لا يعدم الغزيُّ الوسيلة إلى الحياة، وكأنه منذور لتحقيق مقولة محمود درويش "نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا"، هذا الاضطلاع بتنفيذ وصية الشاعر، يبدو ممتعا حين تراقبه من بعيد، وترى رهاناتك على أبطالك تتحقق بصمودهم وبقائهم وانتصارهم على الحرب ومجرميها.
لكنّك في لحظة ترى الجانب الأكثر إيلاما لفكرة الصمود، وما يترتب عليها من أعباء البطولة، خصوصا حين يكون البطل ضحيّةً تواجه أعتى عدوان وصمت وتخلٍّ عرفه الإنسان في التاريخ الحديث، ويصبح الأمر أكثر دهشة، حين يكون البطل الضحيّة فنّانا، مطلوب منه أن يصمد وأن يواجه القصف والبرد والجوع والعطش والنزوح، وأن يواصل الغناء أيضا، كي لا تسقط عنه صفة الفنان، فهذه أيضا حرب صغيرة تُخاض بالتوازي مع الحرب الطاحنة الكبرى.
هذه المقدمة، تقود في الأوضاع النموذجية إلى القول بأن تحقق ما ورد فيها من تطلعات وأمانيّ، أمر مستحيل، ينتهي بالحزن المركب والإحباط، لكن الأمر مختلف مع فرقة "صول" الغزيّة.
أسس فرقة "صول باند" في العام 2012 في قطاع غزة مجموعة من الشباب المشغوفين بالموسيقى في مدينة لا تشبه سواها، تقع على حد السيف الشامي المصري، وتنهل من منجمي هاتين الحضارتين، وبدأت الفرقة مشروعا لإحياء التراث الشعبي الفلسطيني بطريقة معاصرة، فأعادت توزيع أكثر من 35 أغنية فلسطينية تراثية، شاركت عبرها في مهرجانات محلية في غزة والضفة الغربية وفي يوم الجاز العالمي في رام الله والقدس، واستمرت في عملها حتى أول انعطافة في العام 2021 عندما شاركت في مهرجان "أرابيسك" الدولي في فرنسا وقدمت سلسلة من الأغاني التراثية، وتمكنت الفرقة أيضا من تقديم عروضها في مهرجان كوباكابانا العالمي في مدينة غنت البلجيكية وفي بروكسل وبرلين، وكانت الفرقة تتكيف في كل مرة مع ظروف منع السفر التي يواجهها الغزاوي عادة، فكان كلُّ عضو يسمح له بالسفر يضطلع بدور الممنوعين.
استمرت الفرقة المكونة من مجموعة شبان وهم رامي وراسنة وحمادة نصر الله وسعيد فضل، وعبود أبو قاسم، وفارس عنبر، وأحمد الحداد، وفتاة واحدة هي رهف الشمالي، بالتكيّف للبقاء برغم التضييقات، حتى جاءت حرب الإبادة.
في الحرب نزح كل منهم إلى اتجاه لم يختره، بل حدده القصف وما يدعي الاحتلال الإسرائيلي أنها مناطق إنسانية، إلا أن شغفهم بالحياة والفن، دفعهم إلى التحدي والالتئام في رفح، وسرعان ما تبنّوا دورا اجتماعيا كبيرا، قوامه العزف والغناء للأطفال النازحين للتسرية عنهم، لكن من يصدق أنهم بدأوا تسجيل ألبوم جديد في بطن هذه الحرب المجنونة!
الفرقة التي اشتُهرت بأغنية "روق وهدي"، أصدرت من ألبومها الجديد حتى الآن 4 أغنيات، كُتبت ولُحنت وسُجلت وصوّرت في قطاع غزة بين الأنقاض والقصف والشهداء والجرحى، أولاها كانت "أولادي عصافير في الجنة"، كتبها رزق الجوجو ولحنها سعيد فضل، ووزعها قَسَم الخواجة.
وتقول كلماتها:
"ولادي عصافير في الجنة
ويا بخت الجنة فيهم
طول عمري عايش بتمنى
يكبروا قدامي وأربيهم
أفرح فيهم واحد واحد
وأشوف ولادهم بعنيا
والضحكة تسكن تجاعيدي
كل لما أشيلهم بايديا
عدى بسرعة شريط الحياة
واختلطت فية المشاعر
بسمة ودمعة وجوايا آه
وملامح وشي بتكابر
لو أرجع معها الذكريات
ألعب مع أولادي تاني
والزمن يوقف لساعات
دقايق أو حتى ثولني
ولادي حبايبي راس قلبي
هما هديتي من الله
راحو لعنده وما لحقتش
منهم بعنيا أتملى
مش عايز أشيلهم من حضني
استنوا معاهم خلوني
ما شبعتش منهم في الدنيا
معهم بالله ادفنوني".
وإلى جانب اللحن الذي اتخذ صورة التشييع عبر إيقاعه البطيء وموسيقاه المتأنية، فإن الكلمات تبدو محملة بشحنة كبيرة من رائحة الشهداء، الذين ما يزالون يتكدسون، لا سيما الأطفال منهم، وقد تكون هذه ميزة خاصة، أساسها صناعة هذه الأغنية تحت نير المعاناة وبالتوازي مع مواكب التشييع، التي أسبغت ثيمتها اللحن.
أما أغنية "يلا نبني" فاتخذت هوية أخرى، تعبّر عن النزوح، ليس فقط على مستوى الكلمات والموضوع، إنما على مستوى التنفيذ، حيث أداها كل من سوار العجلة، وجوري مغاميس، سدين ابو عبده، وحنين الجوجو، وميريا الجوجو، وديالا الجوجو، وجمال مغاميس، وكان اللافت أن معظم المؤدين من الأطفال، وقد صوّرت الأغنية في إحدى مناطق النزوح، بصورة مقاربة للنشاط الاجتماعي الذي تقوم به الفرقة، لتسلية الأطفال في خضم الحرب. الأغنية من كلمات سميرة فضل وألحان سلام فضل، وتقول:
"يلا نبني إيد بإيد
نبني ونعمر ونزيد
يلا نغني سوا سوا يلا
يلا نبني يلا نفيد
يلا نزرع الحب بإيدينا
بأمل بعمل بفن وعلم
يلا نرعى جيل جديد
عايش بأمان وبسلام
بيستنى بكرا جديد".
وقد يواجه المستمع صعوبة في الوصول إلى أغنية "ما ضل حكي"، التي يفرض عليها يوتيوب قيودا، بسبب ما يقول إنها مشاهد غير مناسبة للجميع، مع أن العالم بأسره يتصرف وكأنه اعتادها. تبدأ هذه الأغنية بمحادثة واتساب صوتية، بين المغني الرئيسي حمادة نصر الله وشخص آخر، يتبادلان فيها أفكار الفيديو كليب، قبل أن تصدمك جملة: "إخراج الشهيد سعدي مدوخ"، لتفهم تلقائيا أن المحادثة من أرشيف المغني والشهيد، أما ما لن يمكنك أن تفهمه، هو أنك تشاهد أغنية من إخراج شهيد!
وينتهي العمل بتنويه:
"استشهد مخرج هذا العمل، وتم قصف الشركة المنتجة، والاستوديو الذي سجلت فيه هذه الأغنية بالكامل، على يد العدوان الإسرائيلي، الذي ما زال يرتكب المجازر في غزة بلا توقف حتى الآن".
هذه الحقيقة هي التي تشرح الحال في غزة، أكثر مما تفعل الأغنية نفسها، على أن الأغنية مشغولة بحرفية عالية، والمدهش أن اللحن الذي قام عليه كل من حمادة وسعيد، اختار مسارا تجاريا، جعلها تشبه أغنيات السوق العاطفية، واستطاعت مع ذلك أن تحمل رسالتها المأساوية، بخفة وتفوّق، أما الكلمات التي كتبها حمادة ماجد فتسرد مفاصل المأساة الغزية:
"ما ضل حكي ينقال
حملك ما عاد ينشال
زلزال اه زلزال
اللي صابك ياغزة
أكتر من زلزال"
وتسلسل الكلمات تداعيات الحرب من تشريد وجوع وقصف وكوابيس يوميا.
في أغنية "فلسطينية" تعيد الفرقة استنهاض الهمة من جديد، عبر فرض ميزان تحدٍ في خطاب موجه للاحتلال، يقول جمال ماجد في كلمات الأغنية:
"على راس الناس يا محتل اهدم البيوت
من تحت الانقاض منطلع وبعالي الصوت
بننادي حب بلادي فينا ما بيموت
ما بيموت ما بيموت ما بيموت
بتفكر إنك راح تنهينا وتمسحنا
شكلك مش قادر تفهم لسا مين احنا
إحنا فلسطينية أقوى من أي محنة
من أي محنة من أي محنة
دمنا سايل منا لكن ما بيهمنا
مسكين اذا فاكر إنك ممكن تهزمنا
قصفك للبيت بيبنينا ما بيهدمنا
ما بيهدمنا ما بيهدمنا".
ولحن الأغنية حمادة نصر الله، مستثمرا بـ"Loop" يمنح الفكرة استمرارا وتكاثرا وتداولا عميقا، يؤكد على تاريخ الصراع الفلسطيني مع الاحتلال الإسرائيلي، فضلا عن موسيقى عسكرية حجزت مكانها في اللازمات الموسيقية.
وقامت الفرقة بأكملها على أداء الأغنية، مقطعا مقطعا بالإضافة إلى الأداء الجماعي، مفتتحين العمل بصوت طفلة تغني، أما الفيديو كليب فقد اشتغل على توزيع الأدوار داخل الحرب بين الرجال بمعاول الإنقاذ والنساء بكل ما يترتب عليهن من أدوار يومية لا تستطيع الحرب إيقافها، وقد أخرجه حسام أبو دان.
أما أغنية "متغرب" فقد أُفردت بأكملها لمأساة النزوح المفتوحة، وقد كتبها فارس عنبر، وتشارك تلحينها مع سعيد فضل، بلحن اتخذ فيه الكوبليه نغم الشكوى، لكنه سرعان ما يتحول إلى لحن صمود وتحدٍ، منسجما بذلك مع الكلمات:
"متغرب عن أهلي وناسي
وبقيت في وطني نازح
متمرد على كل أحزاني
وبخبي دموعي وسارح
وبقول الآه مع نفسي
أصل الوجع صار سري
وبعافر في كل أيامي
وللذّل ما بسلم حالي"
وقام على الأداء حمادة نصر الله بصوته الذي لا بد من القول إنه مصطبغ بقبول لا تتمتع به كثير من الأصوات الجميلة، فكما يقول موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب: الأصوات كالوجوه، وهناك وجوه فيها قبول خاص.
وتشاركه الأداء رهف الشمالي في مقطع ملؤه الحسرة على غزة، عبر رصده اللحظات الأخيرة للمدينة قبل تهاوي مبانيها وشوارعها:
"ما لحقتش أودع تفاصيلها
ولا قادر أشوف نهايتها
مش ضايل ذكرى في شوارعها
مش كان لو قالوا أودعها
ومن قبل سنين على فكرة
العالم شايف وسايبها
متنحى من هالبشرية
وعايش دنيا بلا حرية
عنواني خيمة خيرية
ع حدود رفح المصرية"
ولا بد من القول أيضا إن رهف أوتيت سحرا في صوتها، يمكن تفكيكه بالانتباه إلى ملاءة صوتها التي لا تتصاحب عادة مع الدفق الحسي والكفاءة في إنتاج الحُليات والعُرَب، إلا أن رهف جمعت بين كل هذه الامتيازات، مما يجعل صوتها متحديا باكيا.
ويمكن القول إن فرقة صول، ليست مجرد فرقة موسيقية، إلا أنها امتداد جمالي لغزة، القادرة والناعمة، والكبيرة والطفلة، والكسيرة والطموحة، في آن معا.