد الصمد.
وخيط البندول هو لعبة الخيط والمسمار الذي ينوس بين اتجاهين يبدوان متعاكسين، أو بين جهتين كأنه يلم طرفين بعيدين حول مركز واحد وكأنه يشبه عمل الكاتبة التي تنتقل بين اختصاصين مهمين بعيدين عن بعضهما، هما الطب والأدب ولكن كلاهما يبلسم جراح الإنسان.
ولعل عملها كطبيبة منحها القدرة على وصف المهنة بتلك الجمالية والحب والمهارة رغم أنها مهنة قاسية إذ تلامس الألم الإنساني بشكل مباشر في اللحظات الحادة منه، كما منحها قوة المعلومة فأشركت القارئ في قضايا تخصه لكنه بعيد عنها كتاريخ الإنجاب عبر عملية التلقيح الصناعي بالأنابيب، أو ما يسمى طفل الأنبوب، وموضوع تكون الجنين، وفكرة بنك النطاف للشباب الأصحاء، مع الإشارة إلى المغزى العلمي له وهو الحصول على سلالات بشرية خالية من العيوب. وتفرد فصلا لتطلع القارئ على موضوع التلقيح الصناعي وعلم التناسل والاستنساخ وتأجير الأرحام. كما تطلعنا على تاريخ الولادة القيصرية وتاريخ لبس المريول الأبيض، ثم كيف تسلب مهنة الطب الحياة الشخصية للطبيب الماهر أمام الواجب المهني فهو كالغيمة التي عليها أن تمطر فوق كل أرض عطشى.
تخبرنا أيضاً عن معاناة المرأة في الطب إذ كان محرماً عليها ممارسة المهنة في الماضي إلى أن أثبتت جدارتها عبر الطبيبة البريطانية مارغريت آن بالكي التي تخفت باسم خالها فدرست الطب ومارسته حتى وفاتها.
تشبه نجاة التلقيح بولادة قصيدة في ذهن الشاعر حين تقول: "ربما لهذا يطلقون في العلم على النطفة والبويضة اسم الأعراس، طلائع الحياة وهذه الأعراس يموت منها الكثير مثلما تموت ملايين القصائد الضعيفة".
اعتمدت نجاة على أسلوب تعدد الأصوات (البوليفينية) فتناوب السرد على لسان الكاتبة والشخصيات التي كانت أسيرة حكايتها بينما تتناسل الحكايات واحدة من واحدة والقصص من علاقة الشخصيات ببعضها وتأثيرها المتبادل لتقدم لنا واقع الحياة البسيطة والمترعة بالهموم الإنسانية فخيط البندول الذي كان لعبة بأيدي الفتيات ليتنبأ بخصوبتهن صار سردا لسيرتهن، سيرة النساء صانعات الحياة شهلا وجدعة وبنفسج اللواتي حاولن الحياة والحفاظ عليها وعلى خياراتهن التي أراد المجتمع وأعرافه قضمها، ورغم خضوعهن له حاولن التحايل للنجاح بخياراتهن فبنفسج التي استطاعت التعلم والحصول على وظيفة واختيار الشريك /الزوج رمتها الأقدار تحت سلطة الأعراف ممثلة بالجد بعد استشهاد زوجها لترضى بالزواج من أخيه حتى لا تخسر البيت والأسرة التي أسستها مع زوجها الشهيد بينما لم يكن الزوج الجديد إلا ظلا. وهذه العادة أو الظاهرة ما زالت متبعة ليس فقط في الجبل /السويداء بل في أغلب الريف السوري وبعض الأحيان في المدن، خاصة بعد الحرب السورية الطويلة.
وسيرة الأمومة، الغريزة الأصلية في كينونة الأنثى والتي تشكل حجر الزاوية في شخصيتها إذ تربت على ضرورتها للإنجاب، وذلك عبر التاريخ للحفاظ على النوع ورغم الزمن والتاريخ الطويل من الحضارة احتفظت المرأة بهذه الوظيفة الأساسية والتي شكلت لها قيدا جارحاً في بعض الأحيان كما في حالة البطلة نداء المهندسة الناجحة والطموحة وذات الشخصية الواثقة ولكنها حين عجزت عن الإنجاب أوقفت حياتها وصار همها الحصول على طفل.
تتساءل نجاة عبد الصمد هل على جميع النساء أن ينجبن؟ هل تكتمل المرأة بذاتها ولذاتها أم أنها تنقص أنوثة أو قيمة إن لم تنجب؟ تربينا على أننا نريد الأطفال ونسينا أن نسأل أنفسنا لماذا؟
إنه الصوت الصارخ ضد حجب المرأة وذاتها ودورها وخياراتها بالإنجاب وخلف غطاء الأمومة. وصل الأمر بنداء وبعد محاولات حثيثة في طفل الأنبوب انتهت بالفشل ونتيجة العجز واليأس إلى اللجوء إلى يخالف عقلها العلمي والمتعلم وهو الشعوذة.
إنها إشارة أيضا إلى حال الطبقة الوسطى، وهي بيضة القبان في أي مجتمع وتقف وراء تغييره وتطوره وتحفظ توازن. ويشكل المثقفون قوتها فنراهم يعيشون التناقض بين أفكارهم التي يتبنونها وبين الحياة التي يمارسونها ورضوخهم للمفاهيم التقليدية والمتخلفة بل تشبثهم بها في اللاوعي ولهذا ربما يفشلون في تحقيق مشاريعهم. ولعل قضية الإنجاب مثال عن ذلك وما يتفرع عنها من عدد الأولاد ونوع المواليد وتمييز الذكر عن الأنثى وغيرها.
لاتحمل عبد الصمد الرجل المسؤولية فهو ضحية المجتمع في هذه المفاهيم وهذا الواقع كالأنثى وهذا ما أشارت إليه حين قالت: "أمي كانت دائمة الخسارة ولكنني لا أعرف إن كان أبي دائم الربح".
لم تتوقف عبد الصمد عند الجانب الإنساني الذي لامسته من خلال اختصاصها على طريقة نوال السعداوي بل تناولت الخيوط المختلفة لترسم واقع المجتمع الاقتصادي والاجتماعي معا، فعادت إلى المنبت الطبقي للبطل وحالة الاغتراب نتيجة ضيق الحال، وهو الاغتراب الذي استمر مع تجارب الحياة ففي الخدمة الالزامية كان ذاك التناقض بين المشاعر الوطنية للشباب وبين القسوة المباحة بحجة صنع الرجال منهم عبر الذل وامتهان الشخصية والدفع بالشباب إلى ظروف لا إنسانية ضمن هذا الإطار، وهو ما يعيدنا إلى محمد النعاس الذي يتحدث في روايته "خبز على طاولة الخال ميلاد" عن الأسلوب المشابه (في ليبيا) المتبع لصنع الرجال دون النظر إلى ما قد يصيبهم من أمراض نفسية، أو ما يجعل فيهم الذل وقبول الإهانة طبعاً. بينما كان التطوع بالجيش هو خيار الفقراء لتحسين وضعهم المادي واكتساب المكانة الاجتماعية.
صورت عبد الصمد أيضاً حياة أبناء الشهداء المستلبة في مدارس أبناء الشهداء، فهم يعيشون وفق ضوابط وميول وخيارات تدور ضمن دائرة السلطة. وكان صوتها واضحاً خلف صوت الشخصيات ولقد برعت في الأسلوب الأدبي وصياغة الأفكار لهذا كانت قريبة من القارئ ووصلت إليه بسهولة.