لو كان الباحث العراقي عبّود الشالجي (١٩٠٠-١٩٩٦) حيّاً لأضاف مجلداً ثامناً إلى كتابه الشهير "موسوعة العذاب"، وأرّخ فيه لأساليب التعذيب وأدواته في السجون السورية، وخاصة سجن صيدنايا، ولذكَرَ أسماء الجلادين، وسادتهم من الجنرالات، وربما لغمز من قناة "الرفاق البعثيين المناضلين" الذين كان يجب أن يكتبوا، من منطلق أخلاقي، وللتاريخ، بياناً للاعتذار من عائلات الضحايا، ومن الشعب السوري، بما أنهم يتحملون المسؤولية التاريخية عما جرى في سوريا بعد أن ارتدى نظام القائد الفارّ قفاز ملاكمة أجهزة المخابرات بفروعها المشهورة بفجورها، وقضى بالضربة الأمنية القاضية على كافة أشكال العمل السياسي المستقل على الأرض السورية، الأمر الذي عبّد الطريق للحركات الجهادية السلفية للوصول إلى دمشق.
لم يكن هدف أجهزة الأمن من زجّ المواطنين في السجون قمعهم ومعاقبتهم فحسب، بل كان هناك أيضاً هدف اقتصادي واضحٌ تمثّل في تحويل السجون إلى مصادر للدخل غير المشروع. وثبت بالدليل أن العديد من رجال الأمن، والسجانين السوريين، حصلوا على مبالغ كبيرة عن طريق النصب والاحتيال على أهالي المعتقلين، الذين كانوا على استعداد لدفع أي مبلغ للحصول على خبر عن أبنائهم المختفين يوسّع فسحة الأمل لديهم. ومارس السجانون أساليب التعذيب الجسدي والنفسي بأبشع الطرق، وامتدّ التأثير النفسي لهذه الأساليب الخسيسة إلى أسر المعتقلين، الذين وقعوا فريسة الابتزاز والوعود الكاذبة.
خلتْ السجون السورية، على غرار السجون العربية، من أي مظهر إصلاحي أو إنسانيّ، وشكّلت الوجه الآخر القبيح لسلطة عسكرية وأمنية إقصائية وأنانية لم تقبل المشاركة السياسية. وعكس العنف في السجون، والإجرام الذي ارتُكب فيها، توحّش وأنانية الطغمة المتحلقة حول الحاكم من كبار المستفيدين واللصوص العابرين للطوائف، الذين استولوا على ثروات البلاد، ودعموا الاستفراد بكرسي الحكم وتوريثه.
تحوّل كثير من السجّانين، وأفراد الجهاز القمعي الخادم للطغمة الحاكمة، إلى لصوص واستخدموا نظام السجن كمستوطنة للعقاب والكسب، ومارسوا أعتى أشكال العنف على أجساد السجناء. وكان السجانون، أو عصابات السجانين، يمارسون أيضاً، عن طريق وكلاء لهم، أقذر جرائم الابتزاز العاطفي متعمدين الكذب على كثير من العائلات السورية بأنهم يستطيعون أن يدلّوهم على أماكن احتجاز "مفقوديهم"، أو أن يرتبوا زيارة لرؤيتهم، أو أن يطلقوا سراحهم مقابل مبالغ طائلة. وكانت هذه الاتصالات تنتهي بالنصب والاحتيال وسرقة الأموال. وكان من بين الأمور التي كُشف عنها بعد خلع أبواب السجون وتبييضها في سوريا ظاهرة فقدان الذاكرة لدى عدد من المعتقلين، التي تحتاج إلى دراسة دقيقة وعميقة من قبل الأطباء والمعالجين النفسيين. وسنقوم هنا باستعراض آراء عدد من أبرز علماء النفس الذين تناولوا موضوع فقدان الذاكرة الناجم عن الصدمة.
أستاذ الطب النفسي في كلية الطب بجامعة بوسطن الأمريكية بيسيل فان دير كولك، المختص في التأثير العصبي والبيولوجي للصدمات في القدرة على التذكّر، درس في كتابه "الجسد يحتفظ بالنتيجة: الدماغ والعقل والجسد في علاج الصدمات" (٢٠١٤)، كيف تؤثر الصدمة على الدماغ والذاكرة، وكيف يختزن الجسم الذكريات المؤلمة، وتمنع التأثيرات الانفصالية للصدمة الضحية من التعبير عن هذه الذكريات في سرد متماسك، ما يؤدي إلى "محوها" من الوعي. إن إحدى الاستجابات النفسية الأساسية للصدمة، كما يقول دير كولك، هي الانفصال، وهو آلية دفاعية تسمح للأفراد بالتوقف عن التفكير بما حدث لهم من أجل تخفيف الألم العاطفي. فحين يتعرض الشخص لألم شديد، أو خوف، أو عجز، قد يتوقف ذهنه عن استيعاب التجربة الزائدة عن الحد، أو "ينفصل" عنها. وتُعدّ هذه الفعالية الذهنية بمثابة هروب نفسي يساعد الضحية على تجنب المعاناة العاطفية، وقد تقود إلى فقدان جزئي، أو كامل، للذاكرة المتعلقة بالتعذيب. في هذا الإطار، تحدث عالم النفس والمعالج النفسي الفرنسي بيير جانيت (الذي كان من أوائل من قاموا بدراسة منهجية لتأثير الصدمات على الذاكرة) عن مفهوم "الصدمة النفسية"، وفكرة الانفصال عنها كأساس لفهم كيف يمكن لتجارب مؤلمة، كالتعذيب، أن تؤدي إلى اضطرابات الذاكرة. أكّد جانيت أن الضحية حين يتعرض لأحداث مؤلمة في عزلة السجن، وفي ظل ظروف من الإجهاد الشديد، يمكن أن يؤدي هذا إلى انقسام الوعي لديه وتفتيت الذاكرة، وقد يفقد الضحية القدرة على الوصول إلى ذكرياته المرتبطة بالصدمة، والتي تُكبت، أو تُفصَل عن الوعي الطبيعي.
وينجم عن التعذيب أيضاً، بحسب علماء النفس، ضغط جسدي وعاطفي شديد يؤدي إلى إفراز هرمونات التوتر، مثل الكورتيزول والأدرينالين، ويشكل هذا جزءاً من استجابة الجسم لـحالة "القتال أو الهروب"، التي يتم تنشيطها في المواقف الخطرة، أو المهددة للحياة. وعلى الرغم من أن هذه الهرمونات ضرورية للبقاء على قيد الحياة على المدى القصير، إلا أن وجودها لفترة طويلة في الجسم أثناء التعذيب يمكن أن يُحْدث تأثيرات ضارة في الدماغ، خاصة في المناطق المسؤولة عن الذاكرة.
تقدم عالمة النفس الأمريكية جوديث هيرمان تحليلاً شاملاً لكيفية تأثير الصدمة، بما في ذلك التعذيب، على الذاكرة في كتابها المهم "الصدمة والتعافي: عواقب العنف ـ من العنف الأسري إلى الإرهاب السياسي" (١٩٩٢)، وتقول إن الصدمة الشديدة تعطل الأداء الإدراكي والذاكرة، ما يؤدي إلى الانفصال والكبت، وتشتيت أو تجزيء الذكريات المؤلمة. وأشار باحثون نفسيون آخرون من بينهم المحللة والمعالجة النفسية الأمريكية إليزابيث يونج برويل، مؤلفة الكتاب الشهير "تشريح التحيّزات" (١٩٩٦)، إلى تأثير الصدمة النفسية على الذاكرة والهوية في سياقات مختلفة، بما في ذلك العنف السياسي. وذكرت برويل أن ضحايا التعذيب يواجهون صعوبات شديدة في تذكر تجاربهم المؤلمة بسبب الدفاعات النفسية التي يستخدمونها لحماية أنفسهم من واقع معاناتهم. ويشمل هذا الكبت والإنكار، الأمر الذي قد يؤدي إلى فجوات في الذاكرة.
لم ينْسَ فاقدو الذاكرة في السجون السورية ذاكرة الألم، وتفاصيل الفعل الذي مارسه الجلاد فحسب، بل نَسُوا أيضاً من هم، ومن أين أتوا، ما يؤكد أن ظروف سجنهم كانت جحيمية. أصيبوا بما يدعى "النسيان النفسي"، أو فقدان الذاكرة الترافقي"، وهو اضطراب في الذاكرة يحدث نتيجة لسبب نفسي، أو عاطفي. ويتمثل هذا الاضطراب في نسيان الضحية لذكريات معينة، أو نسيان فترات زمنية من حياته، غالباً ما ترتبط بتجارب مؤلمة أو صادمة. وفي حالات أخرى قد تشمل الذاكرة المفقودة هوية الشخص، أو ماضيه بالكامل، وهو ما يُعرف بـ "نسيان الهوية". ويُعدّ هذا النوع من النسيان استجابة نفسية للدفاع عن الذات في مواجهة الصدمات النفسية الشديدة، حيث يقوم الدماغ "بحجب"، أو "إخفاء" الذكريات المرتبطة بالأحداث المؤلمة لحماية الفرد من العذاب النفسي.
عندما تفقد ذاكرتك تفقد هويتك، تتوقّف عن كونك الشخص الذي كنْتَهُ ذات يوم، تصبحُ صدىً لشخصٍ لم يكن له وجود كما يقول فيلسوف الوجودية جان بول سارتر. وهذا ما هدف إليه التعذيب، في "المسلخ البشري" السوري: محو هوية المعتقل، أولاً كناشط سياسي معارض للدكتاتورية العسكرية، وثانياً كإنسان، ولهذا يجب ألا تضيع ذكريات التعذيب، وأن يركّز العلاج على تأهيل المعتقلين المرضى، ومساعدتهم على استعادة ذكرياتهم لتكوين صورة أوضح عن نظام أمني متوحش سيرتبط في الذاكرة السورية بالصدمة والألم والفقدان.