(دار المرايا للثقافة والفنون، القاهرة، 2024)
[أحمد إيمان زكريا، كاتب مصري من مواليد القاهرة عام 1987، تخرّج من كلّية الاقتصاد والعلوم السياسية في "جامعة القاهرة"، وحصل على درجة الماجستير في الإعلام والدراسات الثقافية من جامعة لانكستر بإنجلترا. يعمل في الصحافة والإعلام والإنتاج الصوتي منذ 2009. صدرت له مجموعة قصصية خلال العام الجاري بعنوان "العاقرات يُنجبن أحياناً"].
جدلية (ج): كيف ولدت فكرة النصوص، ما هي منابعها وروافدها ومراحل تطوّرها؟
أحمد إيمان زكريا (أ. ز.): على مدار السنوات يشغلني الشأن العام المحلي والإقليمي والدولي وأثره علينا أفرادًا وجماعات، في منطقة عربية تعاني من الاستبداد والجهل والفقر. وطالما شغلني سؤال السلطة، وجاءت أفكار النصوص، معظمها، لتدور في فلك هذا السؤال، سواء عن وعي مباشر حول قضية ما، مثل قضية اللاجئين أو لا وعي، مثل مقاومة كل أنماط السلطة بداية من سلطة المنزل وصولًا لسلطة الإعلام.
تنوعت روافد النصوص، فمنها ما جاء من خلال تجارب شخصية، ومنها ما تكون خلال قراءات تاريخية وأنثروبولوجية. أما تطور النصوص فكان مختلفـًا من قصة لأخرى، فهناك قصص ظلت تتطور لشهور، وقصص أخرى تمكنتُ من كتابتها في ساعات قليلة.
(ج): ما هي الثيمة/ات الرئيسية، ما هو العالم الذي تأخذنا إليه النصوص؟
(أ. ز.): يمكنني أن أقول إن العنف هو الثيمة الكبرى الجامعة للقصص، كذلك هناك ثيمات أخرى مرتبطة بالسلطة والقهر والفقد وعلاقات القوى بين الأفراد. وهناك عوالم متنوعة، منها الواقعي ومنها المتخيل، ومنها المحلي ومنها الأجنبي، لكن جميعها عوالم تتفق على شيء واحد أن قهر الإنسان لا يختلف مهما اختلفت جنسيته أو عرقه.
(ج): كتابُك الأخير عبارة عن مجموعة قصصيّة، هل لاختيارك جنسًا أدبيًا بذاته تأثير فيما تريد أن تقول، وما هي طبيعة هذا التأثير؟
(أ. ز.): هو كتابي الأول، واختياري للقصة القصيرة جنسـًا أدبيـًا مرتبط بطبيعة السرد الذي أفضله حاليـًا. فالقصص القصيرة تتيح لي مساحة أوسع في الحركة من ناحية الأفكار والأسئلة والقضايا التي أود طرحها، كما أن الزمن يكون أكثر تكثيفــًا من ناحية وقوع الأحداث أو تطور الحبكة.
إضافة إلى استخدام هذا الجنس الأدبي للتحرّك جغرافيــًا وتاريخيــًا وشخصياتيـًا في عوالم أكثر تنوعـًا، قد لا تتيحها لي الرواية مثلًا. كما أن القصة القصيرة تشبه اللطمة على الوجه، على عكس الرواية التي تتسرب إليك كالمخدر.
(ج): ما هي التحديات والصعوبات التي جابهتك أثناء الكتابة؟
(أ. ز.): الاستمرارية ما بين قصة وأخرى، بمعنى آخر، الحفاظ على خط زمني مستقر بين كتابة القصص، وهذا لم يحدث. فمثلًا أول قصة كُتبت عام ٢٠١٥، في حين تتالت القصص الأخرى في أسابيع قليلة خلال عام ٢٠٢٠، ثم انتهيت من آخر قصة في ٢٠٢١. وأظن أن أحد أكبر التحديات التي تواجهني أثناء الكتابة هو الشك في قيمة ما أكتب، إذ يراودني هذا السؤال دومـًا: هل تستحق كتابتي أن يقرأها الناس؟ ولماذا قد يقرأ الناس لي وسط كل هذه الإنتاجات الأدبية؟
هذا الشك يؤخرني أحيانـًا، لكنه في الوقت نفسه يساعدني على التطور الذاتي.
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الإبداعية؟
(أ. ز.): من ناحية الزمن، هو أول عمل. أما القيمة، فلا يمكنني تقييمه الآن. ربما بعد سنوات يمكنني وضعه ضمن أعمال أخرى، حال استمرت مسيرتي الإبداعية. لكن يمكنني أن أقول إن كثيرًا من قصص هذه المجموعة ستظل محفورة في ذاكرتي ولها قدر كبير في نفسي.
(ج): هل هناك نصوص كانت ذات تأثير خاص، أو قرأتها أثناء إنجاز النص؟
(أ. ز.): أحد أهم الروافد التي ألهمتني أثناء الكتابة، كتاب المفكر المصري الراحل أحمد أمين "قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية".
(ج): هل تُفكّر بقارئ محدّد أثناء الكتابة، صفه/ لنا؟
(أ. ز.): لا يمكنني أن أقول ذلك، فأنا لا أفكر كثيرًا في القراء أثناء الكتابة، ما يشغلني هو مدى صدقي أثناء الكتابة، فالكتابة الصادقة تصنع لاحقـًا قراءها، سواء كانوا مصريين أو عربـًا، صغارًا أو كبارًا، إناثـًا أو ذكورًا. التصنيف لا يشغلني في هذه المرحلة، وأتمنى ألا يشغلني لاحقـًا.
(ج): ما هو مشروعك القادم؟
(أ. ز.): أعمل حاليـًا على الانتهاء من مجموعتي القصصية الثالثة، وذلك بعد أن انتهيت من مجموعتي الثانية في عام ٢٠٢٣. وأخطط لنشر إحداهما في ٢٠٢٥. المجموعتان الجديدتان يكملان مثلث "العنف والسلطة" الذي يشغلني دومـًا.
مقتطف من المجموعة: حكايات الصف الأخير
بعد هذه الليلة، صار روتينـًا يوميـًّا لمدة شهر ونصف الشهر متبقية أن يسيرا معـًا حتى أبواب الحي الفرانكفوني الذي تعيش فيه، وتحوّل حديثهما من الرياضيات إلى الفلسفة والأدب والتاريخ، حتى سألته في إحدى المرات: لكنك لا تشارك أبدًا في النقاشات التي تدور أثناء المحاضرات، لماذا؟ فابتسم وقال: "لأنني أكره الرياضيات". بُهت وجهها من الإجابة لثوانٍ، ثم انفجرت بالضحك ظنـًّا منها أنه يمزح معها، لكنه أقسم لها أنه يمقت هذا العلم، ولا يطيق النظر للأرقام أو قراءة النظريات، لكنه لا يجد بُدًّا من دراستها.
سألته عن السبب، فأخبرها أن الأمر كلّه بدأ مع والده في مدرسته الابتدائية، فالأب كان مُدرسـًا للرياضيات في نفس المدرسة، وشاء القدر أن يكون الأب في البيت أستاذًا في الفصل، وكلاهما جحيم إن وضعك القدر في طريقهما، فالتسلّط والقهر ليسا سوى ممارسات روتينية في يومه، مثل الاستيقاظ والنوم. فقالت له: "أتعني أن أباك أجبرك على دراسة الدكتوراة في الرياضيات بعد كل هذا العمر؟".
ردّ عليها بابتسامة مبتورة وقال: "لا، لم يجبرني على دراسة الدكتوراة، أنا من أجبرتُ نفسي، ستسألين لماذا؟ لأنني أكرهه أكثر من كراهيتي للرياضيات!".
صمت قليلًا ثم استطرد: "في عامي الرابع في المدرسة الابتدائية، كنت قد اعتدت على الجلوس في الصف الأخير، وكنت طالبـًا مجتهدًا، على عكس كثيرين يجلسون في نفس المكان، يُنظر إليهم على أنهم كسالى وبليدون لا يستطيعون مجاراة النابهين والنابغين في الصف الأول، فالجلوس في المقدمة طالما ارتبط في أذهان الكثيرين بالتفوق والاجتهاد. لم يهتمّ أبي بمعرفة مستواي في المدرسة، وكلما حاول أحد زملائه أن يخبره عن ذكائي ومشاركتي الدائمة في مواد اللغة والتاريخ، طالبهم بالتوقف عن الحديث، متذرّعًا بأنه لا يريد أن يخلط الأمور الشخصية بالعملية، وهذا كذب محض، فالرجل لم يهتمّ بي في المنزل أيضـًا، وفي المدرسة، لم يحدث يومـًا أن مرّ عليّ في الفصل أو انتظرني في نهاية اليوم الدراسي كي نرحل معـًا إلى البيت. باغتها السؤال وقفز من لسانها: "أهو حقــًّا والدك؟".