"قصصي القصيرة عبارة عن ظلال ناعمة أطلقتها في الدنيا، آثار خفيفة خلفتها ورائي. أتذكر جيداً أين كتبتُ كل واحدة منهنّ، وكيف شعرتُ حين فعلتُ ذلك. القصص القصيرة بالنسبة إلي كعلامات الإرشاد". هذا ما يقوله هاروكي موراكامي في وصفه لقصصه القصيرة.
في مجموعة علي جازو القصصية "قصص بحجم حبة كرز" الصادرة حديثاً عن خان الجنوب 2024، تقرأ قصصاً قصيرة جداً، لا تتجاوز الصفحة أو الصفحة والنصف، بيد أن هذه القصص لوحات مكثفة، جريئة لكنها هادئة، تأتي نهايتها لا لكي تعطي أجوبة بقدر ما تفتح الباب أمام تساؤلات الضياع الهوية والذاكرة و العدالة. ربما كان الإدهاش الصادم إحدى أهم سمات هذه المجموعة.
تحضر هذه اللوحات القصص لتشكل لوحة فسيفسائية تمتد من عامودا إلى دمشق، في اغتراب يعيشه الراوي بين قرية صغيرة وقاعة محكمة، وإذ يبدو المكان والزمان، في بعض القصص مغيباً، إلا أن المكان يفرض ظلاله وتشي القصص بزمان ضائع ونوستالجيا لا تني تظهر في القصص التي تتناول ذكريات الراوي. تشمّ رائحة البشر المتعبين وترى أياديهم المعروقة المتشققة جراء الحياة القاسية. سبق لمحمود درويش أن قال في إحدى قصائده التي أهداها لسليم بركات: "ليس للكردي سوى الريح"، هكذا سوف تتلمس ارتباك الهوية وعدم التحقق وأزمة اللغة كما في قصتيّ "صباح التلميذ، يوم طه". لا يتحدث علي جازو فيهما بوضوح عن الاستبداد والظلم، بل يجعلك تلمس انعكاس هذا الاستبداد في تحريم استخدام اللغة الكردية من دون أن يلقي خطباً أو شعارات، تنساب قصصه بهدوء وتحفر عميقاً في ذاكرة القارئ.
يستخدم علي جازو الرمز والإيماء في قصصه، ولا تخلو من شعرية مفرطة في بعض الأحيان كما في قصة "اللمسة" و "إشارة صغيرة". يركز على تفصيلة عابرة لتغدو قصة مستقلة غارقة في الرمزية تارة وتارة أخرى واضحة مثل طلقة مسدس. يغير لغته السردية بين قصة وأخرى، وكلما تقدم القارئ بقراءة القصص يشعر وكأنه يمشي فوق رمال متحركة في تدفقها السردي القصير والغريب.
يعود الراوي بذاكرته إلى تلك الصباحات الجميلة الملونة بألوان السكاكر ليرثي طفولة بعيدة، كانت الحياة فيها رخية وبسيطة كما في قصة "صباحات السكاكر الملونة، وتركز بعض القصص على احتفاء الكردي بالحياة وعشقه الفرح والألوان على الرغم من قسوة ما يعانيه، واضطرار هذا الكردي للقيام بمهن شتى حتى يوفر حياة لا تشبه الحياة. وثمة شعور كبير بالفقد ينزّ من بعض القصص كما يروي لنا في قصة "طفلة في عامها الرابع".
تظهر "عامودا" بوصفها الفردوس المفقود بالنسبة إلى الراوي، عامودا "موسكو الصغرى" كناية عن كثرة أعداد الشيوعيين فيها، ووجود المكتبات ودور النشر والترجمات والسينما، ويروي لنا قصة احتراق سينما شهرزاد وموت أعداد كبيرة من الأطفال في ذلك الحريق، كما أنه يعرج على المهرجانات الثقافية فلا يخفي سخريته منها ومن المنظمين لها.
تكاد تغيب الحدود بين المتخيل والواقعي في بعض القصص، وعلى سبيل المثال، قصة "عينان مغلقتان" و"سمكة قلب الرجل الصامت" حتى يحار القارئ ما الذي يتكلم عنه الراوي؟
لا تغيب فكرة الخراب الذي طال منظومة القضاء في سوريا، وتفسُّخ فكرة العدالة نفسها كما يروي في قصة "القاضي كلب لاحم" و "في قوس المحكمة" و "المحامي المجدور والمسدس"، ويعرّج على الضياع والبحث عن الذات الذي يعانيهما أبناء المناطق البعيدة في العاصمة، وكذلك الفوارق الطبقية الفاقعة التي تظهر بوضوح في العاصمة بين عساكر وفلاحين وبين الذين اعتلوا المناصب وأصبحوا نواباً للشعب.
هكذا يجلس الراوي ويراقب الحياة فيقتنص منها مشاهد تصلح لتكون قصصاً قصيرة تبدو كأنها صغيرة وخفيفة، إلا أنها شهية مثل الكرز، يتخيل الفردوس على شكل مكتبة يقضي ليله فيها بالمطالعة، شأنه شأن بورخيس الذي يتخيل الجنة على شكل مكتبة.
علي جازو صوت مغاير في القصة القصيرة السورية، وقصصه لا تعبر في ذاكرتك من دون أن تخدشها، وتتركك شارداً تتأمل ما جرى في هدوء مؤلم وحزين.