[شكير نصر الدين، ناقد أدبي ومترجم من المغرب، نشر دراسات نقدية عديدة في نقد الرواية والقصة والشعر وترجمات في الرواية والفكر النقدي والفلسفة. في التأليف: "أبحاث نقدية: في الرواية والقصة والشعر، دال للنشر والتوزيع، سوريا، 2015". وفي الترجمة: "جمالية الإبداع اللفظي، ميخائيل باختين، دال للنشر والتوزيع، سوريا، 2011"، و"أعمال فرانسوا رابليه والثقافة الشعبية، ميخائيل باختين، منشورات الجمل، 2015، و"الصحائف الخمس والسبعون، مارسيل بروست، منشورات الجمل، 2023"، وغيرها الكثير].
حاوره إبراهيم الكبلي.
زاوجت بين الترجمة الإبداعية والفكرية في العديد من الحقول المرتبطة بالعلوم الإنسانية، رغم اتّساع الفروق بينهما في طريقة الاشتغال وأسلوب العمل، أين تجد نفسك أكثر بين هذين المكونين؟
المترجم قارئ بالفعل، أي أن الاهتمام بهذا المجال أو ذاك يؤول بنا إلى مسارنا الشخصي كقراء، وبهذه الصفة لا يمكن الجزم بغلبة الإبداع الأدبي أو الفلسفي أو النقدي المحض؛ وإن كنتُ في البدايات أركز على نصوص النقد الأدبي والفلسفة فمرد ذلك إلى الجو العام، ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، أو ما اصطلح عليه بالحركية أو الصحوة الترجمية بالمغرب، فضلا عن الإكراه المتعلق بالنشر آنذاك في الملاحق الثقافية الأدبية التي كان يغلب على موادها ترجمة دراسات ومقالات تنهل من معين الدرس النقدي البنيوي على الطريقة الفرنسية. وشيئا فشيئا صارت الحاجة أكبر إلى نصوص إبداعية تنتسب للجنس الروائي وانفتح الناشر العربي على المترجمين المغاربة فحصل تغيير الدفة قليلا ما إلى ترجمة نصوص روائية. أما عن الميل إلى هذا المكون أو ذاك، فالظن عندي أن قيمة النص هي ما يحدد الانكباب على الإبداع الروائي مثلا أو على العمل الفكري، يختلف النص لكن الاستعداد النفسي والوجداني هو نفسه؛ ثم إن تداخل الأجناس والنصوص يدل على أن الفصل منهجي فحسب، إذ وأنت تقوم بنقل نص روائي (ابن رشد أو كاتب الشيطان، مثلا) فإنك تتصدى لنصوص فلسفية أو منتسبة إلى علم الفلك أو الطب أو علم التاريخ وعلم الحساب أو علم اللاهوت إلخ. كما أن ترجمة نص نقدي (قوى التخييل، لڤانسون جوڤ مثلا) تجعل من اللازم عليك نقل مقاطع من نصوص روائية لمارسيل بروست، أو كونديرا، أو مارغريت دوراس أو إميل زولا، وعليه فإن ما يواجه المترجم هنا أو هناك هو تلك المقاومة التي يبديها النص في هذا الموضع أو ذلك، لغة وأسلوبا ومرجعيات ومظاهر فنية وجمالية والليونة المطلوبة للتغلب عليها.
الترجمة بين المغامرة والمتعة فاصلان قد يتحققان معا. كيف توائم بينهما؟
لولا المتعة لما كان ثمة دخول لغمار الترجمة، لا يعني ذلك أن الترجمة مريحة بدنيا ونفسيا، لكن أثناء الاشتغال على نص قد يكون صعب المراس ومتعذر الولوج يستبد بالمترجم ما يشبه الحيرة بل والارتياب في القدرة على مجاوزة المسالك الوعرة والألغام المدفونة هنا وهناك، لكن ركوب هول الترجمة بكل ما يحمله من مصاعب تصاحبه في الغالب متعة لا تضاهى.
كان لاهتمامك بأعمال "ميخائيل باختين" دور كبير في مجمل ترجماتك. هل دوافع هذا الاختيار لديك مرتبطة أساسا بالحاجة الماسّة لباختين وتصوراته النقدية؟
تعود علاقتي بمنجز ميخائيل باختين إلى مرحلة الدراسة الثانوية إذ تيسرت لي وأنا بعدُ تلميذ قراءة الكتيب "الملحمة والرواية" بترجمة جمال شحيّذ، الذي يعد في الأصل فصلا من كتاب "جمالية الرواية ونظريتها"، والحال أن في منتصف الثمانينات كانت العملة النقدية الرائجة في المدارس الثانوية وبفضل أساتذة اللغة العربية حديثي التخرج من الجامعة المغربية هي ما سمِّي بالبنيوية التكوينية ومدرسة النقد الفرنسي، خاصة مدرسة باريس، لكن ترسب ما استوعبته آنذاك من أفكار ضمها ذلك الكتيب، إلى أن جددت الصلة بأعمال باختين في إطار التكوين الذاتي زمن الجامعة وبعدها مع كتابه العمدة "جمالية الإبداع اللفظي" ثم توطدت الصلة بكتبه الأخرى، وخلال كل تلك الأعوام كنت أشعر أن ميخائيل باختين، ذلك القارئ الكبير بلغات متعددة، وبأطروحاته السابقة على زمانه لم يلق الاهتمام الواجب، ذلك أن الدرس النقدي مغربيا وعربيا، درج على تداول بعض من مفاهيمه الرئيسة مكتفيا بالقشور و بنصوص بعينها مُجتزأة من هذا الكتاب أو ذاك، بل والأدهى من ذلك مع تخبط كبير في إدراك المعاني الحقيقية لمفاهيمه المؤسسة، أذكر هنا على سبيل المثال مفهوم البوليفونيا الذي صار، هكذا، تعددا للأصوات بالمعنى الحسابي والشكلي وليس بالمعنى الأفكاري [الإيديولوجي]، فضلا عن التركيز على وجه واحد لباختين وإهمال لوجوهه المتعددة، كما لم يعمل النقاد والدارسون على استثمار منجزه بما يطور الدرس النقدي مثلما صنع جون ميشيل آدم، على سبيل المثال لا الحصر، عند الرفد من المعين الباختيني دعما لمشروعه في اللسانيات النصية وتحليل الخطاب...
هل استطاعت الترجمة في المغرب أن تقوم بوظيفتها على المستوى الإبداعي والفكري والنقدي؟ وهل هناك تقويم إجمالي لأهمّ منجزاته؟
لا ينكر سوى جاحد ما قدمته وتقدمه الترجمة، للجمهور المغربي خاصة، والعربي عامة، على جميع المستويات. لقد كان لحركية الترجمة المذكورة أعلاه آثارها العاجلة والآجلة؛ من ذلك فصاعدا ضُخَّت دماء جديدة في الدرس النقدي داخل الجامعات أو عبر التداول الصحافي في المجلات والملاحق الثقافية، مما بوَّأ الترجمة المغربية مكانة مرموقة على الصعيد العربي؛ كما كانت آثارها بادية للعيان في الإبداعات الروائية والقصصية والشعرية وغيرها، إذ استفاد الكتاب مما راكمته المكتبة الترجمية نقديا في صياغة نصوصهم شكلا أو مضمونا سيرا على هدي "الرواية الجديدة" [الفرنسية]، أو من خلال استلهام فكرة "الرواية البوليفية" ولو شكليا، أو كتابة "التخييل الذاتي" وغيرها من المفاهيم أحيانا حدّ الخلط والالتباس بل وبتهافت مضحك إلى أن هدأت فورة المحاكاة العمياء وفرز التاريخ بين الغث والسمين... لكن مع الثورة الرقمية كأننا نتقهقر إلى اختلاط الأجناس واستسهال الكتابة في الرواية وفي الشعر والقصة، لكن التاريخ الأدبي يقوم دائما بالفرز، "أما الزبد فيذهب جفاء".
ترجمتَ "صمت الآلهة" و"الملكة المصلوبة" و"ابن رشد أو الكاتب الشيطان" و"ليالي القاهرة" للكاتب الفرنسي جلبير سينويه، هل مرد هذا الاهتمام، بالنظر إلى هذه الترجمة المتعددة في الأعمال إلى إعجاب خاص بهذا الكاتب الفرنسي ذي الأصول المصرية اللبنانية؟
اكتشفت الروائي جلبير سينويه منذ زمن غير قريب بصفتي قارئا مثل جميع القراء، إذ واظبت على قراءة رواياته عند توفرها في المكتبات والخزانات بالمغرب، وحرصت على تتبع أعماله الروائية عن إعجاب طبعا إلى جانب نصوص روائية لكتاب آخرين، وبالتالي حينما اقترح علي الناشر العربي ترجمة روايته "الملكة المصلوبة" لم أتردد لأني كنتُ أعرف مسبقا النوع الروائي المفضل عند سينويه ألا وهو الرواية أو التخييل التاريخي، وهكذا تواصل العمل على نقل ما يقترحه الناشر عندما يحظى بقبول مني طبعا، وإن صارت لدي ألفة مع رواياته فإن "ابن رشد أو كاتب الشيطان" تحظى عندي بمكانة خاصة، وربما مرد ذلك إلى أن كلما كانت الرواية قوية في الأصل، كانت كذلك في النقل؛ أحيانا نقوم بالجهد نفسه، قليلا أو كثيرا، لكن لضعف ما في النص الأصل لا تلقى الترجمة بالا ولا إقبالا.
هل هناك صعوبات تعترض عملية الترجمة على مستوى النشر والتلقي؟ وهل هناك حاجة ملحة الآن، لأن يتمّ الاهتمام بها انطلاقا من مؤسسات مسؤولة عن تأطير مجال الترجمة ودعمها؟
ما هجرتي إلى الناشر العربي إلا دليل لا مزيد بعده عن صعوبات الترجمة على مستوى النشر في المغرب أولا، أما بخصوص التلقي فهناك انطباع عام بجودة المنتوج وتداوله غربا وشرقا، لكن تظل الترجمة ذلك القريب المسكين الذي وإن كان يسدي أعمالا جليلة فقليلا ما يلتفت إليه، وإن جرى ذلك ففي إطار أضيء لي أقدح لك وبيِّن لي أجِبْك، فضلا عن العجز عن مواكبة الكتب المنشورة كما تليق المواكبة، خذ مثلا كتابا من حجم "جمالية الإبداع اللفظي" أو "أعمال فرانسوا رابلي والثقافة الشعبية..."، أستغرب كيف أنهما لم يحظيا مغربيا سوى بعرض نقدي واحد ووحيد أنجزه الأستاذ الباحث محمد مستقيم، بينما حظيت كتب باختين الثلاثة (المذكوران وكتاب "الفرويدية") بقراءات وعروض نقدية كثيرة في المشرق أذكر منها مقالات جمال شحيّذ، محمد أبي سمرا، وفيق غريزي، ثائر ديب، هاشم ميرغني، بينما يتم الإعلاء من شأن ترجمة عنوان ليس في الأصل سوى فصل من بين فصول عدة. أما عن الاهتمام، مؤسسيّا بالترجمة، فأرى أن الإبداع عامة لا يحتاج إلى مؤسسات رسمية أو مستفيدة من دعم، طبعا على دور النشر الخاصة، باعتبارها مقاولات حرة، أن تدعم النشر والتوزيع والتداول مثلما في أوروبا مثلا، أما أن يتهافت كل من هبَّ ودبَّ على النشر ويستفيد من الدعم بل فضلا عنه يبخس الكاتب أو المترجم حقه، المالي والرمزي، فذلك لن يؤدي إلا إلى مزيد من التخلف الثقافي.