ملاحظات حول محاربة الترامبية

[دونالد ترامب]. [دونالد ترامب].

ملاحظات حول محاربة الترامبية

By : Robin D. G. Kelley

[روبن دي. جي. كيلي هو أستاذ كرسي "غاري بي ناش" في التاريخ الأميركي في جامعة "يو سي إل آي" ومحرر مساهم في "بوسطن ريفيو". من كتبه "أحلام الحرية: خيال السود الجذري"].


أشعر بالحيرة، كما شعرت في العام 2016، إزاء استمرار هذا العدد الكبير من الليبراليين بالإحساس بالصدمة من فوز ترامب- ولماذا، في مساعيهم لتشريح ما حصل، لا يستطيعون تجاوز دهشتهم بأنه يمكن لهذا العدد الكبير من الناس أن يدعموا بدون تفكير (بشكل أعمى) فاشيا فاسدا، كاذبا، يروج للعنصرية، وكراهية النساء، وكراهية الأجانب، والتمييز ضد المعوقين وما إلى ذلك، فيما هو يخفي أجندته المعادية للعمال، والمعادية للأرض، والداعمة للشركات الكبرى خلف حجاب من القومية البيضاء والوعود السلطوية بأن "ترامب سوف يصلح الأمر".

ولسنا بحاجة لإضاعة الوقت في محاولة تحليل الفروقات بين الانتخابات الثلاث الماضية. ففي الثلاث، هو ربح- وخسر- بأعداد تاريخية من الأصوات. وكانت الرسالة واضحة منذ العام 2016، حين، وعلى الرغم من خسارة ترامب للتصويت الشعبي أمام هيلاري كلينتون، إلا أنه فاز بالمجمع الانتخابي بنحو ثلاثة وستين مليون صوت، أي أقل بثلاثة ملايين مما حصل عليه أوباما في 2012. وخسر ترامب في 2020، إلا أنه حصل على أربعة وسبعين مليون صوت، وهو ثاني أكبر مجموع في تاريخ الولايات المتحدة. وبالنسبة لمرشح يشغل المنصب ترأس بشكل كارثي بدايات وباء "كوفيد"، فإنه كان يتعين على ذلك الرقم المذهل من الأصوات، أن ينبئنا بشيء. وإذا كان صادقين، علينا الاعتراف بأن جو بايدن يدين بمعظم فوزه للانتفاضات ضد عنف الشرطة التي حوّلت، بشكل مؤقت، الرأي العام باتجاه وعي أكبر إزاء التعسف العرقي وقدمت للديمقراطيين إقبالا تاريخيا غير مستحق. وعلى الرغم من أن حملة بايدن نأت بنفسها بقوة عن "حياة السود تهم" وعن المطالب بخفض تمويل الشرطة، إلا أنها استفادت من الإحساس بأنه تتعين معالجة الظلم العرقي وأن الليبراليين هم الأنسب لمعالجته.

مع ذلك، إلا أنه وفي الانتخابات الثلاثة، استمر الرجال والنساء من البيض باختيار ترامب بغالبية ساحقة. (على الرغم من أنه كان هناك أمل أنه في هذه المرة، فإن قضية الإجهاض سوف تدفع غالبية من النساء البيض للتصويت لهاريس، إلا أن 53 في المئة منهن صوتن لترامب، أي أقل باثنين بالمئة فقط من 2020). والتحول الديموغرافي بين ناخبي 2024 الذي كثر التباهي به لم يكن على ذلك القدر من الأهمية. صحيح، استقطب ترامب هذه المرة عددا أكبر من الرجال السود، ولكن نحو 77 بالمئة من الرجال السود صوتوا لهاريس، وبالتالي فإن العنوان الصادم "لماذا صوت الرجال السود لترامب"، هو مضلل. نعم، ارتفع تأييد اللاتينيين لترامب، لكن يتعين تفصيل تلك الفئة السكانية؛ فهذه فئة ديموغرافية متنوعة لأقصى حد، تاريخها السياسي وأصولها الوطنية وما شابه مختلفة. ويجب ألا نصاب بالصدمة لأن العديد من الرجال من الطبقة العاملة، لاسيما رجال الطبقة العاملة من غير البيض، لم يصوتوا لهاريس. وكيانغا-ياماتا تايلور محقة في إشارتها إلى تعالي الديمقراطيين عبر إيحائهم بأن التمييز الجنسي ضد المرأة وحده يفسّر سبب انقلاب جزء صغير من الرجال السود واللاتينيين نحو ترامب، في حين أن التشرد، والجوع، والإيجارات، والديون الشخصية، وانعدام الأمان الشامل كانت كلها في ارتفاع. وتشرح عبر "ديموكراسي ناو" أن الديموقراطيين فشلوا في "التقاط ما يحصل فعليا على الأرض- والذي لا يقاس فحسب بانخفاض نسبة البطالة التاريخية الذي تحدث عنه بايدن وهاريس أو بالنسب التاريخية لانخفاض الفقر."

لقد فشل الحزب الديموقراطي- مجددا- لأنه أدار ظهره للعمال، مختارا عوضا عنهم أن يلتفت إلى اليمين: توظيف ليز وديك تشيني، اقتباس كبير موظفي ترامب السابق جون كيلي، والتفاخر بعدد المصادقات الجمهورية التي حصلت عليها هاريس عوضا عن خططها لانتشال 38 مليون أميركي من الفقر. وروجت الحملة لقوة الاقتصاد في ولاية بايدن، إلا أنها تقاعست عن ذكر واقع بأنه لم يتبين أن الفوائد وصلت إلى شرائح واسعة من الطبقة العاملة. بدلا من ذلك، حسّن ملايين العمال أوضاعهم بالطريقة التقليدية القديمة: عبر الإضرابات والتفاوض الجماعي. وتمكن "اتحاد عمال السيارات"، وعمال "يو بي إس"، وعمال تفريغ السفن والمستودعات، والعاملين في الرعاية الطبية، وتقنيو "بوينغ"، وصانعو القهوة والندل في "ستارباكس"، وغيرهم من الفوز بمكاسب بارزة. بالنسبة للبعض، فإن تأييد بايدن العلني لاتحادات العمال ضمن له موقعه على أنه الرئيس الأكثر تأييدا للعمال منذ فرانكلين روزفلت. ربما، ولكن التحدي ليس صعبا فعليا. خلال حملته قال إنه سيرفع الحد الأدنى للدخل الاتحادي من 7.25 دولار إلى 15 دولار، ولكن، وما أن تم انتخابه، قام بتأجيل الموضوع بسرية في تسوية مع الجمهوريين، مختارا عوضا عن ذلك إصدار مرسوم تنفيذي رئاسي برفع رواتب المقاولين الاتحاديين.

صحيح أن الحركة "غير الملتزمة"، والتصويت الاحتجاجي المناهض للحرب بشكل عام، كانت تفتقر للأرقام الأولية لتغيير نتائج الانتخابات. ولكن ليس من المبالغة النقاش بأن تأييد إدارة بايدن- هاريس غير المشروط لإسرائيل كلّف الديموقراطيين الانتخابات بقدر ما فعل تخليهم عن الطبقة العاملة. في الواقع، فإن القضيتين مرتبطتان. كان يمكن للإدارة أن تستخدم الثمانية عشر مليار دولار التي وهبتها لإسرائيل كمساعدات عسكرية لعملياتها في غزة في سنتها الأولى فحسب، وأن تعيد توجيهها نحو حاجات العمال الذين يعانون. إن 18 مليار دولار توازي نحو ربع الميزانية السنوية لوزارة الإسكان والتنمية و16 بالمئة من موازنة "برنامج المساعدة الغذائية التكميلية" الفدرالي. وكان حتى بإمكانهم تقليص الموازنة العسكرية أكثر، والتي بلغت للعام المالي أكثر بقليل من 824 مليار دولار. بالإضافة إلى ذلك، كان يمكن انقاذ عشرات الآلاف من الأرواح الفلسطينية، وتجنيب معظم أراضي غزة وبناها التحتية ضررا لا يمكن إصلاحه، ولم يكن التصعيد نحو حرب إقليمية في لبنان وإيران قد حدث- وهو التي مازالت نتائجه غير محددة بالنسبة للميزانية الاتحادية.

بالطبع، سيقول المعترضون أن اللوبي الإسرائيلي، لاسيما "آيباك"، لن تسمح بذلك. لكن ولاء الديموقراطيين لإسرائيل ليس نابعا من الخوف، كما أنه ليس مجرد مسألة حساب بارد للأصوات الانتخابية. بل هو توجه راسخ في الإيديولوجية. وحدها الإيديولوجية يمكن أن تفسر سبب امتناع إدارة بايدن- هاريس عن توجيه الممثلة في الأمم المتحدة ليندا توماس-غرينفيلد للتوقف عن توفير الغطاء للمذبحة الإجرامية الإسرائيلية، ودعم قرار مجلس الأمن الداعي لوقف فوري لإطلاق النار. وليست الأيديولوجية وحدها ما تفسر سبب امتناع الإدارة والكونغرس عن الالتزام بقوانينها- وخاصة "قانون مراقبة تصدير الأسلحة وقانون المساعدة الخارجية"، الذي يحظر استخدام أسلحة أميركية في أراض محتلة وارسال سلاح أو مساعدات لدولة "تنخرط في نمط ثابت من الخروقات الجسيمة لحقوق الإنسان المعترف بها عالميا"- والتوقف عن دعم الجيش الإسرائيلي.

وفي حين أن المرشح ترامب شجّع نتنياهو على "إنهاء المهمة" في غزة، لا تندهشوا إذا "فاوض" الرئيس ترامب على اتفاق سريع لوقف النار. (قام ريغان بحيلة مشابهة حين ضمن عودة الرهائن الأميركيين من إيران في اليوم ذاته لتنصيبه رئيسا). ويمكن لصفقة مماثلة أن تثبت شعار حملة ترامب بأنه وحده القادر على إصلاح الأمور، وأن يقوي صلاته مع أصدقائه من الطبقة الحاكمة في دول الخليج، وأن يسمح لحزب الليكود ومؤيديه من المستوطنين المهوسين بأن يضموا غزة، جزئيا أو كليا، والاستمرار في عملية ترحيل السكان غير المشروعة بذريعة "إعادة الإعمار". ففي النهاية، لقد قامت إدارة بايدن- هاريس والديموقراطيون أصلا بإنجاز كل ما يلزم "لإنهاء المهمة". أصبحت غزة عمليا غير صالحة للسكن. وحين نحتسب الأمراض، والمجاعة، والقصور في الرعاية الصحية للمصابين، وأعداد الذين تحت الردم، ستكون حصيلة القتلى الفعلية أعلى بمرات من الحصيلة الرسمية. وبما أن نحو ثلاثة أرباع الضحايا هم من النساء والأطفال، فإن التحالف الأميركي- الإسرائيلي سيكون قد نجح، قبل وقت طويل من تولي ترامب للسلطة، في التحييد المؤقت لما يسميه الساسة الإسرائيليون "التهديد الديموغرافي الفلسطيني".

على امتداد العقود الخمسة الماضية شهدنا عملية هائلة من تصفية للاستثمارات الاجتماعية: تقويض لكل من دولة الرعاية الاجتماعية، والوظائف بأجور كافية للمعيشة، وحقوق المفاوضة الجماعية، العضوية في النقابات، استثمار الحكومة في التعليم، إسكان متاح وبأسعار ميسرة، التأمين الصحي، والطعام، وأساسيات الديموقراطية

تبيّن انتخابات 2024 تحولا نحو اليمين على امتداد البلاد. نراه في انتخابات مجلس الشيوخ، وسيطرة اليمين على المجالس التشريعية للولايات (مع أنه هنا، أدى التلاعب في تقسيم الدوائر الانتخابية دورا أساسيا)، وفي بعض تدابير الاقتراع الناجحة في الولايات، باستثناء الحق في الإجهاض. ولكن يمكن تفسير جزء من هذا التحول من خلال حذف الناخبين، ومعارضة عامة لشاغلي المناصب من النواب الحاليين، واستياء لدى الطبقة العاملة يتم التعبير عنه من خلال انخفاض نسبة الإقبال. وأزعم أيضا بأن أحد الأسباب الرئيسية لقيام هذه النسبة المرتفعة من الطبقة العاملة بالتصويت لترامب يتعلق بما نسميه نحن، الماركسيون القدامى، بالوعي الطبقي. وقد ميّز ماركس بين طبقة "بذاتها" وبين طبقة "من أجل ذاتها". الأولى تدلّ على المكانة، علاقة المرء بوسائل الإنتاج، البقاء، العيش. الثانية تؤشر على التضامن- التفكير كطبقة، الاعتراف بأن جميع العمال، بغض النظر عن العرق، والجنس، والقدرة، والجنسية، ووضع المواطنة، والدين، هم رفاقك. مع تعرض فكرة التضامن لهجمة متواصلة على مدى عقود، يصبح من المستحيل على الطبقة أن تدرك مصالحها المشتركة أو الدفاع عن آخرين ربما لا تكون مصالحهم متطابقة معها. 

بالتالي، أنا أقل اهتماما في تحليل "ما بعد الحدث" لهذه الانتخابات وتعديل مناورات الديموقراطيين مما إني أسعى لفهم كيفية بناء حركة – ليس كرد فعل على ترامب، بل نحو سلطة العمال، واقتصاد عادل، وعدالة انجابية، وحرية الكوير والمتحولين جنسيا، وإنهاء العنصرية والنظام الأبوي والحرب- في فلسطين، والسودان، والكونغو، وهايتي، وغيرها، وفي شوارعنا حيث هي متخفية كحرب على الجريمة، وعند حدودنا متخفية كأمن، وعلى الكوكب نتيجة لخمسة قرون من الاستخراجات الاستعمارية والرأسمالية. علينا إعادة إحياء فكرة التضامن، ويتطلب ذلك إعادة إحياء السياسات الطبقية: ليس سياسة تتنصل من العنصرية وكراهية النساء التي تسود الحياة الأميركية بل سياسة تواجهها مباشرة. إنه من الخطأ الظن أن دعم البيض من أبناء الطبقة العاملة لترامب يمكن أن يختزل بالعنصرية وكراهية النساء أو "الوعي الخاطئ" الذي حل محل جراح الطبقة. كما كتبت في 2016، لا نملك رفاهية تحمل استبعاد:

المظالم الاقتصادية الحقيقية جدا للبيض من الطبقة العاملة. ليست مسألة استياء في مواجهة العنصرية أو التمييز الجنسي مقابل الخوف. بل أن العنصرية والمخاوف الطبقية وأيديولوجيات الجندرة السائدة تعمل معا، بشكل لا يتجزأ. الرجال البيض من الطبقة العاملة يرون معاناتهم من خلال عدسة عنصرية وجندرية. وتعتبر النساء وغير البيض أن تولي مراكز ذات امتيازات أو سلطة عليهم هو أمر غير طبيعي ببساطة ولا يمكن تفسيره إلا على أنه عمل غير منصف- مثل نموذج التمييز الإيجابي".

كانت هناك دوما جهود لبناء تضامن عمالي، ثقافيا وعمليا. ونراه في بعض عناصر الحركة العمالية، مثل اتحادات "يونايت هيير"، وأفراد تقدميين في "إس إي آي يو"، و "الاتحاد الوطني للممرضين"، و"يونايتد أول ووركرز فور ديموكراسي"، و "ساثرن ووركو باور" و "العمال السود من أجل العدالة"، و"التغيير للفوز". وقاد هذه الجهود "حزب العائلة العاملة" المثابر ولكن المحاصر، ومنظمته الشقيقة "سلطة العائلات العاملة". وقد أظهر استطلاعهم الأحدث أن ارتفاع دعم الطبقة العاملة لترامب وللجمهوريين من جماعة "اجعلوا أميركا عظيمة مجددا" لا يعني أن أفراد الطبقة العاملة هم محافظون أكثر من الأميركيين الأكثر ثراءً. بدلا من ذلك، خلص الاستطلاع إلى أن أفراد الطبقة العاملة هم "بشكل موحد إلى يسار الطبقتين الوسطى والعليا" في ما يتعلق بالسياسات الاقتصادية التي تشجع الإنصاف والعدالة والتوزيع. وفي ما يخص القضايا الأخرى مثل الهجرة، والتعليم، والجريمة، والشرطة، فإن النتائج مختلطة و، على نحو غير مفاجئ، تختلف بحسب العرق، والجنس، والتوجه السياسي. والأهم من ذلك كله، يدرك "حزب العائلة العاملة" أن مصدر الاستياء الرئيسي هو الهجمة النيوليبرالية على العمال والإضعاف الحاد لقوة العمال السياسية والاقتصادية. على امتداد العقود الخمسة الماضية شهدنا عملية هائلة من تصفية للاستثمارات الاجتماعية: تقويض لكل من دولة الرعاية الاجتماعية، والوظائف بأجور كافية للمعيشة، وحقوق المفاوضة الجماعية، العضوية في النقابات، استثمار الحكومة في التعليم، إسكان متاح وبأسعار ميسرة، التأمين الصحي، والطعام، وأساسيات الديموقراطية. في بعض الولايات حل مدراء ماليون لحالات الطوارئ محل الحكومات المنتخبة، يشرفون على خصخصة أصول القطاع العام، والتخفيضات الضريبية للشركات الخاصة، واقتطاعات من الصناديق التقاعدية للموظفين من أجل تحقيق "توازن" في موازنات المدن. في الوقت ذاته رأينا ارتفاعا هائلا في التفاوت في الدخل، وأرباح الشركات الكبرى، والسجون، ومراكز الأبحاث المحافظة الممولة جيدا، ومجموعات الضغط التي أضعفت هيمنتها على الساحة التشريعية بصورة ملحوظة حقوق النقابات، وحماية البيئة والمستهلك، والأمان الوظيفي، وشبكة الأمان الاجتماعي.

والهجمة النيوليبرالية هي أيضا أيديولوجية؛ هي هجمة على مفهوم التضامن نفسه، على العمال كمجموعة لها مصالح مشتركة. وقد قام كل من دايفيد هارفي، وروث ويلسن غيلمور، ودايفيد ماكنالي، ونانسي فرايزر، وويندي براون وآخرون كثيرون بتفصيل هذا التحدي بشكل مقنع. في مواجهة موجة الإضرابات في السبعينيات والركود العالمي الذي فتح الباب أمام التحول النيوليبرالي، سيطرت المقولة التاتشري بأنه "لا وجود لشيء اسمه المجتمع؛ هناك أفراد من الرجال والنساء". على امتداد عقود تم الذم بالنقابات على أنها العدو الحقيقي للتقدم، وكان خصومها يصرون على أنها تأخذ مستحقات الأميركيين الكادحين، وتعطي رؤساء النقابات رواتب متضخمة، وتلغي وظائف بالمطالبة برواتب مرتفعة وتقوض موازنات القطاعين الخاص والعام برزمات تقاعد مبالغ فيها. تذكروا مواضيع النقاش في الحملة الانتخابية الرئاسية لميت كومني: العمال هم من "يأخذون"، والرأسماليون هم من "يحققون" والذين يجب أن يقرروا ما يسددونه للعمال. وتصر الإيديولوجية النيوليبرالية على أن أي مسعى للتشجيع على التساوي، والتسامح والدمج هو نوع من إكراه للفرد، ويضعف الحرية وحق الخيار. ومن شأن إجراءات تنظيمية لإعادة توزيع الثروة من هذا النوع، لاسيما من جانب الحكومة، أن تعادل هندسة اجتماعية وتهدد بالتالي الحرية، والمنافسة، وقوى السوق الطبيعية. 

كبرت أجيال وهي تتعلم أن العالم هو سوق، وأننا أفراد من رواد الأعمال. أي مساعدة أو دعم من الدولة تجعل منا اتكاليين وغير جديرين. وتحل المسؤولية الشخصية والقيم العائلية محل فكرة "الاجتماعي" ذاتها، أي أن كل بلد ملزم بالتكفل بالمحتاجين. ومبادئ السوق تحكم الحياة: فكرة إنه إذا قمنا بالاستثمار الصحيح، وأصبحنا مسؤولين أكثر عن أنفسنا، وعززنا انتاجنا- إذا بنينا رأسمالنا البشري- ترتفع قدرتنا على المنافسة، وربما نصبح من أصحاب المليارات. ولدى مزج المنطق النيوليبرالي مع الشعبوية (البيضاء) والقومية المسيحية تحصل على ما تسميه ويندي براون "الحرية السلطوية": حرية تفترض الإقصاء، الأبوية، التقاليد، والمحسوبية كتحديات مشروعة في وجه تلك المطالب الخطيرة والمزعزعة للاستقرار بالاحتواء، والاستقلالية، والحقوق المتساوية، والعلمانية وحتى مبدأ المساواة نفسه. وخليط سام من هذا النوع لم يأت من فراغ، كما تصر براون: لقد نتج عن ركود الطبقة العاملة بكاملها بفعل السياسات النيوليبرالية. 

يدل ذلك التشخيص على علاج بديهي. إذا كنا سنقوم بهزيمة الترامبية يوما، والفاشية العصرية، وإطلاق تحد مجدي للرأسمالية العنصرية الجندرية، يتعين علينا إعادة إحياء شعار "العمال الصناعيون في العالم" وهو "جرح شخص هو جرح الكل". وعمليا، فإن ذلك يعني التفكير بما يتجاوز الدول، والتنظيم لمقاومة الترحيل الجماعي عوضا عن التصويت للحزب الذي يروج لذلك. وهو يعني اعتبار كل تصرف عنصري، أو متحيز جنسيا، أو معاد للمثليين، أو معاد للمتحولين جنسيا، وكل اعتداء بالضرب المبرح أو قتل لأشخاص سود غير مسلحين من قبل الشرطة، وكل حرمان من الرعاية الصحية للفئات الأكثر ضعفا، كاعتداء على الطبقة. وذلك يعني الوقوف مع الدفاع عن العمال المكافحين حول العالم، من فلسطين إلى الكونغو إلى هايتي. يعني المحاربة في سبيل الراتب الاجتماعي، وليس للأجر الأعلى وظروف العمل الأفضل فحسب بل إعادة الاستثمار في المؤسسات العامة- المستشفيات، الإسكان، التعليم، الجامعات المجانية، المكتبات، الحدائق العامة. وهو يعني القوة للعامل وديمقراطية العامل. وإذا كان التاريخ مرشدا، لا يمكن إنجاز ذلك من خلال " الحزب الديموقراطي". فمحاولة دفع الديموقراطيين نحو اليسار لم تنفع أبدا. نحن بحاجة لإعادة بناء منظمات مستقلة، بوعي طبقي، متعددة الأعراق مثل "حزب العائلات العاملة" أو "حملة الفقراء" وحلفائهما، ليس لمجرد ولوج الساحة الانتخابية بل لممارسة السلطة بفعالية لتبديد أكاذيب الطبقة الحاكمة حول كيفية عمل اقتصادنا ومجتمعنا في الواقع. إن السبيل الوحيد للخروج من هذه المعضلة هو أن نتعلم أن نفكر كطبقة. فالمسألة هي كلنا أو لا حد.


[نُشر في تشرين الثاني/ نوفمبر، 2024 في "بوسطن ريفيو". ترجمة هنادي سلمان].

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬