(الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2024)
جدلية (ج): كيف تبلورت فكرة الكتاب وما الذي قادك نحو الموضوع؟
عبد الرحمن الإبراهيم (ع. أ.): تبلورت فكرة الكتاب في زمن الربيع العربي ٢٠١١ خصوصا مع بداية الحراك السياسي في الكويت. في هذه الفترة أثير جدل بين المثقفين حول جذور الديمقراطية في التاريخ المحلي الكويتي و صار الصراع الفكري السياسي بين قائل بأن التجار والطبقات العليا في المجتمع الكويتي هم السبب في حصول الكويتيين على حقوقهم السياسية وبين قائل بأن المجتمع ككل هو الأساس في ذلك. بعد العودة للأدبيات المكتوبة عن تاريخ الكويت وجدت أن هذه الأدبيات في الغالب تحصر الصراع السياسي في الكويت بين فئتي الشيوخ والتجار بتعميم مخل بالواقع والسياق التاريخي ومن هنا بدأت الرحلة النقدية في البحث عن الأصوات التي هُمشت أو أُسكتت في التاريخ الكويتي الحديث.
(ج): ما هي الأفكار والأطروحات الرئيسية التي يتضمنها الكتاب؟
(ع. أ.): يحاول الكتاب إبراز دور القوى المرجّحة كإطار تحليليّ جديد لتاريخ الكويت يهدِفُ هذا الإطار إلى إبراز دَوْرِ المُهَمّشين السياسي والثقافي الذي أغفلتْهم الدّراسات الأكاديمية السّابقة. حيث لم يول المؤرخون اهتماماً كافياً بدراسة دور المجموعات الاجتماعية المختلفة في الأحداث السّياسيّة في الكويت قبل الاستقلال، على الرغم من أنّهم كانوا يشكلون غالبية سكان الكويت خلال تلك الفترة. وكان من بين هذه المجموعات على امتداد تاريخ الكويت علماء الدَّين والغواصين والقوى العاملة والبدو وأهل القرى والشّيعة (العرب والعجم) والمثقفين. إنَّ الرّواية التّاريخية السّائدة تصف هذه الجماعات كجماعات معزولة عن الحياة السّياسيّة وجوانب المجتمع الأخرى لكن في حقيقة الأمر هذه الجماعات كان لها دور محوري في التاريخ المحلي الكويتي.
مصطلح القوى هنا يشير إلى القدرة على تغيير المشهد السّياسي والتَّأثير فيه بفاعلية خارج إطار القوتين الرئيستين في التّاريخ الكويتي هذه القدرة قوتها وضعفها تختلف باختلاف الفترات الزمنية والعوامل المؤثرة المصاحبة لها مثل الهجرات وكذلك تبدل النمط الاقتصادي والأوضاع السّياسيّة وعوامل أخرى سيناقشها البحث؛ أما مصطلح مرجّحة تتضمن مفهوم الحركة والتقلب بين قوتين بسبب قوة خارجية أو داخلية. وتجدر الإشارة هنا إلى أن كلمة المرجّحة لا تشير إلى الوزن، ولكنها تشير إلى الميل. ومن ناحية أخرى، تشير كلمة قوى هنا إلى نفس فكرة الحبل، الذي يقوى بخيوطه، والذي من شأنّه أن يتأرجح ويتمايل بين قوتين رئيستين، مما يؤدي في النّهاية إلى تأرجح القوة نحو إحداهما، ولا يمكن أن يحدث هذا التقلب إلا في وجود قوة أخرى لا يمكن أن يحدث التوازن بدونها.
(ج): ما هي التحديات التي جابهتك أثناء البحث والكتابة؟
(ع. أ.): التحديات كثيرة وكبيرة لعل أبرزها هو عدم القدرة على دخول الأرشيفات المحلية سواء كانت حكومية أو شخصية والسبب أن الدخول لمثل هذه الأرشيفات مرتبط بمدى توافق أفكارك البحثية مع أفكار القائمين على الأرشيف وفي الغالب هذه الأرشيفات تكون رؤيتها متناغمة مع التاريخ الرسمي للدولة بحيث لا تسمح لمن يحاول تحدي هذه الرواية بالاطلاع على الوثائق بشكل سهل وسلس. من التحديات كذلك ما يتعلق بالتاريخ الشفهي فقد كان عدم رغبة الكثير من كبار السن الذي شهدوا بعض الأحداث التي تناولها للكتاب للإدلاء بأفكاركم وشهادتهم حول ما عاصروه وعلى الرغم من استجابة بعضهم إلا أنني واجهت مشكلة مثلا في مقابلة بعض كبار السن من الطائفة الشيعية أو من بعض أبناء التجار الذين لم يوافقوا على الأسئلة.
(ج): كيف يتموضع هذا الكتاب في الحقل الفكري/الجنس الكتابي الخاص به وكيف سيتفاعل معه؟
(ع. أ.): ربما يكون الكتاب يندرج تحت الكتابة النقدية في التاريخ الخليج والكويت حيث أن مثل هذه الكتابات النقدية في التاريخ الخليجي لم تكن منتشرة إلا في استثناءات مثل كتابات خلدون النقيب ومحمد جابر الأنصاري وعبدالله العثيمين على سبيل المثال لا الحصر وهذا الكتاب بنسختيه العربية والإنجليزية ربما يكون تذكير للمشتغلين في هذا الحقل بضرورة نقد التاريخ الرسمي ومحاولة الكتابة بشكل مختلف قائم على المنهجيات العلمية التي تتحدى الكتابات الموجودة. أتمنى أن يكون التفاعل علميا مع أفكار الكتاب كما أتمنى أن تنتقد أفكار الكتاب وينتقد الإطار التحليلي "القوى المرجحة" ويبنى على هذه الفكرة وتناقش فالمعرفة لا تبنى إلا بالنقد والنقاش والتحليل.
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الفكرية والإبداعية؟
(ع. أ.): الكتاب في أساسه هو رسالتي للدكتوراه ولذلك أعتبره حجر أساس في مسيرتي العلمية والتي فتحت لي أبوابا علمية ومعرفية كثيرة ساعدتني على التفاعل مع أفكار أعمق والتواصل مع باحثين جادين وعرفت الجمهور العربي على كتاباتي ولذلك هذا الكتاب سيبقى بالنسبة لي ولدا مدللا.
(ج): من هو الجمهور المفترض للكتاب وما الذي تأمل أن يصل إليه القراء؟
(ع. أ.): المعرفة من وجهة نظري ليست حكرا على جمهور فجمهور الكتاب كل من هو مهتم بدراسات الخليج بشكلها العام والكويت وتاريخها بشكل خاص ولذلك ما أرجوه أن يصل الكتاب لكل مهتم بموضوعه وأن يتفاعل معه القراء بالنقد والبناء على أفكاره.
(ج): ما هي مشاريعك الأخرى/المستقبلية؟
(ع. أ.): اهتماماتي البحثية توسعت عن فكرة القوى المرجحة وقد نشرت مقالات نقدية لتاريخ الخليج وساهمت هذه الكتابات في بلورة فكرة كتاب أعمل عليه حاليا وآمل أن يرى النور في بداية ٢٠٢٧ يتعلق بالتأصيل الاصطلاحي والمنهجي للتاريخ الهامشي والمهمش والمسكوت عنه خصوصا مع ظهور العديد من الكتابات باللغة العربية التي تتعامل مع مثل هذه الأفكار بنوع من التعميم والسطحية. وجدت أن الكتابة عن هذه المواضيع قد يساهم في إيجاد بيئة ثقافية علمية خصوصا للكتابات باللغة العربية بين المهتمين بحقل دراسات الخليج الذي أجده قد تطور بشكل لافت في العشر سنوات الأخيرة وصار في هذا الحقل العديد من الأسماء الخليجية تحديدا التي تكتب بنظره نقدية وتحاول التفكير خارج الأطر العلمية التي سيطرت على هذا الحقل منذ ستينيات القرن الماضي والبناء على كتابات النقيب والأنصاري وغيرهما في هذا الحقل.
مقتطف من الكتاب
كان للقوى المرجّحة تأثير قوي على الحياة السّياسيّة الكويتية منذ بداية القرن العشرين كما ناقش الكتاب، فقد بدأ ظهور دور هذه القوى في عهد مبارك الصّباح، وبسبب ذلك، أصبح من الضروري أن يلجأ التّجار إلى الإجراءات والتدابير الاقتصادية والاجتماعية للضغط على مبارك الصّباح للوصول إلى أهدافهم.
كان للقوى المرجحة في عهد مبارك الصباح ممثلة في علماء الدَّين دور إجبار الحاكم كذلك على التراجع عن دعم البريطانيين علنًا خلال الحرب العالمية الأولى باستخدام نفوذهم الدَّيني للتأثير على النّاس، والسَّبب في ذلك أن التّجار الذين عارضوا بريطانيا ودعموا الدولة العثمانية لم يتمكنوا من مواجهة مبارك مباشرة ، فاستخدموا علماء الدَّين -أحد فئات القوى المرجحة- لإجباره على التراجع. وبين عامي ١٩٢١ و١٩٥٠، كان هناك العديد من العوامل التي ساهمت في ظهور فئات جديدة من القوى المرجّحة، من بينها؛ تطوير نظام تعليمي في الكويت من خلال إنشاء مدرستين هما المباركية والأحمدية ثم تطوير التَّعليم المؤسسي في عام ١٩٣٦ وساهم كل هذا بشكل كبير في ظهور فئات أخرى من القوى المرجّحة، مثل المثقفين.
خلال مناقشة هذه الأفكار، وجدت أن الدور الذي لعبته عائدات النّفط في الوضع الداخلي في الكويت كان مهمًا للغاية، على سبيل المثال، كان لعائدات النفط تأثير على التوظيف، والذي بدأ في الظهور في بداية الثلاثينيات في دوائر مثل البلديّة والمعارف والصّحة وبعض الدوائر الحكومية الأخرى. في المراحل المبكرة، ساهمت هذه المؤسسات والأمن الوظيفي وفرته من خلال راتب ثابت وامتيازات اقتصادية أخرى للأفراد العاملين فيها لتحول وتغير ولاء هذه الفئات العاملة والمنتمية لبعض فئات القوى المرجّحة من التّجار إلى الشّيوخ وفيما بعد الاستقلال إلى الحكومة.
بالإضافة إلى ذلك، ناقش الكتاب سيطر الشّيوخ على الدوائر الحكومية خلال الأربعينيات والخمسينيات وكيف وزعوا الثروة النفطية غير المتوقعة من خلال المنح والعطايا والتوظيف لكسب الولاء من الفئات الاجتماعية المختلفة أثناء صراع هؤلاء الشيوخ على الحكم.
ومع تطور الوعي الثقافي والوطني في الخمسينيات مع ظهور القومية العربية كإيديولوجيا في المنطقة العربية، فمن الواضح أن الكويت وصلتها هذه التَّأثيرات أيضًا، فقد كان اختيار المناصب في الدّولة التي كانت حكراً في الماضي على طبقة التّجار، يتم شغلها الآن من قبل الطلاب العائدين من الدّراسة في الخارج والذين يمثلون المثقفين والقومين العرب -أحد فئات القوى المرجحة-.
وعلاوة على ذلك، فقد بدأ المثقفون كمجموعة في التَّأثير على القوى المرجّحة الأخرى في المجتمع وكذلك المشهد السّياسي؛ وأصبح المثقفون الذين لا ينتمون إلى طبقة التّجار خصوما منافسين شرسين، وكان أبرزهم أحمد الخطيب، الذي نوقش دوره الحيوي الفعال وتأثيره على الكويتيين في الفصلين الرابع والخامس. وإذا نظرنا إلى أحمد الخطيب كنموذج، فقد تبلورت قوته بسبب قضيتين مهمتين: تعليمه والتصاقه بالقومية العربية وصناع القرار فيها؛ ودعم الشَّعب له كرمز للمعارضة الوطنية.
وظهر دور القوى المرجّحة بشكل واضح وجلي بحلول عام ١٩٥٦ عندما كانت هناك مظاهرات حاشدة ضد العدوان الثلاثي على مصر، تبع ذلك فوز الخطيب وبعض المثقفين في مجلس ١٩٥٨، واعتبر ذلك تقدمًا وحدثا غير مسبوق في التّاريخ السّياسي الكويتي، وسبب فوز الخطيب وزملاؤه إلغاء نتائج انتخابات مجلس ١٩٥٨. وتمت مناقشة هذا المجلس وقضايا أخرى في الفصل الأخير من الكتاب.
ساعد التطور الاقتصادي والثقافي والتَّعليمي، على تغيير مسار صنع القرار في الكويت من كونه ثنائيًا، أي بين الشّيوخ من جهة وطبقة التّجار من جهة أخرى، إلى واحد من بين ثلاثة قوى ؛ الحاكم وأسرته، وطبقة التّجار، والقوى المرجّحة.
باختصار؛ يمكن تحديد ثلاث مراحل في تطور الدور السياسي "للقوى المرجحة": المرحلة الأولى؛ وهي مرحلة "التكوين" عندما كانوا من أتباع القوتين الرئيسيتين: الشيوخ والتجار، دون التمتع بالقدرة على تغيير المشهد السياسي. والمرحلة الثانية؛ هي مرحلة "النمو" حيث كان لهم مساهمة مباشرة في المشهد السياسي، رغم أنهم لم يلعبوا دوراً مباشراً في عملية صنع القرار. والمرحلة الثالثة؛ هي مرحلة "التمكين" عندما أصبحوا جزءاً من اللعبة السياسية، وكان لهم صوت في دستور 1962 ففازوا بأغلبية مقاعد المجلس التأسيسي. الملاحظ أن تطور القوى المرجحة زامنه تطور عكسي للتطور الدستوري الذي بدأ بمرحلة "التوازن" في العلاقة بين الحاكم والتّجار في مجلس ١٩٢١ ثم انتقل إلى مرحلة مرحلة "السَّيطرة" في عام ١٩٣٨،حيث سيطر التّجار على حكم الدّولة بإجبار الحاكم على قبول أن السلطات الثلاثة من خلال الدستور الجديد ستكون بيد المجلس وليس الحاكم وأخيرا مرحلة "التراجع" في الحقوق الدستورية من خلال إقرار دستور ١٩٦٢ الذي أعطى الحاكم سلطة فوق السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية.
من الواضح أن هذه القراءة الجديدة لتاريخ الكويت تشير إلى نقطة تحول مهمة خصوصاً عند النّظر إليها من مرحلة ما بعد الاستقلال والمراحل الحالية. ونظرًا لأن البحث في مرحلة ما بعد الدّستور كان خارج نطاق هذا الكتاب من حيث الزمان والمكان، ربما يكمل باحث آخر العمل الذي بدأ بهذه الاكتشافات التّاريخية المتجذرة في دور هذه القوى المرجحة في صنع القرار السّياسي ما قبل الاستقلال. وعلى هذا النحو، آمل أن يضيف أحد في بحث مستقبلي لهذه القراءة الجديدة لتاريخ الكويت وأن يطبقها بشكل خاص على منطقة الخليج.