كيف نحفظ أرواح عوالمنا المهجرة؟
قد تكون الذاكرة من أحد أهم الفضاءات غير المادية التي لم تستطع الحركة الصهيونية استعمارها لغاية الآن. صحيح أنّ الذاكرة وحدها غير قادرة على تغيير الواقع المادي ولكنها تحمل في طياتها مشاعر، تصورات، إمكانيات مستقبلية وعلاقة حميمية، تساهم بمجملها في ترميم العلاقة مع مكان ما، وخاصة عوالمنا التي هُجّرنا ونهجّر منها، سواءً في القدس، غزة، أو بيروت.
تساعدنا الذاكرة أيضاً على إبقاء النهايات مفتوحة، وكأنها طاقة صغيرة مشعة في أسفل نفقٍ تاريخي مظلم. غُرِسَ هذا الظلم في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وتكثّف في العام 1947 بقرار تقسيم فلسطين، وهو الأمر الذي مهّد لشق مدينة القدس إلى قدسٍ غربية وقدسٍ شرقية، تحت حراب البنادق و الأيديولوجيات العنصرية. وهنا نسأل، كيف لنا فهم فداحة ما جرى عبر أعين أناس اقتلعوا من طفولتهم، بيوتهم، حدائقهم ومصادر رزقهم؟ وكيف لنا تخيل إمكانيات تطور هذه العوالم في حال لم تحدث النكبة؟ وكيف لروايات التاريخ الشفوي، ألبومات الصور العائلية، المذكرات الشخصية، المقتنيات التي نجت من النكبة، وذكريات الطفولة والأطفال، مساعدتنا في جبر القطع المكاني الذي أحدثته النكبة؟ وبهذه الأسئلة، لا نحاول فقط تأريخ ما حدث، بل نحاول أيضاً الحفاظ على أرواح عوالمنا المادية - مثل القطمون، الطالبية، البقعة الفوقا - على شكل أفكار، مشاعر، تواريخ عائلية مسموعة، مكتوبة ومصورة، لمستقبلٍ نخطّه بكتاباتنا وحقنا في التذكر والعودة إلى الأماكن التي اقتُلعنا منها.
دعونا نستحضر القصص التي رواها العم جورج ميخائيل بهو عن تطور الفضاء الحضري لمدينة القدس، من موقعه كطفل ترعرع في البقعة الفوقا وهجّر منها إلى القاهرة ومن ثم إلى رام الله، ومن هناك ننطلق معه إلى بيروت، لدراسة الصيدلة في الجامعة الأمريكية. في نهاية الرحلة، سنعرج على وظيفته الأولى والأهم، ألا وهي "صيدلي القدس". وفي هذه الرحلة عبر الزمن والجغرافيا، سنحاول البحث عن بعض الأجوبة للأسئلة أعلاه في ثنايا ذكريات جورج وعائلته المصورة والمسموعة، مسافرين عبر الزمن بين القدس، يافا، رام الله وبيروت.
مصورٌ هاوٍ، محبٌ للسيارات وحلوى السوس
ولد جورج ميخائيل جريس بهو في 15 شباط من العام 1935 لأبٍ مقدسيٍ وأمٍ من قرية شحيم جنوب بيروت. أنجبته أمه، أدما فارس عيد، في المستشفى الحكومي في حي المسكوبية، ومن ثم انتقل مع عائلته إلى بيت صغير في حي البقعة الفوقا، ومن بعد ذلك عاشت العائلة في منزلٍ أكبر ضمن نفس الحي. كان هذا المنزل الجديد عبارة عن شقة أرضية كبيرة في عمارة جميلة تضم مُلّاكاً آخرين، ولا يوجد زاوية من البيت إلا وصوّرها جورج بالكاميرا التي أهداها إياه والده. إضافة لذلك، لم ينس جورج تصوير أيٍ من إخوته، فتارة نشاهد أخاه رجا أو أختاه ميرنا ومي، كما ونشاهد والدته، والده، أعمامه وأبناء عمومته، بالإضافة إلى زوّار العائلة والجيران ومنازلهم، ويتصدر المشهد منزل عائلتي الدجاني والسلطي. تبرز في هذه الصور التفاصيل الدقيقة لحياة جورج، ومنها نشاهد حديقته المنزلية، الكلاب الأليفة، ملابس الأطفال والكبار، فرح الناس وتأنقهم، وحتى تغيرات المناخ ظاهرة للعيان (كحادثة هطول الثلج بأريحا مطلع الخمسينيات). نتعرف أيضاَ إلى نوع الحجر المستخدم في البناء، وتنوع الأنماط المعمارية واختلاف الأذواق والطبقات، وهذا بمجمله يعطينا صورة زمنية عن قسمٍ من الفضاء الحضري للقدس كما وثقها طفلٌ لم يتجاوز عمره الثالثة عشر قبل وقوع النكبة. عندما ننظر إلى هذا الموزاييك الاجتماعي، الاقتصادي، الثقافي، الممزوج بصبغة عائلية، عبر عدسة طفل ذي حضور مبتسم وبهي، قد نستطيع فهم العلاقة بين الأطفال والمدن، دون الغرق في نظريات وأدبيات هندسية-تنموية لطالما قزمت من إمكانيات الدراسات الحضرية والمكانية.
تعيد ذاكرة حواس جورج حي البقعة الفوقا المهجّر إلى الحياة، بكل فصول السنة ومواسمها، فنعيش معه الزيارة المعتادة إلى حلاقه، السيد غضبان الوعري، فترتسم ابتسامةً على وجه جورج، متذكراً زقزقة كنار الحلاق غضبان على وقع المقص، ومن صالون الحلاق، نمشي معه إلى بقالة خميس ثودوسي، ونتذوق حلوى السوس المفضلة لديه. وبعد ذلك، نحمل معه صحن الحمص والفول الفارغ ليملأه من مطعم الزغلول، وبعد ذلك نعرج على بقالة عابدين أو بقالة الخالدي المجاورتين. إذا دبّ الملل، ولم نطرب مع جورج لغناء أم كلثوم المنبعث من مذياع العائلة، قد يأخذنا جورج وأخوه رجا إلى سينما "ريجنت" القريبة من حيه، وفي جيبه خمسة قروش لدفع ثمن التذكرة، لمشاهدة فيلم "فلاش غوردون" المشهور وقتها ثلاث مرات دون ملل. أما إذا كانت الزيارة بصحبة الوالد ميخائيل، فستكون الوجهة سينما "ريكس" في شارع الأميرة ماري بالقرب من شارع يافا.
يستذكر جورج هذه اللحظات بفرحٍ كبير، فتشقّ بعض الضحكات طريقها بين الذكريات، باعثة فرحاً في مواجهة كل الحزن الذي عاشه ونعيشه الآن. لألعاب الطفولة حيز خاص في ذكرياته، ومن الألعاب التي حدثنا عنها يتذكر الألعاب التالية: الأكس، الصلبة، البنانير وكرة القدم، وأنديتها المحلية التي خاضت سجالات رياضية على ملعب تيراسانتا، الواقع بين البقعة الفوقا وجارتها التحتا. من الأندية التي نشطت في محيطه، حدثنا عن نادي الدجاني، النادي اللفتاوي والنادي الأرثودكسي. بالإضافة لشغفه بكرة القدم، عشق جورج قيادة السيارات منذ الصغر بحكم امتلاك والده لسيارتين شخصيتين، إحداهما تحمل ماركة "بويك" الفاخرة، والتي كان يملؤها بالوقود من محطة شِلْ المجاورة. إضافة لذلك، امتلك والده خطوط باصات، بحيث اصطف بعضها في مرآب بجانب بيته وساحة كبيرة مجاورة. وهنا، يتذكر جورج قيادة باص بسعة ثلاثين راكباً، من رام الله إلى البحرة (أي البحر الميت في أريحا). تعرّفنا الصور التي التقطها جورج إلى عالم "الميكانستية" الذين عملوا في مرآب الباصات كعمال صيانة، ومنهم: عيسى حنانيا، بشارة حنانيا، وجميل. تعلم جورج من والده الصيد، وهي الهواية التي مارسها في فلسطين وخارجها، فاستذكر صيد الشنّار في قرى جلجلية، ترمسعيا، بيت دقو، شيوخ، يطا والسموع.
جاور آل بهو في البقعة الفوقا العائلات التالية: دار داوود الحلبي، دار ميشيل قطران (حاكم)، دار نيكوديم، دار برنار ودار "الإنكليزي". سكن مقابلهم دار السلطي من ملاك شركة الحديد، وجاورهم أيضاً عائلة الخالدي، الدجاني والحسيني. وعلى مقربة من الحي، تعلم جورج في مدرسة الأمة القريبة من المنزل، بحيث زاول تعليمه طالباً مقيماً بسبب غيرته من ابن عمته الذي أقام وفق النظام الداخلي في مدرسة المصرارة. واظب والده على زيارته يومياً، بين الساعة الخامسة والسادسة مساءً، محضراً الهدايا والحلوى. إنّ علاقة الصداقة التي جمعت والد جورج بمدير المدرسة، المربي شكري حرامي، سهّلت الإقامة الداخلية والتي لم تتجاوز ثلاث أشهر بسبب إحدى زيارات والدته، الممرضة المختصة، حيث شاهدته مصاباً بالحصبة، وأصرت أن يعود للإقامة في المنزل كي يتعافى. درس جورج في مدرسة الأمة من الصف الابتدائي إلى غاية الصفة السابع، تاركاً القدس ومدرسته في آذار من العام 1948. كانت مدرسة الأمة مدرسة مختلطة، ومن المدارس التي كانت تقدم التعليم الثانوي للتحضير لامتحان "المتريكوليكشن" الإنجليزي. من الأساتذة والمربين الذين علقت أسماؤهم في ذاكرة جورج: أمير الصيداوي معلم الرسم والخط، مس بيبي، مس بوارشي، مس كتوعة، نصري جاسر، وشكري حرامي. أما بالنسبة للطلاب، فيتذكر منهم: إميل جودة، حاتم أبو غزالة، علي علم الدين، رجا السلطي، إميل الجوزي، بهجت كوجكجي.
مدرسة الأمّة، مدرسة الفرندز، والجامعة الأمريكية في بيروت
قبل نكبة سايكس بيكو، كانت بيروت عالماً بحد ذاته، ويافا عبارة عن جسر بين بيروت والقدس. وهنا، لا أحصر العوالم بحدود عربدة البريطاني أو الفرنسي، ولكن بتقاطعات أغنى وأثرى. نتعلم يومياً عن أهمية يافا، بعيداً عن حصرها بالميناء على الرغم من أهميته. ننظر إلى يافا قبل النكبة عبر استحضار مستشفياتها، مطاعمها، مؤسساتها الرياضية والثقافية والدينية، فضاءاتها الإنسانية. كانت تصل موزاييك بيروت بموزاييك القدس، بريفهما وصحاريهما.
في عالم ما قبل سايكس بيكو، قد تربطك أكلة ما، حرفة ما، طائفة ما، مقطوعة موسيقية ما، بعدة أماكن، أديان، ثقافات، فتتشكل هويتك عبر عملية تقطير، لا عبر عملية تطهير.
مع كل صيف، لا بد لجورج من زيارة عمته في يافا والتعريج على بحرها، فيسبح ويستجم بوقته على شواطئها. مصر كانت إحدى وجهات العائلة، وفي إحدى الزيارات، في العام 1941، صادفت العائلة قوافل عسكرية للجيش الإنجليزي العائد من معارك طبرق. أما بيروت، فقد كانت وجهة مفضلة لدى جورج عند زيارته لعائلة أمه في قرية شحيم جنوبي بيروت مروراً بالناقورة الحدودية. وصف جورج يافا بـ"سويسرا الشرق" لجمالها وأبّهتها، بحيث كانت تبدو له عالماً أكبر من يافا. جاءت أم جورج، السيدة أدما فارس عيد، من قرية شحيم جنوبي بيروت، لتتعلم التمريض في مستشفى يافا الحكومي، وبعدها تزوجت ميخائيل، والد جورج. تخرجت بشهادة تمريض وعملت في عدة مستشفيات في يافا، وهو الفضاء الذي جمع أدما بعمّة جورج التي كانت زميلتها في مهنة التمريض، وبدورها عرفت ميخائيل على أدما وتزوجا. تحتل والدة جورج حيزاً خاصاً في ألبومه المصور، بحيث نشاهدها في الكثير من الصور حول المنزل.
مع النكبة تركت العائلة المنزل في حي البقعة الفوقا وأمضت سنة في القاهرة وبعدها عادت إلى عمّان ومن هناك اتجهت إلى رام الله، بحيث تحولت رام الله إلى بيتهم الثاني. في البدء، أراد والد جورج العودة إلى ما تبقى من القدس، ولكن سرعان ما اقترحت عليه أخته السكن في رام الله كي يدرّس أبناءه في مدرسة الفرندز العريقة، فكانت المدرسة وراء استقرار العائلة في المدينة لغاية الآن. من أسماء أساتذته، يستذكر: سالم سالم، جراهام لينارد، أبو الأديب (تلميذ طه حسين). بالنسبة للطفل جورج آنذاك، بدت رام الله له عالماً أصغر من القدس، فعدد السيارات (الأوتونبيلات) كان أقل، وضوضاء المدينة أخفت.
من رام الله، توجه جورج إلى بيروت في العام 1953 فدرس الصيدلة في الجامعة الأمريكية وأصبح معاصراً للطلاب جورج حبش ووديع حداد، الذين سبقوه في الدراسة. تخرج من الجامعة في العام 1958، ليعود إلى القدس ويصبح "صيدلي القدس"، أي المسؤول عن القطاع الصيدلي في القدس. نما وعيه السياسي في بيروت، بحيث حاولت الكثير من التيارات السياسية "اصطياده" في الجامعة، ولكن هواه جاء على هوى القوميين العرب دون أن ينضم لهم. في إحدى جولات الاستقطاب السياسي، قام أحد أصدقائه من دار عطاالله في القدس، بدعوته إلى مقهى فيصل، الواقع مقابل مدخل الجامعة الأمريكية في بيروت والمعروف بكونه فضاءً نابضاً بالحركة الفكرية والسياسية. حاول الصديق استقطابه ولكنه لم يفلح بسبب تحذير دكتور عيسى السلطي لجورج، بضرورة عدم التفرغ لهذه الأنشطة السياسية على حساب الدراسة. أما سنة التخرج، أي العام 1958، فقد كانت حافلة بالأحداث نظراً للتدخل العسكري الأمريكي في لبنان، وهو الأمر الذي دفع إدارة الجامعة الأمريكية بعقد حفل التخريج في منزل المدير.
تهجير العائلات والباصات وإعادة البناء
منذ الصغر، كان جورج مولعاً بقيادة السيارات وهذا الولع كان مرتبطاً بطبيعة عمل والده ميخائيل، الذي بدأ حياته نجاراً، ومن ثم سائقاً مقرّه باب الخليل في القدس. عالم النقل هذا كان مهيمناً عليه من قِبل الشركات الصهيونية، ما دفعه لكي يكون شريكاً مؤسساً في شركة الباصات الوطنية، والتي انطلقت عام 1932 لتربط قلب القدس بقلوب باقي مدن فلسطين. إنشاء الشركة لم يأت بسهولة، فقد جاء بعد شد وجذب مع حكومة الانتداب التي رفضت في البداية منحه الرخصة، ولكن سرعان ما تراجعت عن ذلك. اتخذت شركة الباصات الوطنية "عمارة الأرمني" الواقعة في شارع يافا بالقدس مقراً لها، ووصل عدد باصاتها إلى 110 باص قبل النكبة.
كان ميخائيل شريك آل ناصر في شركة أخرى وهي شركة باصات "نمرة 6"، وكان هذا المسار عبارة عن خط باصات داخلي وصل البقعة الفوقا بباب الخليل مروراً بماميلا، بقوام 12 باص، اثنان منهم، من نوعية "فيديرال"، تم تصفيحهما في العام 1948 لحماية الركاب من نيران العصابات الصهيونية التي كانت تطلق النار على الباصات العربية. في وقت الحرب، ومع تزايد الطلب على المواد المستخدمة في المجهود الحربي، أصبح الصفيح الحديدي عملة نادرة، وخاصة بعد استهلاكه الكبير من قِبل الحركة الصهيونية في تصفيح حافلاتهم. على إثر ذلك، توجه والد جورج إلى دمشق وجلب صاج بسُمك 4 ملم لحماية الباصات من اختراق الرصاص، وتمت عملية التصفيح في القدس. في فترة لاحقة، استخدم المقاومون الفلسطينيون الباصين المصفحين في عملهم اللوجستي، وشوهد أحد الباصات وقد شبّت فيه النيران داخل منطقة صهيون عند باب النبي داود، أما الباص الثاني فقد اختفت آثاره. بعد النكبة أعادت الشركتان تسيير حافلاتهما على الخطوط الداخلية في الضفة الغربية بعد ضمها إلى الأردن، وهذه النقلة لم تكن لترى النور لولا تدخل ملك الأردن، عبد الله الأول، الذي أعطى الحق للشركتين بتسيير الباصات في الضفتين، وخاصة بعد رفض أصحاب الخطوط الداخلية في الضفتين السماح لشركة الباصات الوطنية بمزاحمتهم على الركاب. يستذكر جورج مقولة كان يرددها والده ميخائيل بعد زيارته للملك عبد الله الأول وطلب المساعدة منه: "السيارة كالبعير، أينما تشاء تسير".
"صيدلي القدس"
بعد إنهاء جورج تخصصه الجامعي في موضوع الصيدلة، عاد إلى رام الله كي يدير صيدليته الخاصة، فقام والده باختيار موقعٍ مناسبٍ في قلب المدينة وتجهيزه. للحصول على الترخيص، توجه جورج ووالده إلى عمّان لتقديم طلب الرخصة، وهو الأمر الذي قوبل بالرفض بسبب إصرار وزارة الصحة الأردنية على تعيين جورج صيدلياً مسؤولاً عن القدس، بسبب ندرة الصيادلة في ذلك الوقت. في البداية، رفض جورج ذلك، وحصل على عرض عمل مغرٍ في الكويت، وأراد السفر خارج البلاد عبر مطار القدس الدولي، أو ما عرف بمطار قلنديا، وهو المطار الأول الذي أنشأته حكومة الانتداب البريطاني في فلسطين.
بعد جلوس جورج في الطائرة، قام أحد المسؤولين بإنزاله من الطائرة بعد إيقافها وهي في حالة إقلاع، تحت ذريعة منع السفر بسبب عدم وجود تصريح من وزير الصحة بمغادرة البلاد، وعندما استعلم جورج عن ذلك علم أنّه ممنوع من السفر كي يضطر لقبول المنصب المعروض عليه. أعاد الكرة ثانيةً من المعابر الأردنية-السورية، وواجه نفس الحائط. في النهاية، قبل جورج بالواقع واستلم المنصب الجديد في قلب مستشفى "الهوسبيس" أو ما عرف بالمستشفى النمساوي الواقع في البلدة القديمة في القدس، والذي تحول إلى مستشفى مدني على زمن الحكم الأردني. مكان العمل هذا وصله بعائلة صنصور من بيت جالا وهناك تعرَف إلى زوجته المستقبلية، الآنسة رينيه صنصور، والتي ترافقه في حياته منذ ذلك الوقت.
وظيفة "صديلي القدس" كانت وظيفة هامة، بحيث كان مسؤولا عن جميع الصيادلة في القدس وعليه التدقيق في التراخيص، والتوريدات الدوائية لوزارة الصحة الأردنية، أما معاشه الأول فقد كان 46 ديناراً وثلاثة قروش وملينين، أدنى بعض الشيء من معاش الطبيب، ولكنه كان أضعاف معاش الموظفين برتبٍ دنيا. ظلّ جورج في مستشفى "الهوسبيس" لغاية نكسة عام 1967. أثناء الحرب، وصلت شاحنتان محملتين بالأدوية من الأردن، وقام جورج بتفريغ الحمولة في مستشفى رام الله، وعلى مدار سنتين قام بتوزيع الحمولة على كل مستشفيات الضفة الغربية.
المنزل المهجور وصوت الحرب بين النكبة والنكسة
يستذكر جورج كل غرفة في منزل طفولته المنهوب، مع زيارة له بعد نكسة عام 1967، ماشياً على الأقدام من باب الخليل إلى البقعة الفوقا. في البداية، أصابته الدهشة، فقد ظنّ لوهلة أنّ المنزل يبدو كما كان عليه، ولكنه فوجئ عندما دخل الباب بأنّ غرف المنزل قد تحولت إلى ساحة وصالة رياضية مفتوحة. جرّه الحنين وذكريات الطفولة إلى هناك، إضافة إلى كنز أمّه المدفون والذي دفن في المنزل في آذار كئيبٍ من العام 1948.
في ذلك الوقت، ظنّت العائلة أنّ الزيارة إلى مصر قد لا تتعدى بضعة أسابيع، وفيها سيزورون شريك عائلتهم المريض، نصري ناصر، الذي كان يتداوى في القاهرة وقد طلب منهم بنفسه القدوم إليه لفسحة من الزمن. أشار والد جورج على والدته ترك القسم الأكبر من المصاغ الذهبي وبعض النقود في المنزل، فحفر الوالد حفرة صغيرة في فناء الحمّام لكيلا يتم تدفعيهم ضريبة الجمرك على المعابر الفلسطينية-المصرية. حاول الوالد استرجاع الصيغة فبعث رسالة إلى أخيه الموجود في البيت ولكن الأخ كان لتوه قد غادر متجهاً إلى مصر. بعد فترة وجيزة، وقبل سقوط الحي، قام ابن عم أبوه بإفراغ البيت من المقتنيات، ونقل، الكثير من الأثاث، السفرة، الثريات، الراديو، طاولة، إلى راهبات بنات المحبة وهذه المقتنيات تسكن منزله في رام الله. بقي في المنزل كلب العائلة أندي ونسر محنط على الحائط والمصاغ الذهبي.
يروي جورج أنّ حيه لم يكن قد سقط بعد فترة مغادرة العائلة إلى مصر ولكنه كان بين فكي كماشة حيي ميكور حاييم ووتل بيوت الصهيونيين، وأحد أوجه الخطر المحدق آنذاك تمثل بمرور باصات العصابات الصهيونية، وبالأخص باص نمرة 8، وإقدامهم على إطلاق النار بعشوائية باتجاه البقعة الفوقا، ناهيك عن اشتباكات ليلية، وهو الأمر الذي كان يبكي أخته الصغيرة على الدوام وهو من الأسباب التي شجعت العائلة على السفر إلى مصر بنية العودة القريبة. حالة الخوف هذه لم تكن وليدة النكبة، فمن مشاهد الرعب التي عاصرها جورج، بل كان قريباً منها وشاهدها بأم عينه، حادثة تفجير الحركة الصهيونية لفندق الكينج دافيد في العام 1946، وهو الفندق الذي احتضن دوائر حكومية انتدابية في تلك الفترة. وثق جورج في ألبومه بعضاً من مشاهد الحرب هذه، فصورة تأخذنا لمشهد حريق في منطقة "الشماعة" وصورة أخرى تعود بنا إلى مشهد العمال وهم يصفحون أحد باصات نمرة 6.
التاريخ الشخصي للعم جورج وعائلته لا يتوقف هنا، بل هو أشمل وأوسع، ولكن هذا ما نود قصّه الآن. من قصصه تعرفنا إلى البقعة الفوقا، القدس، يافا وبيروت، ولامسنا طفولته قبل النكبة وشبابه بعدها وعشنا معه تجربته في مدنٍ مختلفة. كل الشكر للعم جورج والمعلمة رينه على وقتهم الذي لا يقدر بثمن، الذي أعطونا إياه أنا والباحثة سمر عوّاد. يأتي هذا العمل ضمن مبادرة "ذكريات فلسطينية مهددة"، بحيث نوثق تاريخنا الشفوي والمرئي ونرقمنه، ومن ثم نتيحه للجميع عبر أشكال قصصية، فنية وثقافية متنوعة. أسس سعد عميرة مبادرة "ذكريات فلسطينية مهددة" في العام 2017 وستتوسع المبادرة بانضمام أعضاء جدد وتطوير مسارات معرفية جديدة وشراكات مجتمعية وتطوعية.