المرأة الإسرائيلية: الاستعمار والاستغلال والوجه الحسن

المرأة الإسرائيلية: الاستعمار والاستغلال والوجه الحسن

المرأة الإسرائيلية: الاستعمار والاستغلال والوجه الحسن

By : شيخة البهاويد

"إسرائيل في القلب، تحية جلال لمقاتلاتنا الباسلات في القيظ والبرد القارس، تفانيًا في الذود عن الوطن"

هذا ما غرد به حساب إسرائيل بالعربية، والذي يستمر كل فينة وأخرى مثله مثل الحسابات الإسرائيلية الرسمية وغير الرسمية على تأكيد دور الجنديات الاسرائيليات و"بسالتهن" في الحرب على غزة.

لكن لماذا هذا الاستمرار في امتداح الجنديات وتأكيد مشاركتهن؟ ولماذا تتراقص الجنديات يوميًا على حساباتهن في تيك توك وتصوير أنفسهن بطرق مثيرة؟ ولماذا رغم كل محاولات إظهارهن كمقاتلات باسلات أهمل الجيش الإسرائيلي التنبيه المسبق لمجنداته بقدوم ضربة حماس في ٧ أكتوبر؟

"لقد كنا نضحك عليها بسبب المبالغة"

قبل عدة شهور من طوفان الأقصى في 7 أكتوبر التي نظمتها حماس المقاومة كانت المجندات الإسرائيليات على حدود غزة يتابعن تحركات غريبة كما وصفتها للبي بي سي، فرعاة الأغنام اقتربوا من السياج على غير العادة، ومجاميع من حماس يتدربون تدريبات عسكرية غير تدريبات اللياقة الاعتيادية، وهناك قنابل تُزرع بالقرب من السياج، ودوريات مراقبة منتظمة يشاهدنها.

أبلغت المجندات اللاتي يبلغ أغلبهن 19 عامًا رؤسائهن، وكتبن العديد من التقارير لكن لم يلق أحد لهن اهتمامًا، واشتكت احداهن لعائلتها لكن العائلة كما قالت للبي بي سي بعد قتل ابنتهم "لقد كنا نضحك عليها بسبب المبالغة".

تقول إحدى المجندات اللاتي غادرن الخدمة في حدود المستوطنات قبل طوفان الأقصى: "لأننا أدنى الجنود في النظام لذلك تعتبر كلمتنا أقل احترافية".

هكذا تعامل الكيان مع مجنداته اللاتي نبهنه بقدوم أحد أكبر الأحداث في تاريخه، نظر إليهن هو وعائلاتهن باعتبارهن مبالغات، هذا هو ذات الكيان الذي ينشر كل فترة صور مجنداته الباسلات المقاتلات دفاعًا عن "الوطن".

مثل هذه التقارير التي توضح كيف ينظر الاحتلال لمجنداته لا تنتشر مثلما تنتشر صور وأخبار المرأة الإسرائيلية المقاتلة "البطلة".

لكن هل يمكن أن نبني فكرة احتقار الاحتلال لمجنداته على هذا الحدث فقط؟

قواد حارسات السجن

قبل عامين، نشر موقع TRT تقريرًا حول تعرض واحدة من كل أربعة مجندات إسرائيليات للاعتداء الجنسي أثناء خدمتهن الإلزامية، وتقول المجندات بأنهن يشتكين لرؤسائهن في قوة الشرطة والسجون إلا أن أحدًا لا يحرك ساكنًا.

وليس هذا فحسب، فقد نشرت إسرائيل تايمز تقريرًا في نفس العام عن فضيحة من سُمّي بـ"قواد حارسات السجن" وهو ضابط مخابرات إسرائيلي يمارس القوادة على المجندات الإسرائيليات. تقول إحداهن إنه سلّمها لسجين فلسطيني، ليعتدي عليها مرارًا وتكرارًا، وإن الكثير من الجنود والضباط كانوا يفعلون المثل، وحاول جهاز المخابرات إسكاتها حين نشرت قضيتها، إلا أن الفضيحة أدت إلى فتح تحقيق في الكنيست.

وبحسب التقرير، فإنها لم تكن حالة فردية. في عام 2018 اشتكت العديد من المجندات في السجون من إجبارهن على "التفاوض الجنسي" مع السجناء من قبل الضباط أو ما أسموه بـ"حلوى العين" إلا أن قضيتهن أغلقت لعدم وجود أدلة، لكن أحد الضباط بعدها بعام أبلغ رؤساءه بأن ادعاءات المجندات حدثت فعلًا فأعيد فتح القضية وعوقب الضابط المتهم بالإقالة فقط وذلك "لعدم فقدان ثقة الجمهور في الجهاز".

لكن الضابط الإسرائيلي المتهم يقول إنها ادعاءات غير صحيحة فالمجندات عميلات بموافقتهن الكاملة لاستخراج المعلومات من السجناء.

وإن صحت موافقتهن (وهو أمر وارد) فهو برأيي لا يختلف عن القوادة.

إضافة إلى ذلك، فقد انتحرت مجندة إسرائيلية بعد اغتصابها من ضباط إسرائيليين والتغطية عليهم بعد شكواها بحسب صحيفة هارتس الاسرائيلية.

وعلى هذا فالكيان لا يهمش ويحتقر مجنداته عسكريًا فحسب بل واستخدمهن كأداة جنسية سواء للآخرين أو لجنوده "البواسل" فالباسلون للباسلات كما يبدو.

لكن هل اكتفى الكيان بجنسنة مجنداته وراء الأبواب؟

"أن تكون مثيرة لصالح الأمة"

«قيل لنا إن المرأة الجديدة يجب أن تهدف إلى أن تكون مثيرة، في هذا الوضع العسكري الجديد، لصالح الأمة… مما يوحي بأن هذا هو واجب النساء الوطني خلال زمن الحرب…» هذا ما كتبته إيفا بيرغر ودوريت نعمان، في دراستهما «الجميلات المقاتلات: صور المجندات الإسرائيليات في الصحافة منذ حرب لبنان عام 2006» وقد كتبت فوز الجميل مقالًا حول الدور الجنساني للمرأة في جيش الاحتلال الإسرائيلي وقد احتوى على دراسات حول كيفية اختيار النساء في جيش الاحتلال واشتراط معايير جمال محددة كشرط للقبول.

لا أحد ممن يتابع الحرب على غزة عبر مواقع التواصل الاجتماعي إلا وقد مر عليه مقطع فيديو لمجندات إسرائيليات يرقصن أو يأخذن وضعية مثيرة في التصوير، هذه الصورة ليست موجهة لك أيها العربي بل لمجتمع غربي يرى أنه من المستحيل أن تقوم هذه الجميلة بعملية إبادة أو أن تكون هذه المراهقة الظريفة على تيك توك قاتلة أطفال، إنها ليست صورًا عفوية أو فيديوهات تسلية شخصية، إنها عملية منظمة لخلق صورة المرأة الإسرائيلية الحرة اللطيفة المقاربة لقيم الغرب وتكريس فكرة اختلاف المرأة الإسرائيلية عن العربية التي تكرس نفس الأدوات صورتها كمكممة وحزينة ومتوحشة ولا تعيش حياة طبيعية، وهو ذاته ما صرح به الإرهابي نتنياهو بأنها "حرب بين أطفال النور وأطفال الظلام".

دور المجندة الإسرائيلية هي أن تقول للغرب إنها ابنة النور، وقد يتضح ذلك في منشور لإحدى المجندات على ساحل البحر في غزة كتبت فيه أنها لا تصدق بأن الفلسطينيين يملكون هذا البحر الجميل ويذهبون للحرب، وهو تصوير لفكرة رومانسية حول حب الإسرائيليين للحياة وحب الفلسطينيين للموت.

ناهيك عن سيل من الصور الأرشيفية لنساء لبنانيات بالمايهوات على البحر تنشرها الحسابات الصهيونية مرفقة بكلمات مثل "كن هكذا قبل الإرهاب الإسلامي" أو "الحياة قبل حزب الله" وما إلى ذلك، فجسد المرأة لدى هذا المحتل هو ساحة الحرب التي يقاتل بها عدوه، جاعلًا منها "حلوى للعين" لأهداف عسكرية.

يدرك المحتل بأن اللبنانيات ما زلن قادرات على لبس المايوه على البحر، ويدرك بأن النساء العربيات مختلفات وذوات هويات متنوعة كل هوية منها تختلف فيها مساحة المرأة عن الأخرى، لكن هذا لا يهم، الهدف هو المواطن الغربي (الأبيض على الأخص) والذي لا يفقه شيئًا في التنوع الهوياتي لدى العربيات ولا يفهم سوى الصور التي يصدرها له إعلامه، ويبحث عن التصنيف السهل، وغارق في أفكار النسوية البيضاء التي تدعم الاستعمار بحجة تحرير المرأة، ولأن الرجل الأبيض أهم فالآلة الإعلامية الصهيونية تكرس جهدها في التوجه له، لتقول إن نساء النور يحاربن نساء الظلام.

دعنا هنا نؤكد على عدم إنكارنا للكثير من الصعوبات وأدوات القمع الاجتماعية والسياسية التي تواجهها المرأة العربية بدرجات مختلفة، كل بحسب هويتها، ودعنا نتفق بأن العدو يختار ما يصدره للعالم وما يخفيه.

 لكن هل يختلف وضع المرأة الإسرائيلية ويتطابق مع الصورة التي يصدرها الكيان؟

الرئيس المغتصب

عام 2011 حُبس الرئيس الإسرائيلي السابق موشي كاتساف لمدة سبع سنوات بتهم الاغتصاب والتحرش الجنسي لعدة سنوات وعدة نساء بدأت منذ أن كان وزيرًا للسياحة في التسعينيات، واستخدم سلطته لتسريحهن من العمل.

الكيان الصهيوني لا يهمش ويحتقر مجنداته عسكريًا فحسب، بل ويستخدمهن كأداة جنسية سواء للآخرين أو لجنوده "البواسل"، فالباسلون للباسلات كما يبدو

حين يغتصب رأس الكيان موظفاته وإحداهن قالت بأنه اغتصبها في المكتب الرئاسي في القدس، ليس هذا مجرد حدث، إنما نموذج يمثل كيف يرى الكيان النساء، فما زلن حتى وهن مدنيات (نمشيها مدنيات) لسن سوى ألعاب جنسية لرجال هذا الكيان.

حاله حال ما حدث في منتجع إيلات حين اصطف 30 رجلًا بالدور للاعتداء الجنسي على فتاة مراهقة.

في التاريخ البشري كله لم يوجد احتلال واستعمار لم يحتقر المرأة أو يستخدم جسدها كأداة جنسية، ورغم حدوث ذلك في الدول "المستقلة" إلا أنه في الكيانات المحتلة والأنظمة الاستعمارية عملية ممنهجة ومنظمة ومخططة وأي اجتهاد فردي خارج هذه الخطة ليحقق نفس الهدف فهو مرحب به.

فهل هذا يعني بأن القضية هنا أننا أمام رجال إسرائيليين ينتهكون أعراض نساء إسرائيليات مظلومات؟ 

الاحتلال لا جنس له

في أغسطس 2024 نشرت ميدل ايست آي تقريرًا حول اغتصاب سجناء فلسطينيين، كان الاغتصاب يتم من قبل جنود من الرجال وجنديات من الإناث غالبيتهن من المراهقات.

يقول السجين الفلسطيني سالم لمديل ايست آي: "يُثنى السجين على مكتب وتوضع يديه مكبلة أمامه، وكانت الجندية، التي تقف خلفه، تدخل أصابعها وأشياء أخرى في المستقيم، وحين يتراجع، كان الجندي الذي يقف أمامه يضربه على رأسه ويجبره على الانحناء مرة أخرى."

ويذكر سالم بأن العديد من السجناء تعرضوا لهذا ولكنهم يخجلون من البوح بذلك وأن بعضهم عانوا من آلام في البواسير نتيجة الاغتصاب.

يذكرك هذا المشهد بصور الجنديات الأمريكيات وهن يعتدين جنسيًا على سجناء عراقيين عراة في سجن أبوغريب.

هذا هو الاحتلال، الجندي فيه مثل الجندية، مغتصبين معتدين متطابقين في الرغبة في قهر أصحاب الأرض بأشد الطرق إذلالًا.

الجندية الإسرائيلية جزء من المنظومة الاستعمارية، والتي تعتبر بالمفاهيم النسوية منظومة ذات هرمية أبوية ومنهاج بطريركي، ولهذا فأي نسوية تنظر إلى المجندات الإسرائيليات باعتبارهن نساء يجب المحافظة على حقوقهن لمجرد كونهن نساء فهو دعم لمنظومة الاستعمار بأكملها، نعم؛ دعم النسوية للنساء يعني كل النساء، لكن لا يشمل هذا دعم من تهدم منظومة العدل والمساواة والحرية باغتصاب الأرض والعرض واستخدام جسدها وأجساد السكان الأصليين نصرة لكيان الاحتلال، يجب أن لا يُنظر لجنس المحتل ونوعه الاجتماعي بل لكونه محتلًا لا غير.

كانت واحدة من سبل مهاجمة النسويات اتهامهن بازدواجية المعايير حين يتعلق الأمر بالمرأة الإسرائيلية، مثل حملة "أنا أيضًا ما عدا إن كنتِ يهودية" (me too unless you’re a jew) وحملة "صدقوا النساء الإسرائيليات" (believe Israeli women)، وتتهم هاتين الحملتين الإسرائيليتين نسويات العالم بازدواجية معاييرهن لدعمهن حملة "أنا أيضًا" (me too) التي تفضح المتحرشين وبأنها حملة عنصرية لا تشمل اليهوديات والمجندات اللاتي ادعين اغتصابهن من قبل قوات حركة حماس.

الكيان المحتل يعرف جيدًا بأن المسألة ليست عنصرية لكنه كذب وكذب ولم يصدقه الناس، تعرف النسويات من المدارس النسوية المختلفة (عدا النسوية البيضاء الاستعمارية) بأنه من الصعب تصديق هذا الكيان، وأن الادعاءات مسيسة خاصة بعد خروج أول دفعة من الأسيرات الإسرائيليات وتحدثهن مع الإعلام حول التعامل معهن باحترام من قبل قوات حماس وفي الدفعة الثانية مُنعت الأسيرات المطلق سراحهن من التحدث مع الإعلام إلا بعد التصريح لهن من قبل الحكومة الإسرائيلية بشكل يتبين معه أن هناك صياغة يجب تحديدها لهن في تصريحاتهن.

أما النسويات العربيات فاتهمن من قبل صهاينة العرب بالازدواجية بسبب ازدواجيتهن في الدفاع عن كل امرأة تتعرض للتحرش عدا المجندات الإسرائيليات اللاتي صفقن لأسرهن.

المجندة الإسرائيلية لم تؤسر لكونها امرأة بل أسرت لكونها جزء من الجيش المحتل، الجهل في المسألة النسوية يؤدي لهذه الاتهامات المهترئة، النسوية تدافع عن المرأة حين يكون الفعل القائم عليها بسبب جنسها لا بسبب فعلها، الجندية الإسرائيلية أسرت مثل أي جندي إسرائيلي رجل للتفاوض من أجل تحرير الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، وشهدن بأنفسهن عدم تعرضهن للاعتداء الجنسي والتعامل معهن كان بوجود نساء من حركة حماس منهن ممرضات للعناية بصحتهن، أما فيما يتعلق بالاغتصاب فالقاعدة التي لا جدال فيها أن أي اغتصاب يحدث في الحرب مرفوض وجريمة، وأي انتهاك جنسي على امرأة أو حتى رجل ليس مقبولًا مهما كان فاعله مقاومًا أو محتلًا، لكن اتهام المقاومة بالاغتصاب جاء من قبل كيان لا يمكن تصديقه، بينما الأسيرات أنكرت بعضهن ممن تحدثن للإعلام التعرض للاغتصاب حتى أن إحداهن قالت بوضوح إنها كانت تتوقع ذلك ولم يحصل.

إنه من الطبيعي جدًا أن يسوق الكيان المحتل للإعلام الغربي فكرة اغتصاب "الإرهابيين العرب المسلمين" للنساء بسبب الصورة النمطية المكرسة لدى الغرب ولكون الاعتداء الجنسي مسألة حساسة ومخيفة بإمكانها استدرار العطف بشكل كبير وهو ما يكرره الإعلام الغربي طوال الوقت لكن الصدمة الكبرى كانت بأنه رغم ذلك فعدد لا بأس به من الغربيين لم يصدقوا ذلك وظلوا مطالبين بإيقاف الإبادة الجماعية رافعين علم فلسطين في مظاهراتهم وهي المفاجأة غير المتوقعة التي أنتجت الخطة ب: "أنا أيضًا ما عدا إن كنتِ يهودية" واللعب على وتر مظلومية اليهود.

آخر من يمكنه التحدث عن النسوية هي المنظومة الصهيونية والتي ليست فقط منظومة استعمارية تستخدم أجساد النساء كأسلحة وتقتلهن معتبرة أرحامهن حقل ألغام ينتج مقاومين غاضبين، بل وفي داخل تكوين هذه المنظومة تتعنصر نسوية أشكنازية (إسرائيلية من أصول غربية) على نسوية مزراحية (إسرائيلية من أصول شرقية) وتنظر لها ككائن أقل مطبقة القول "إذا كان سيد البيت بالدف ضاربًا فشيمة أهل البيت الرقص".

ختامًا كل ما كتبته هنا محاربة لبروبجندا صهيونية تدعي أن دولة الاحتلال جنة النساء في الشرق الأوسط وبدأ بعض العرب تبني سرديتها، ولأقول إن المرأة الإسرائيلية محتلة وإن لم تحمل السلاح، جزء من منظومة تقهر غيرها من النساء وتحرق قلوبهن على أطفالهن وأزواجهن وعائلاتهن، محتلة وإن ادعت المدنية، محتلة ومجرمة وإن نشرت صورها بشعر منسدل وخصر نحيل، محتلة وتساهم عبر استغلال جسدها بتحقير المرأة والتقليل من مكانتها وتسويقها كأداة جنسية، محتلة ومجندة وجزء من الجيش الاحتياطي، الإسرائيلية تبقى محتلة طالما كانت جزءاً من هذا الكيان والفلسطينية مقاومة وإن لم تحمل سلاحًا وإن هربت ونزحت بأطفالها خشية الموت، مقاومة ولا يمكن مقارنتها لا هنا ولا في أي مناسبة أخرى بمجرمة لا يرف لها جفن لطفل يدهس تحت الدبابة.

"وتذكَّر..

إذا لان قلبك للنسوة اللابسات السواد 

ولأطفالهن الذين تخاصمهم الابتسامة

أن بنتَ أخيك اليمامة

زهرةٌ تتسربل في سنوات الصبا بثياب الحداد"

 "لا تصالح ما ذنب تلك اليمامة لترى العش محترقًا فجأة وتجلس فوق الرماد"

  • أمل دنقل.

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬