[ينشر موقع "أوريان 21" منذ 28 فبراير/شباط 2024 يوميات الصحفي رامي أبو جاموس على صفحته الفرنسية. رامي مؤسس مكتب "غزة برس" الذي يوفر مساعدة وترجمة للصحفيين. في أكتوبر/تشرين الأول 2023، اضطر رامي إلى مغادرة شقته في مدينة غزة بصحبة زوجته صباح وأبنائها وابنهم وليد البالغ من العمر سنتين ونصف بضغطٍ من جيش الاحتلال الإسرائيلي، فلجؤوا إلى رفح، ثم إلى دير البلح، حيث اضطروا إلى عيش منفاهم الداخلي. أدناه ترجمة أحد هذه النصوص إلى العربية].
كنت أتناقش اليوم مع صديقي منذر، الذي يعمل محاميًا منذ حوالي عشر سنوات. كان مثلي يعيش في مدينة غزة وأُجبِر على النزوح عبر المسار نفسه: رفح ثم دير البلح. سألته كيف يرى المستقبل بعد الحرب، وهو سؤال يؤرّقني لأننا عشنا بالفعل العديد من فترات ما بعد الحروب، وخلُصت إلى أنه بعد انتهاء الحرب، هناك دائمًا حرب أخرى.
حدثته عن عام 2014. فبعد العدوان الإسرائيلي الذي خلّف حوالي 2100 قتيلًا، علمت أن عدد القضايا المرفوعة في غزة قد ارتفع. سألت منذر عن أكثر النزاعات القضائية شيوعًا، فأجابني على الفور: "قضايا الإرث". 2100 عدد كبير، وهو ما يعني الكثير من مشاكل الإرث التي ينبغي تسويتها.
عائلات بالكامل مُحيَت من السجل المدني
يوافق عدد الذين قُتلوا في الهجوم السابق عدد من فقدوا حياتهم خلال عشرة أيام فقط في الحرب الحالية، دون أن ننسى الدمار الذي لحق بالقطاع. إن الخسائر البشرية اليوم لا يمكن قياسها بخسائر عام 2014، فنحن نتحدث عن 50 ألف قتيل وعائلات بأسرها شُطِبَت من السجل المدني واختفاء 70% من البيوت والمباني.
يقول لي منذر: "بعد انتهاء الحرب، هناك كارثة أخرى في انتظارنا"، ثم ضرب لي عدة أمثلة عن عائلات بأكملها مُحيَت تمامًا من السجل المدني: "في الأوضاع العادية، ينتقل الميراث بصورةٍ أفقية، أي يرث الأبناء آباءهم. أما الآن فسيجري تقسيمه رأسيًا، بين أبناء الأخوال والأعمام على سبيل المثال. سيكون أمرًا شديد التعقيد". لكن الكارثة الحقيقية في نظره أنه لم تعُد هناك سجلات لتوثيق تلك القضايا. فلأول مرة منذ عام 1948 يقوم الإسرائيليون بحرق سجلات المحاكم، بالإضافة إلى ما يُدعى بـ"الطابو"، أي سجلات الأراضي، والتي تُسجل فيها الملكيات والمباني، وقطع الأراضي على وجه الخصوص.
فجّر الإسرائيليون بصورة ممنهجة مبنى قصر العدل في غزة حيث توجد السجلات القضائية، بالإضافة إلى المبنى الذي يضم سجلات الأراضي. فعلوا ذلك عن عمد، للتنكيل بالمجتمع الغزوي، لتدمير نسيجه الاجتماعي شديد الكثافة. لقد امتنعوا عن فعل ذلك في الماضي كوسيلةٍ للاعتراف ضمنًا بوجود الفلسطينيين، أما الآن فيريدون محو كل دليل على انتمائنا لهذه الأرض. ما يحدث اليوم في غزة غير مسبوق. حتى عندما خسر العثمانيون فلسطين، لم يدمّروا سجلاتها، بل أخذوها معهم إلى تركيا التي أتاحتها للجمهور عام 2022، ولا زالت هناك وثائق أخرى تعود إلى تلك الفترة موجودة في سجلاتنا إلى اليوم. رأى منذر الكثير من تلك الوثائق في قضايا الميراث، "وثائق أصلية بأختام وطوابع وكل ما يلزم".
غياب أي أثر للتعرف على أماكن البيوت
من المؤكد أن جزءًا من هذه السجلات تم رقمنته، لكن الكثيرين سيشككون في صحة تلك الوثائق الرقمية. بالنسبة لهم، الأوراق الأصلية هي الوحيدة التي يُعتدّ بها: من يحتفظ بورقة يمكنه الفوز بالقضية، أما من لا يملك دليلاً ماديًا سيواجه صعوبة كبيرة. ستنشأ العديد من المشاكل بين الأشقاء، سواء أكانوا أبناء أم أعمام أم أخوال، بعد أن فقد معظم سكان غزة دليل ملكيتهم لأراضيهم. يقول منذر أن النسيج الاجتماعي بدأ بالفعل يتغير منذ عام 2014، أما يوم غد فسيشهد ما هو أسوأ من التغيّر، سيشهد كارثةً إنسانية نظرًا للمأساة التي نعيشها اليوم من حيث عدد القتلى وحجم الدمار الذي لحق بغزة.
هناك أيضًا مأساة الأطفال اليتامى. من سيحظى بحضانة من؟ عائلة الأب، أم عائلة الأم؟ وما العمل إذا فقد الأطفال كلا الأبوين؟ وفقًا للأمم المتحدة، يبلغ عدد الأطفال الذين فقدوا إحدى أبويهم من 15 إلى 25 ألف طفل، كما فقدت الكثير من العائلات جميع أفرادها. ذكر لي منذر مثال عائلة خورشيد، عائلة مشهورة في مدينة غزة. كانت العائلة تعمل في مجال النظارات الطبية، وكانوا يمتلكون عدة محلات. اليوم لم يبقَ منهم على قيد الحياة سوى اثنين: الجدة وحفيدة واحدة. ماذا سيحلّ بالميراث؟ وهل يمكن للجدة الاحتفاظ بحضانة حفيداتها؟ سيكون هناك قطعًا الكثير من المداولات القضائية، فالحضانة كانت دومًا تقترن بالمال.
يقول منذر: "أنا على يقين أنه بعد هذه الحرب لن يكون هناك عدالة اجتماعية ولا نسيج اجتماعي، لن يكون هناك سوى المشاكل". أثناء إعادة الإعمار، يجب أن يأتي الأفراد بإثبات على ملكيتهم للأراضي، وسيستحيل ذلك في غياب سجلات الأراضي. فعندما يقوم الجيش الإسرائيلي بتدمير مكان، يمحو كل شيء. رأينا هذا عام 2014، إذ لم يبقَ أي أثر يسترشد به السكان للتعرّف على منازلهم ومبانيهم التي دُمّرت. في حي الشجاعية، لم يعُد أحد يعرف مكان منزله، بعد أن قامت الجرافات بإبعاد الأنقاض لمسافة 300 أو 400 متر. تم تكديس أنقاض حي واحد في نفس المكان. واجه الأهالي الكثير من المشاكل لإعادة بناء منازلهم. حينئذٍ استخدموا خرائط جوجل للعثور على أماكن منازلهم، ثم استعانوا بسجلات الأراضي لتحديد أراضيهم ومساحاتها وحدودها. اليوم اختفى كل شيء، وكذلك الملاك. ما بعد الحرب سيشبه إذًا حربًا أخرى، تلك المرة داخل العائلات. إن من نجوا من الإبادة الجماعية سيكونون سعداء بخروجهم أحياء، لكنهم سيواجهون حربًا أخرى من أجل إعادة الإعمار والحصول على المال وإعادة بناء منازلهم. سيخوضون حربًا لمعرفة من سيرث ماذا، حربًا من أجل التعليم والأطفال، وقبل كل شيء، حربًا للحفاظ على صحتهم النفسية. لا أحد يعلم الحالة النفسية التي سنخرج بها من كل هذا الدمار. لن تعود هناك حياة في غزة.
ما فعله العدوان الإسرائيلي لا يتوقف عند الأرقام والقتلى أو المنازل المدمرة، فتوابع الحرب لن تقل بشاعة، وستكون وطأتها أشد بطريقة ما من الحرب نفسها. لقد اندلعت الحرب منذ أكثر من عشرة أشهر، وفي تقديري ستستمر تداعياتها لأكثر من 10 سنوات. ستدفع أجيال بأكملها الثمن. ستستغرق عملية إزالة الأنقاض وحدها سنوات وسنوات، ناهيك عما سيستغرقه إعادة الإعمار. سيواجه من خرجوا أحياء من تلك المجزرة حربًا أخرى أكثر قسوة.
[تُنشر هذه المقالة بموجب اتفاقية تجمع بين جدلية وموقع أوريان 21].