(منشورات تكوين، الكويت، 2024)
[هدى حمد: كاتبة وروائيّة عُمانيّة حاصلة على ليسانس في الأدب العربي من جامعة حلب في سورية، وهي صحافية في القسم الثقافي في جريدة عُمان، وتعمل حاليًا رئيسة تحرير مجلة "نزوى" الثقافية].
جدلية (ج): كيف ولدت فكرة النصوص؟
هدى حمد (هـ. ح.): نبعت فكرة المجموعة من الأمّ التي تُعلِّم العودة إلى البيت من المصنع المهجور - الذي يستحوذ على مخيلة ابنتها - بعلامتين اثنتين: أسراب عصافير الدوري العائدة إلى أعشاشها، وصوت أذان الجد في المصلى المجاور لبيوت القرية. ولذا، احتاجت الطفلة الصغيرة لوقت طويل لتصدق أنّ أجنحة عصافير الدوري.. بالغة الرهافة تلك.. تجلبُ الضوء الصباحي تماماً كما تجلبُ العتمة.. ولذا علينا ألا نتفاجأ من الكراهية التي نمت في طبقات عميقة من روح البنت كما قد ينمو سرب طيور مهاجر!
(ج): ما هي منابع وروافد المجموعة ومراحل تطوّرها؟
(هـ. ح.): في الحقيقة، عندما انتهيتُ من كتابة روايتي الأخيرة "لا يذكرون في مجاز" لم أستطع التخلص من شخصياتها الكثيفة. وجدتُ صدى حكاياتها يتكررُ في كل ما أحاول كتابته، ولذا فكرتُ في حيلة أخدع بها عقلي.. قلتُ في نفسي: ماذا لو عدتُ إلى القصص التي كتبتها خلال عشر سنوات مضت!
كانت آخر مجموعة قصصية كتبتها "الإشارة برتقالية الآن" وقد صدرت عام 2013، وبعدها أصدرتُ روايات متتالية: "التي تعد السلالم"، "سندريلات مسقط"، "أسامينا"، "لا يذكرون في مجاز"، ولكن في أثناء كتابة هذه المشاريع الروائية، أخذت القصص تنمو على مهل أيضاً. نشرتُ بعضها في الصحف، والبعض الآخر ظل أسير المسودات المُتوارية في الأدراج أو على جهازي اللوحي.
(ج): ما هي الثيمة/ات الرئيسية للعمل، ما هو العالم الذي تأخذنا إليه النصوص؟
(هـ. ح.): هواجس الطفولة وحقل جدي والجيران الظرفاء، وما تُشكله طيور الدوري من فزع وبهجة، فقدومها - وأعني عصافير الدوري - كان يعني انتهاء اليوم في مشهد جنائزي بالنسبة إلى الطفلة التي تلببُ مع أقرانها في مصنع مهجور، وكان يعني أيضاً العودة الباكرة إلى البيت.
قسمتُ المجموعة إلى ثلاثة أجزاء، تعلق الجزء الأول "بما تخبره العصافير في التعريشات"، فتظهر في البداية مساعدة طبيب التخدير التي تكتب القصص، امرأة مُتشنجة، حادة الطباع، تريد أن تروي قصصها التي لا تُقرأ من قبل أحد، وبعد طول انتظار تجد ضحيتها التي تتشارك معها في تاريخ طفولي مُربك.
في الجزء الثاني كانت "الديناصورات تُنمي أجنحتها"، نجد أنفسنا أمام سبع قصص، بطلاتها نساء، لكل واحدة منها قصّة شقاء مغايرة عن الأخرى، لكنه الشقاء الذي يذهب إلى "الواقعية النفسية" للشخصيات.. تظهر من تريد أن تعيش قصّة مغايرة لقصّة أمّها المثالية، تظهر أخرى يزورها والدها الجزار في أحلامها بمئزر يدمي، وثالثة أقصى ما تتمناه أن تعد الطعام الذي يُشبه قريتها في حقول بعيدة، وأخرى تتوجس خيفة من ورق جدران تركته زوجة سابقة لزوجها، يصبحُ الأمر أكثر عنفاً وتعقيداً عندما يتمزق النُبل الذي نربطه بشخص ما في حياتنا، لكننا نكتشف نقيضه عند موته.. إلخ.
وفي الجزء الثالث بدا أنّ "المخلوق البائس يتسكعُ في شحوب" حياته.. هكذا تستعيد الكاتبة حياتها في حقل الجد، كمن يُحاول أن يُعيد نبض القُرى العُمانية القديمة في لقطة فلمية طويلة وممتدة.. بعدها تعود الطيور الجريحة لأعشاشها لكي تموت.
(ج): كتابُك الأخير عبارة عن مجموعة قصصيّة، هل لاختيارك جنسًا أدبيًا بذاته تأثير فيما تريدين قوله، وما هي طبيعة هذا التأثير؟
(هـ. ح.): أحياناً لا نكون نحن من نختار القالب الذي نعمل عليه، وإنّما النسيج، فثمّة نسيج حكائي يُفرشُ له معمار روائي، ونسيج آخر تفرشُ فوقه قصّة.. لكل فن منهما دهاليزه الخاصة وإمكانياته الخلاقة، بين من يصحبنا لطبقات بنائه المُركب وبين من يقبض علينا في لحظة شديدة الكثافة.
ولعلي أتذكر دائما إدغار ألان بو الذي لم يقل بأنّ القصص هي عُقدة بسيطة، لقد أشار بوضوح إلى ذلك المعمار الذي لا يمكن حذف جزء منه دون أن يتداعى، دون أن يتدمر، ولذا فأنا وإن تواريتُ لبرهة من الزمن عن نشر القصص كما دأبتُ من قبل، إلا أنّي كنتُ أكتبها بنهم في الخفاء، أملا ببلوغ ذلك النصّ المثالي والذي لا أناله إلا في مخيلتي، ذلك الذي يصعدُ على شبكة من الأحداث لكنه يرغب في إضاءة جرح أو جوهر ما، لا يمكن القبض عليه بيسر، النصّ الذي يتجذر تحت تربة الحكي، وعبر شعيرات شديدة الدقة تمضي مياه الحياة كلها.
(ج): ما هي التحديات والصعوبات التي جابهتك أثناء الكتابة؟
(هـ. ح.): ليس من اليسير أن نكون أمام قصص كتبت خلال عشر سنوات، لقد تغيرت خلالها "الأنا" الكاتبة كثيراً، تغيرت رؤيتي للكتابة واللغة والمواضيع. كنتُ أشعر بذلك بوضوح، لكني أيضاً كنتُ أؤمن بأهمية أن يلج النصّ غرفة الجراحة لإنعاش قلبه، أؤمن بأنّ ما بدا ساذجاً يمكن أن تُعمق رؤيته من باب خلفي موارب.. فعربة الكتابة مربوطة أبد الآبدين بحصانين كما نقرأ في كتاب "فن الرواية" لكونديرا، حصان بري جامح، وحصان مروض.
ولا أنكر أنّي بعد مرور عشر سنوات على نشر آخر مجموعة قصصية تساءلت: إن كان بإمكاني المُغامرة مجدداً بنشر تلك القصص المُبعثرة، فقمتُ بمعاينتها، لقد كانت قصصاً متباينة من حيث المواضيع وحتى اللغة. وهنا مكمن الصعوبة، ولذا كان ينبغي أن أُعمل مبضع الكتابة ومشارطها. فاشتغلتُ عليها واستبعدتُ بعضها، إلى أن وجدتُ الخيط الخفي والناظم لنغمتها.
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الإبداعية؟
(هـ. ح.): هذه المجموعة القصصية الرابعة بعد "نميمة مالحة" 2006، "ليس بالضبط كما أريد" 2009، "الإشارة برتقالية الآن" 2013، وجاء عقب خمس روايات وكتاب مقالات بعنوان: "تأمل الذئب خارج غرفة المكياج".
(ج): هل هناك نصوص كانت ذات تأثير خاص، أو قرأتها أثناء إنجاز النص؟
(هـ. ح.): أنا حصيلة ما اقرأ، أصابُ بالذهول من الكيفية التي تنمو بها القصص والأفكار وحتى تراكيب الجمل، لطالما كانت القراءة هي مُعلمي الأول الذي أستلهم منه، ولذا لا أستطيع أن أحدد كاتباً أو كتاباً بعينه، فالقراءة تنسرب فينا، وتمضي في تغييرنا، دون أن نُفند تلك العملية المُعقدة على وجه الدقة.
(ج): هل تُفكّرين بقارئ محدّد أثناء الكتابة، صفيه لنا؟
(هـ. ح.): صديقٌ متخيل - هذا ما كتبته ذات مرّة - صديق مُتخيَّل يسكنُ رأسي منذ الطفولة، قارئ نهم، يعيد تفكيك الأشياء المُعقّدة من حولي ويُعقّد ما هو عادي. يكتبُ معي بقدر ما يمحو. في الأوقات الصعبة يُعيد كَرَّ شريط حياتي ليريني تفاهة الأشياء والبشر والحياة. قد يكون هذا الصديق فكرةً أو شخصية هاربة من الروايات، قد يكون أيّ شيء آخر، لكنّه مُحرِّضٌ أصيل لسيل من الخيالات والأفكار.
(ج): ما هو مشروعك القادم؟
(هـ. ح.): مشروع روائي جديد، تنهضُ ثيمته الأساسية على تاريخ مرض استشرس في عُمان. أحاول تناول فترة ثلاثينيات القرن الماضي، تلك العذابات الذي تدفع البشر لخيارات غير عادلة، في وقت لم يكن العلاج قد وصل بعد، الأمر الذي يكشفُ عن شخصيات عبرت ممر آلامه وخيباته وخساراته.
مقتطف من المجموعة
خِرق "آريان" وحزنه!
قريباتُ جيراننا المُترفات اللواتي يعشن في مسقط، يأتين إلى حقلنا أيام العيد والإجازات، يحملن دُمى حقيقية فيثرن غيرتنا. أُخمن أنّنا يمكنُ أن نصنعَ الدُمى أيضا، ولكن ما ينقصنا الفساتين وحسب! يتركُ "آريان" خياطُ القرية، بقايا الأقمشة في كرتونةٍ كبيرة جوار ماكينة الخياطة، التي تتزينُ بفراشةٍ ذهبيةٍ لا تطير. رأسُ "آريان" كرأسِ جدي لا يرتفعُ أيضا، ليس لأنّه يجرحُ أرضَه بالرفش، بل لأنّه يُدخلُ خيطا في رأس إبرة على الدوام. رأسُه مُنحنٍ ليرقبَ قطعَ القماشِ التي تمر بسلاسةٍ تحت طعناتٍ لا نهائية من إبرةٍ تتحركُ بصورة مُفرطة. يداهُ والإبرة كما لو خُلقا معا، كما لو كانا معا في رقصة، كلُّ طرفٍ يعرفُ متى يبدأ ومتى يتوقف، كلُّ طرف ينتبهُ لحركةِ الآخرِ ويقيسُ عليها ردةَ فعله. تتشكلُ الثياب بقياساتٍ واسعة وضيقة، طويلة وقصيرة، سادة ومزركشة. لم أشاهده يرفعُ رأسَه قط، إلا ليُعدل نظارته المُنزلقة فوق أنفه.
جواره يربضُ كنزنا الأثير، كرتونةٌ مُمتلئةٌ عن آخرها ببقايا خِرقِ الثيابِ التي تُفصلها نسوةُ مرتفعاتِ الخضراء، لكنه يضنّ علينا ويرفضُ أن يُعطينا مهملاته. نظراته ممتلئة على الدوام بتوبيخ غامض، فيما لو حاولنا مدّ أيدينا، يُفزعنا ونعجزُ عن طلب كرتونته الغالية على قلوبنا، ولذا عزمتُ على مراقبته لأيام متواصلة، لكنّه لم يكن يتخلصُ من كرتونته في سلّة المهملات العامّة، وحتى اللحظة لا أدري عندما تمتلئ الكرتونة أين يذهب بخرقِهِ البالية تلك؟
كنا نريدها بقوة من أجل الدُمى التي نصنعها من أغصان المانجو الصغيرة، لكنّه لم يُفسح لنا يوما فرصة مدّ أيدينا لننعم بملمسها الخرافي. أبحثُ دوما عن أغصان جيدة يمكن أن توحي برجلين أو يدين أو بانحناءة خصر، لاحقا يمكنني أيضا أن أضيف أجزاء أخرى وأربطها بإحكام، أرسم عيونا وشعرا فوق قطعة قماش بيضاء أثبتها لتغدو رأسا للدمية. كنتُ موهوبة، لكن تنقصني الفساتين. لم نكن نفهم الكبار، لم نكن نفهم أسبابهم، ما الذي يمكن أن يخسره "آريان" لو أنّنا كسونا بناتنا الدمى ثيابا من بقايا أشغاله؟
كان ينبغي أن أضع خطة، وأن أقود الفتيات لكرتونة "مِنى" بحذر شديد، لكيلا يشعر بأجسادنا الصغيرة وهي تتسلل. كان ينبغي أن ندرب أصابعنا على خفة الاستحواذ، على الركض الذي لا يعقبه نكوص.
بعد مشاورات طويلة بعيدا عن آذان الأولاد، اتفقنا على إلهاء "أريان" بينما تطير إحدانا بالكرتون وتجري بأقصى ما يمكن من سرعة، كنتُ أنا غالبا التي ستفعل ذلك. أعرفُ جيدا أنّه سيطارني إلى ما لا نهاية، أركضُ والكرتونة بين يديّ، وقلبي يكاد يخرج من حلقي، وآنذاك التفتُ نصف التفاتة لأنظر إليه، لكن "مِنى" يقفُ عند عتبة المحل جامدا في مكانه، يلتمعُ حزنٌ جارفٌ في عينيه.
ننظرُ، أنا والفتيات، إلى الكنز بفرح غامر، قطع بألوان لا نهائية وأحجام مختلفة. صممنا الفساتين، لم تتمكن إحدانا بعد من الحياكة، لا إبر ولا خيوط معنا، ولكننا نقصُّ القماش بالمقص الذي يقص به جدي صوف الخرفان، والذي يحتفظُ به في مخزن الزريبة جوار معداته الأخرى. تعاهدنا جميعا على أن نعيد المقص قبل أن يشعر أحدٌ بغيابه، لكن لم يكن من اليسير استخدامه، كان كبيرا بين أصابعنا، ونتف الأقمشة كانت صغيرة. بذلنا جهدا كبيرا، عقدنا الأربطة في وسط الدمى المخترعة، وامتلأنا بسعادة لا توصف في اللحظة التي تصورنا أنفسنا أمهات حقيقيات يُطلقن الأسماء على البنات المولودات حديثا.
ابتهجت الدمى بين أيدينا بفساتينها الجديدة، ثم اختلقنا العديد من الحوارات وحفلات الشاي فيما بينها. أعدنا المقص لمخزن الزريبة، وخبأنا الكرتون في مكان يصعب على الأولاد تخمينه، ليبقى مكاننا السريّ والآسر، وفي آخر الليل شغلني حزن "آريان"، وتمسكه المُفرط بمهملاته!