الانتخابات النيابية في الأردن: عودة الأحزاب إلى مجلس النواب

الانتخابات النيابية في الأردن: عودة الأحزاب إلى مجلس النواب

الانتخابات النيابية في الأردن: عودة الأحزاب إلى مجلس النواب

By : Camille Abescat

تحظى الانتخابات الأردنية، كغيرها من الأحداث السياسية الجارية في الأردن، باهتمام الصحافة الدولية، لكنها لا تلقى إقبالاً شعبيًا كبيرًا كما يظهر الارتفاع المتكرر في معدلات الامتناع عن التصويت لاختيار نواب الشعب في المجلس. بيد أن نتائج الانتخابات الأخيرة التي عُقِدت في 10 سبتمبر/أيلول 2024 خالفت كل التوقعات.

حيث اتجهت الأنظار بشكل خاص إلى الانتصار الذي حققه حزب جبهة العمل الإسلامي، الذراع السياسي لجماعة الإخوان المسلمين، بفوزه بـ31 مقعدًا من إجمالي 138 مقعدًا، وهي نتيجة غير مسبوقة في تاريخه، مما أعطى للأردنيين انطباعًا بأن الانتخابات كانت “نظيفة” تلك المرة، أي لم تتلاعب السلطة بنتائجها.

وإذا أضفنا إليها المقاعد التي حصلت عليها الأحزاب الأخرى، يكون إجمالي عدد النواب الحزبيين في المجلس الجديد 104، بينما لم يبلغ عدد النواب الحزبيين في المجلسين السابقين سوى 24 نائبًا (في 2016) و12 نائبًا (في 2020).

ثلاثة تعديلات متعاقبة في قانون الانتخابات

يصف الباحث خوسيه سيرو مارتينز الخطاب الرسمي للملك والحكومة الأردنية تجاه الأحزاب السياسية بـ“موسيقى تصويرية لا نهاية لها تصاحب السياسية الأردنية”. فمنذ بداية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، توالت دعوات الملك عبد الله الثاني إلى تعزيز دور الأحزاب في المشهد السياسي، وهو الخطاب الذي تم تكثيفه منذ اندلاع احتجاجات عام 2011. وفي إحدى أوراقه النقاشية التي بدأ نشرها في عام 2012، أوضح الملك أن الأولوية ستكون لتطوير “الأحزاب السياسية الوطنية (...) القادرة على حصد أغلبية أصوات المواطنين”. وفي حين جعلها تبدو جزءًا أصيلاً في عملية التحول الديمقراطي - دون الإشارة إلى حقيقة حظر الأحزاب منذ عام 1957 إلى عام 1992 وإلى أن بعضها لا يزال يخضع للقمع السياسي - أكد الملك على ضعف التنظيمات الحزبية وسلط الضوء على الطبيعة التقدمية لهذا التحول المنشود.

يهدف هذا الخطاب الرسمي إلى الاستجابة للمطالب التي قدمتها المعارضة السياسية منذ صدور نظام الانتخاب لعام 1993، والذي لم يكن في صالح الأحزاب السياسية. حيث تم استبدال نظام الانتخاب بالقائمة بنظام الصوت الواحد في الدائرة متعددة التمثيل (الملقب بـ نظام “رجل واحد، صوت واحد”)، وذلك لمنع حصول أحزاب المعارضة على أغلبية المقاعد في البرلمان كما حدث عام 1989 وفي الخمسينيات. بعبارةٍ أخرى، في حين صوت الناخبون في عام 1989 لعدد من المرشحين يساوي عدد المقاعد الشاغرة في دائرتهم الانتخابية، لم يعُد لديهم سوى صوتٍ واحد منذ عام 1993. أدى ذلك التعديل إلى استخدام الناخبين هذا الصوت لدعم أحد أفراد قبيلتهم أو حاشيتهم، أي وسيط يسهل الوصول إليه، وليس لدعم مرشحٍ بناءً على أيديولوجيته السياسية. وقد أدى هذا النظام الانتخابي تدريجيًا إلى تهميش القوى السياسية في المجلس. ففي عام 2010، لم تكن القوى السياسية تحتل سوى 10% من مقاعد المجلس، وهو ما دعا الغالبية العظمى من النوّاب إلى تصدير أنفسهم كمستقلين.

كانت المطالبة بنظامٍ انتخابي جديد أحد أهم مطالب المعارضة أثناء احتجاجات عام 2011، واستجاب لها الملك بأن وعد بالانتقال التدريجي إلى حكومةٍ برلمانية يُعيَّن فيها رئيس الوزراء من قبل ائتلاف الأغلبية.

وقد تم تعديل قانون الانتخاب ثلاث مرات بين عامي 2013 و 2022. حيث نص تعديل عام 2013 على تخصيص 27 مقعدًا (من إجمالي 150) للدائرة الانتخابية العامة، لكن العديد من الأحزاب أعلنت مقاطعتها لتلك الانتخابات، مثل حزب جبهة العمل الإسلامي وعدة أحزاب يسارية. أما تعديل عام 2016، فقد وضع حدًا لنظام الصوت الواحد واستبدله بنظام القائمة النسبية المفتوحة على مستوى الدوائر المحلية. وقد حصل المرشحون الحزبيون في الانتخابات التي عُقدت بعد عدة أشهر من التعديل على 24 مقعدًا فحسب من إجمالي 130 مقعدًا (18.4%)، من بينها 10 مقاعد لحزب جبهة العمل الإسلامي و5 مقاعد لمرشحين متحالفين معه. وقد أتت نتائج اقتراع عام 2020 أكثر إحباطًا، إذ لم ينجح سوى 12 مرشحًا حزبيًا في الفوز بمقاعد (9.2%)، من بينهم 10 مرشحين من حزبي جبهة العمل الإسلامي والوسط الإسلامي.

وفي مطلع عام 2022، صوت مجلس النواب على تعديلٍ جديد في قانون الانتخابات، نص على أن يكون نظام التصويت الجديد مختلطًا، يتم بموجبه تقسيم المملكة إلى 18 دائرة انتخابية محلية يخصص لها 97 مقعدًا وفقًا لنظام القائمة النسبية المفتوحة، وتخصيص 41 مقعدًا للدائرة الانتخابية العامة وفقًا لنظام القائمة النسبية المغلقة. وتقتصر القوائم المترشحة في الدائرة العامة على القوائم الحزبية، خلافًا لقوائم الدوائر المحلية. ومن المقرر أن تزيد نسبة المقاعد المخصصة للأحزاب في الانتخابات النيابية القادمة من 41 مقعدًا إلى 69 ثم إلى 90 مقعدًا. وقد كرر رئيس اللجنة القانونية النيابية عبد المنعم العودات الشعار المرفوع منذ أكثر من 10 سنوات، مؤكدًا أن هذا القانون “سيمضي بالأردن نحو حياة حزبية فاعلة ويعيد إلى الأحزاب دورها المؤثر في الحياة السياسية”.

نشأة تنظيمات سياسية جديدة

ولكن ما هو الوضع حقًا اليوم؟ قبل أن نتطرق إلى النتائج، من المهم بمكان أن نوضح أن قانون الانتخابات الجديد أتاح للأحزاب الظهور أثناء الحملات الانتخابية، بينما كان العديد من المرشحين في السابق يقرّون بـ“إخفاء” انتمائهم الحزبي عن ناخبيهم. حيث كان البعض يفضل عدم وضع اسم وشعار الحزب على ملصقاتهم الدعائية خشية أن يفقدهم ذلك العديد من الأصوات. أما حزب جبهة العمل الإسلامي فكان يشكل استثناءً من تلك القاعدة، إذ يرى مرشحوه أن اسم الحزب يمكنه مساعدتهم على كسب الأصوات.

وإذا كان إخفاء الانتماء الحزبي قد استمر أثناء انتخابات عام 2024، خاصةً بين مرشحي الدوائر المحلية، فإن الأحزاب التي اضطرت إلى الإفصاح عن نفسها من أجل جمع الأصوات لقوائمها المطروحة على مستوى الدائرة العامة، قد عادت إلى الفضاء العام من خلال الحملات الدعائية. فبالإضافة إلى الملصقات المنتشرة في كل مكانٍ تقريبًا، كان مرشحو ونشطاء الأحزاب متواجدين في الشارع لتوزيع المنشورات التي تتضمن برنامج الحزب أو اسم المرشح. كما نظمت الأحزاب مؤتمرات انتخابية في مختلف الدوائر. وبالنسبة للأحزاب الجديدة التي تأسست منذ صدور قانون الانتخابات الجديد، مثل أحزاب “الميثاق الوطني” و“إرادة” و“عزم”، والتي لم يكن الجمهور يعرفها قبل عدة أشهر، كان التحدي يكمن ببساطة في أن تصنع لنفسها اسمًا.

طفرة جبهة العمل الإسلامي

لم تؤتِ الوسائل اللوجستية التي استخدمتها الأحزاب الثمار المتوقعة، بل يظل عدد المقاعد التي حصدتها تلك الأحزاب الجديدة على مستوى الدائرة العامة محدودًا في واقع الأمر. على سبيل المثال، لم يفُز كل من “الميثاق” و“إرادة” سوى بأربعة وثلاثة مقاعد من الـ41 مقعدًا المخصصين للأحزاب، وكثيرًا ما يتم تصوير هذين الحزبين اللذين يرأسهما وزيران سابقان كحزبين تأسسا بواسطة نخب اقتصادية وسياسية مدعومة من السلطة. بيد أن المقاعد التي حصداها على مستوى الدوائر المحلية مكنتهما من تعويض تلك الخسارة، بفضل السمعة التي يتمتع بها نوابهما في تلك الدوائر، حيث حصل “الميثاق” على 21 مقعدًا في مقابل 19 مقعدًا لـ“إرادة”.

سيؤثر وصول 31 نائبًا من حزب جبهة العمل الإسلامي على الحياة البرلمانية. فإذا كانت السنوات الأخيرة قد أثبتت أن البرلمان يتم تجاوزه بشكل منهجي حين يتعلق الأمر بالقرارات الخاصة بسياسة الأردن وعلاقاته الخارجية (لاسيما مع إسرائيل)، فمن المتوقع أن يكون للنواب الجدد رأي مسموع فيما يخص القضية الفلسطينية والقمع السياسي

كما أتت النتائج مخيبة للآمال لأحزاب اليسار المشاركة في الانتخابات، مثل الحزب الشيوعي وحزب الوحدة الشعبية الديمقراطي والحزب المدني الديمقراطي، والتي لم تفُز بأي مقاعد في الدائرة العامة، وهو ما يعكس من جديد ضعف قدرتها على الحشد. وقد حاولت تلك الأحزاب تكوين ائتلاف قبل بدء الحملات الانتخابية، لكن المفاوضات انهارت أثناء الاتفاق على تحديد ترتيب المرشحين في القائمة.

وعلى العكس من ذلك، شكلت نتائج تصويت العاشر من سبتمبر/أيلول نجاحًا حقيقيًا لحزب جبهة العمل الإسلامي الذي حصد 17 مقعدًا من إجمالي 41 مقعدًا مخصصة للأحزاب، بالإضافة إلى 14 مقعدًا حصل عليها الحزب على مستوى الدوائر المحلية، ليكون مجموع نوابه في البرلمان الجديد 31 نائبًا (من بينهم 8 سيدات من إجمالي 27 نائبة منتخبة). فبحصوله على ما يقرب من نصف مليون صوت لقائمته على مستوى الدائرة العامة، أكد الحزب على قدرته على الحشد والتعبئة خارج معاقله الانتخابية المعتادة، وهي الدوائر الحضرية في عمان والزرقاء. كان نصرًا مفاجئًا للجميع، حتى أعضاء الحزب أنفسهم. تظهر تلك الانتخابات إلى أي مدى يظل حزب جبهة العمل الإسلامي الوحيد المعروف لدى الناخبين، والقادر على حشد وتعبئة الناخبين دون الاعتماد على صيت مرشّحيه فحسب.

يمكن أيضًا قراءة تلك النتائج بوصفها ثمار التحول الذي بدأه الحزب منذ عدة سنوات لتوسيع قاعدة ناخبيه. في عام 2016 على سبيل المثال، تخلى الحزب عن شعار “الإسلام هو الحل” لصالح شعار “نهضة وطن-كرامة مواطن”. وفي انتخابات عامي 2016 و2020، كوّن الحزب “التحالف الوطني للإصلاح” مع مرشحين مستقلين، من بينهم مرشحون مسيحيون.

رهان فلسطين

يحظى اليوم الحزب بتقدير العديد من الناخبين، لكونه يتألف في نظرهم من شخصيات سياسية نزيهة، على عكس النواب الآخرين الذين غالبًا ما يتم النظر إليهم باعتبارهم فاسدين. وهناك قطاع آخر من الناخبين الذين أقبلوا على الحزب نظرًا لمعارضته للقمع السياسي الذي تمارسه السلطات الأردنية، ومن أمثلته قانون مكافحة الجرائم الإلكترونية الجديد (2023) الذي لاقى رفضًا شديدًا على المستوى الوطني. كما اختار الحزب ترشيح ناصر النواصرة، رئيس نقابة المعلمين السابق التي تم حلها عام 2020 وتعرض أعضاؤها للتنكيل الشديد.

من الضروري قراءة نتائج حزب جبهة العمل الإسلامي على ضوء الإبادة الجماعية الدائرة في قطاع غزة. تشكل القضية الفلسطينية وقضية العلاقات الأردنية الإسرائيلية إحدى القضايا المحورية التي شغلت نواب الحزب في الدورة البرلمانية السابقة. حيث عارض النواب بشدة توقيع اتفاقية الغاز بين الدولتين عام 2016. ومنذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، شارك الإخوان المسلمون في تنظيم العديد من الفعاليات والمسيرات لمناصرة الفلسطينيين بجانب أحزاب أخرى ونشطاء من خلال “الملتقى الوطني لدعم المقاومة”.

كانت فلسطين والأحداث الجارية في غزة جزءًا محوريًا من حملتهم الانتخابية، وفي مؤتمراتهم الانتخابية العديدة، أكد مرشحو وأعضاء الحزب على دعمهم للمقاومة الفلسطينية وإدانتهم للعلاقات التي تقيمها المملكة مع إسرائيل، والمستمرة بفضل تابعية الأردن للولايات المتحدة الأمريكية. وقد أدى دعمهم للسائق ماهر الجازي، الذي أردي قتيلاً على الحدود مع إسرائيل عقب اغتياله ثلاثة جنود إسرائيليين قبل أيام من التصويت، إلى تعزيز صورتهم كمدافعين شرسين عن القضية الفلسطينية.

ضمانات السلطة

وبذلك يتكون مجلس النواب الجديد من 104 نواب ينتمون إلى 10 أحزاب سياسية من إجمالي 138 نائبًا، أي 76% من أعضاء المجلس. وعلى سبيل المقارنة، لم يشكل النواب من ذوي الانتماءات الحزبية في المجلس المنتخب عام 1989 سوى 46% من المجلس، مقارنةً بنحو 6,2% فقط في عام 1997. ونتيجةً لذلك، كان لزامًا على الأحزاب المختلفة أن تعمل على تشكيل كتَلٍ برلمانية ـ تتألف في غالبيتها من نواب مستقلين حتى يومنا هذا. ولا تزال التحالفات المستقبلية غير واضحة المعالم، قد يرتكز بعضها على أسس أيديولوجية أو برامجية. سيكون من المثير للاهتمام أيضًا مراقبة ما إذا كانت الأحزاب حديثة النشأة ستتمكن من الحفاظ على استدامتها بمرور الوقت، وإضفاء الطابع المؤسسي على العلاقات بين ممثليها المنتخبين وقادتها، وفرض شكل من أشكال الانضباط على أعضائها فيما يخص آلية التصويت. فإذا كان الأمر كذلك، من المرجح أن تتطور آليات التفاوض والتحالف بشكل كبير عند التصويت على مشروع قانون مقارنةً بالمجالس التشريعية السابقة، حيث كان النواب عادةً ما يضطرون إلى إقناع زملائهم كلٌّ على حدة للحصول على أصواتهم سواء بالرفض أو الموافقة على النص المطروح.

كما سيؤثر وصول 31 نائبًا من حزب جبهة العمل الإسلامي على الحياة البرلمانية. فإذا كانت السنوات الأخيرة قد أثبتت أن البرلمان يتم تجاوزه بشكل منهجي حين يتعلق الأمر بالقرارات الخاصة بسياسة الأردن وعلاقاته الخارجية (لاسيما مع إسرائيل)، فمن المتوقع أن يكون للنواب الجدد رأي مسموع فيما يخص القضية الفلسطينية والقمع السياسي، خاصةً أثناء جلسات استجواب الحكومة.

ومع ذلك، كان التعديل الانتخابي لعام 2022 مصحوبًا بضمانات وضوابط معينة، في إشارة إلى أن النظام الملكي ربما كان يتوقع مثل هذه النتائج. على سبيل المثال، أُقِرّ في العام نفسه تعديل دستوري يقلّص من إمكانية إقالة النواب للحكومة. إذ كان يُشترط في السابق جمع 10 توقيعات فحسب على مذكرة حجب الثقة عن الحكومة وتقديمها إلى المجلس، لكن الأمر بات يتطلب الآن جمع توقيعات 25% من أعضاء المجلس – ولا يمثل نواب حزب جبهة العمل الإسلامي اليوم سوى 22.5% فحسب من إجمالي النواب. كما تجدر الإشارة إلى أن النواب لم يتم استشارتهم مرة أخرى لاختيار رئيس الوزراء الجديد كما ينص الدستور، عقب استقالة بشر الخصاونة بعد أيام قليلة من الانتخابات، وذلك خلافًا لما يعِد به الملك منذ عام 2011.

على الرغم من اللجوء المتكرر إلى القمع السياسي ضد النشطاء والمعارضين السياسيين، فإن نتائج هذه الانتخابات الأخيرة تكشف عن مشهد سياسي تنافسي نسبيًا، والذي أصبح من جديد مشهدًا استثنائيًا للغاية في العالم العربي. ومع ذلك، فإن معدل المشاركة المنخفض (32%) يظهر أن الأردنيين لا يثقون بالمؤسسة النيابية ولا بالإصلاحات السياسية التي تدفع بها السلطات. وسوف تحدد السنوات الأربع المقبلة ما إذا كان النواب المنتخبون حديثًا سيتمكنون من استعادة شكل ما من أشكال الثقة.


[ترجمة دينا علي عن الفرنسية. يُنشر هذا المقال بالتعاون مع برنامج "الشرق الأوسط وشمال أفريقيا" التابع لـ"مركز نوريا البحثي" المستقل].

[تُنشر هذه المقالة بموجب اتفاقية تجمع بين جدلية وموقع أوريان 21].

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • Municipal Debt and Financial Dependence in Jordan: The Case of Zarqa

      Municipal Debt and Financial Dependence in Jordan: The Case of Zarqa

      The political system in Jordan features 101 municipalities. More than half of Jordan’s municipalities are currently experiencing an acute deficit and concomitant high degree of indebtedness. In 2017, the total municipal debt amounted to 130 million dinars. Many municipalities spend most of their budget on municipal employees’ salaries, which highly restrains their scope of action in the face of indebtedness. Zarqa, the second most populated city after Amman, is a case in point.

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬