لم يكتفِ الناس في سوريا من معاناتهم وأوجاعهم اليومية، التي فرضتها ظروف الحرب وما تبعها من أزماتٍ متلاحقة وتردٍ في الواقع الاقتصادي والمعيشي، حتى أتى فصل الصيف، الذي سجل هذا العام ارتفاعاً كبيراً وغير مسبوق في معدلات درجات الحرارة، وكان الأقسى على البلاد منذ عقود، ليزيد من قهر وعذاب الناس، المحرومين من أبسط مقومات الحياة، وليُقلق راحتهم ويؤرِّق نومهم ويحول حياتهم إلى ما يشبه الجحيم، في ظل عجزهم عن توفير أبسط ما يحتاجه الإنسان العادي لمقاومة ظروف الحر الشديد.
في وقتٍ بات فيه تشغيل المكيفات خلال الصيف أمراً طبيعياً وضرورياً يُحرم معظم الناس في سوريا من تشغيل أية وسيلة تبريدٍ، بما فيها مراوح الهواء، في ظل انقطاع الكهرباء التي لا تأتي غالباً سوى أربع ساعاتٍ على مدار اليوم. ومن أراد أن يحصل على نعمة التكييف، وهو أمر بات حكراً على الأثرياء، فسيحتاج إلى مولدات الكهرباء ذات الاستطاعة العالية، والتي تحتاج إلى تكاليف كبيرة نتيجة ارتفاع أسعارها وصعوبة توفير الوقود، أو سيلجأ إلى تركيب ألواح الطاقة الشمسية التي تُكلف عشرات ملايين الليرات.
ولكي يجلبوا بعض البرودة إلى بيوتهم التي تحولت إلى مخزنٍ للحر، لم يبق أمام معظم الناس سوى الاستعانة بالمراوح التي تعمل بواسطة البطاريات، وهو ما حملهم أعباء مادية تفوق طاقاتهم، إذ وصل سعر المروحة العمودية، المزودة بقاعدة متحركة والتي تعمل بواسطة الكهرباء أو البطارية، إلى نحو مليون ونصف المليون ليرة، فيما تخطى سعر المروحة، التي تعمل بواسطة بطارية خارجية، حاجز المليون ليرة، هذا عدا عن سعر البطارية التي ستحتاجها. ورغم أن تلك المراوح قد أصبحت خياراً وحيداً بالنسبة لمعظم الناس، إلا أنها لا تستطيع العمل لوقت طويل، إذ لا تكفي ساعة كهرباء لشحن بطاريتها التي تعمل في أحسن الأحوال لمدة أربع ساعات.
وفي ظل عجز كثير من الفقراء والمُعدمين عن شراء تلك المراوح لجأ الكثير منهم لشراء المراوح المُصنعة بطرقٍ بدائية. وتتكون المروحة من فَراش بلاستيكي بأربع أو خمس شفرات، موصول إلى محرك صغير يعمل بسرعة واحدة، مُثبَّت على زاوية معدنية صغيرة يمكن تعليقها على الجدار. وقد انتشرت تلك المراوح في الأسواق بشكل كبير، ويبلغ متوسط سعرها نحو 70 ألف ليرة، ويمكن تشغيلها بواسطة بطاريات الإنارة البديلة، لكنها، ورغم حجم الإقبال الكبير على شرائها، تفتقد لأبسط شروط الأمان، إذ يمكن أن تتسبب بأذى جسدي إذا تم لمس فَراشها غير المجهز بأي شبك حماية، كما يمكن للفَراش أن يخرج من مكانه خلال دورانه، ويمكن للمحرك أن ينفصل عن القاعدة، نتيجة عدم القدرة على التحكم في سرعة دورانه.
بسطات وعربات لبيع الثلج
في ظل أزمة الكهرباء وشلل عمل البرادات في معظم البيوت بات توفير مياه الشرب الباردة أمراً صعباً بالنسبة لمعظم الناس، وهو ما اضطرهم لشراء الثلج بشكل يومي، ليتحملوا أعباء مادية أثقلت كاهلهم، هذا إلى جانب صعوبة توفير الثلج في كثير من الأحيان، نتيجة عجز كثير من البقاليات والمحلات التجارية عن تأمين التبريد اللازم لحفظه. وفي ظل هذا الواقع انتشرت منذ بداية فصل الصيف، في الشوارع وعلى الأرصفة، بسطات وعربات لبيع قوالب الثلج الكبيرة، حيث يقوم الباعة بتقسيم القالب، الذي يباع كاملاً بأكثر من 25 ألف ليرة، إلى نحو ستة قطع، تباع القطعة، التي تزن نحو كيلو ونصف كيلو غرام، بسعر يتراوح بين خمسة وستة آلاف ليرة. وإذا ما أرادت العائلة أن تستعين بالثلج لتبريد الماء فستحتاج بالحد الأدنى لقطعتين أو لثلاثة أكياس من مكعبات الثلج، هذا في حال تم وضعه في حافظة للبرودة، وهو ما سيكلفها نحو عشرة آلاف ليرة يومياً، أي 300 ألف ليرة شهرياً، ما يعادل راتب موظف حكومي تقريباً.
ورغم أن قوالب الثلج المباعة على العربات والبسطات قد أوجدت حلاً لمشكلة توفر الثلج، إلا أنها قد تكون عرضة للتلوث وغياب الشروط الصحية، فهي غالباً تُلفّ بمواد غير صحية كالخيش والبطانيات، وتتعرض لأوساخ وغبار الشوارع، هذا بالإضافة لعدم معرفة مصادر معظمها، فقد تكون مُصنعة من مياه ملوثة وغير صالحة للشرب، وفي معامل غير مرخصة ولا تخضع لشروط التعقيم والرقابة الصحية، لذا قد تؤثر سلباً على صحة الناس وتكون سبباً لبعض الأمراض، كونها غير صالحة للاستهلاك البشري، إذ كان استخدامها ينحصر سابقاً في تثليج الأسماك وبعض أنواع اللحوم.
برادات عاطلة عن العمل
اعتاد معظم الناس فيما مضى على تخزين وتفريز الأطعمة والمؤونة في ثلاجات بيوتهم، لتوفر عليهم الكثير من الجهد والأعباء الاقتصادية، وتتيح لهم إمكانية تحضير العديد من أصناف الطعام في وقت قصير. ولكن نتيجة ارتفاع درجات الحرارة وغياب الكهرباء تحولت معظم البرادات في بيوتهم إلى "نملية"، ليحرموا من أبسط عاداتهم اليومية التي كانت تغني مطابخهم، ويتخلوا عن عادات المؤونة وتخزين الطعام، فباتوا يطهون كميات قليلة منه خوفاً من تعرضه للتلف، ويكتفون بشراء كميات محدودة من المواد الغذائية كالألبان ومشتقاتها والخضار والفاكهة واللحوم، فيما لجأ البعض لوضع عبوات المياه في برادات الجيران، الذين تتوفر لديهم المولدات الكهربائية أو أنظمة الطاقة الشمسية، واضطر البعض الآخر للعودة إلى الطرق البدائية في تبريد الماء، كوضعه في أباريق الفخار، ولفِّ عبوات المياه بأكياس الخيش والأقمشة الصوفية لتحافظ على برودتها.
وفي محاولة بائسة لبعث الحياة في براداتهم التي أصبحت شبه خاوية، لجأ بعض الناس للاستعانة بقوالب الثلج وعلب المياه المجمَّدة ليضعونها في الثلاجة بجوار الأطعمة والمؤونة، ليحافظوا على صلاحيتها لأطول فترة ممكنة، حالهم كحال الكثير من محلات بيع اللحوم التي باتت تغطي بضاعتها بقطع الثلج الكبيرة، لتحافظ عليها من التلف، في ظل ارتفاع درجات الحرارة، وتكتفي بعرض كميات قليلة منها، نتيجة عجزها عن تشغيل مولدات الكهرباء التي ستُحمِّلها أعباء مادية كبيرة، تجعل عملها غير مجدٍ، وتضطرها لرفع أسعار بضاعتها التي تراجع حجم الإقبال عليها بشكلٍ كبير.
أزمة المياه تفاقم مرارة الصيف
في وقتٍ يحتاج فيه الناس للاستحمام لأكثر من مرة يومياً لمقاومة حر الصيف والتعرق الشديد، ساهم الانقطاع الطويل للكهرباء في خلق أزمة مياه في عددٍ من أحياء العاصمة ومحيطها وبعض المدن الكبيرة ذات الكثافة السكانية العالية، وذلك نتيجة شلل عمل المضخات المركزية، التي تضخ المياه من الآبار والخزانات الرئيسة إلى الشبكات التي تغذي الأحياء والحارات، لتحرم كثيراً من البيوت من وصول المياه إلى خزاناتها، وخاصة في ظل شلل عمل المضخات المنزلية. كما شهدت بعض المناطق عمليات تقنين في المياه، التي يتم وصلها ليومٍ واحد مقابل يوم أو يومين قطع، فيما اقتصرت مدة توريدها إلى مناطق أخرى على أربع ساعات على مدار اليوم وأحياناً ساعتين فقط. وقد أجبر ذلك الواقع الكثير من الناس على نقل المياه إلى بيوتهم بواسطة الغالونات، التي يملؤونها من البقاليات وبيوت بعض الجيران، أو على تعبئة خزانات بيوتهم من سيارات الباعة الجوالين، التي نشطت في الآونة الأخيرة بشكل كبير في عدد من المناطق كمدينة جرمانا، وقد وصل سعر برميل الماء لأكثر من خمسة عشر ألف ليرة، وهو ما شكل عبئاً مالياً إضافياً على الناس العاجزين حتى عن توفير لقمة عيشهم.
معاناة أخرى
ساهمت ظروف النزوح، خلال سنوات الحرب، في ازدياد حجم الكثافة السكانية بشكل كبير في دمشق ومحيطها وأريافها، وخاصة في المدن الكبيرة كجرمانا وصحنايا، وهو ما فاقم حالة الاختناق والاكتظاظ والازدحام البشري، وأدى لتزايد أعداد السيارات الخاصة والآليات ووسائط النقل والتكاسي، لتساهم بدورها بمزيدٍ من الاختناق وتلوث الهواء وازدحام الشوارع، وبالتالي في رفع معدلات درجات الحرارة، لتفاقم حجم المعاناة مع فصل الصيف.
وفي السنوات الماضية ازدادت نسبة البناء العشوائي في محيط دمشق وأريافها بشكل كبير، لتستوعب أعداد السكان القادمين من المحافظات الأخرى، وخاصة في مناطق المخالفات والعشوائيات، وقد ساهم شكل الأبنية العشوائية وغير المنظمة وتقاربها بل والتصاقها ببعضها في قتل مساحات التنفس وانعدام فرص التهوية أمام السكان، لتُطبق الخناق عليهم وتزيد من حرارة المكان.
ونتيجة تزايد الازدحام السكاني وانقطاع الكهرباء اكتظت معظم الشوارع والأرصفة وبعض شرفات البيوت بمولدات الكهرباء، التي يُشغلها السكان وأصحاب المطاعم والمقاهي والمحلات التجارية، ليساهم دخانها الكثيف في تلوث الهواء ورفع حرارة المكان وخلق شعورٍ من الاختناق لدى العابرين في الشوارع، هذا عدا عن ضجيج أصواتها التي تجعجع طوال الوقت لتصدِّع رؤوسهم وتطغى على أحاديثهم.
وفي ظل صعوبة التأقلم مع الحر الشديد داخل منازلهم، لم يبق خيار أمام كثير من الناس سوى الهروب منها إلى الحدائق العامة، المزدحمة بهم ليل نهار، ليفترشوا الأرض تحت ظلال الأشجار، حاملين معهم أطعمة ومشروبات تكفيهم لقضاء أطول وقت ممكن، فيما لجأ البعض إلى دخول المساجد، لقضاء بعض الوقت فيها، وخاصة خلال فترة الظهيرة، لينعموا بالقليل من هواء التكييف وبشرب الماء البارد.
[تُنشر هذه المقالة بموجب اتفاقية تجمع بين جدلية وموقع صالون سوريا].