غالباً سوفَ يلجأ المُعتدي إلى شيطنَة الضحيّة قبلَ الانقضاض عليها، وأحياناً يمتلكُ من الدهاءِ ما يجعلُهُ ينصبُ لها الفِخاخ كي تقعَ ويصير دمُها مُباحاً، ربّما كانت المرأة الحرّة على مرّ التاريخ ِأحد أهم أعداء المجتمعات الذكورية، لذا تمّت شَيطنَتها.
تقولُ لنا الأسطورة بحسبِ الناقد والباحِث السوري حنا عبّود إنّ اللّليت ربّة المَهد المسؤولة عن تربية الأطفالِ في الميثولوجيا السومرية تمرّدت حين بدأت عملية الانتقال من المجتمعات الأمومية إلى تلكَ الذكوريّة، إذ رفضَت السلطة المُطلقة للرجل، ومبدأ العنف الذي بدأ يطغى على قيَم المحبة والسلام التي كانت تبثّها في نفوسِ الأطفالِ عبرَ الأهازيجِ والقصص، فتمّت شيطنتُها، وتحويلها إلى ساحرةٍ شمطاء تدورُ في البراري، في حين خضعت صديقتُها الإينانا وغيرها من الربّات، فحافظنَ على مهامِهِنَّ ونفوذِهِنَّ لكن هذه المرّة تحتَ جناحَي الرجل.
يربُطُ البعض بين مفهومَي كراهية النساء "ميسوجيني"، والخوف من النساء "جينوفوبي"، لكنّ هل فعلاً هناكَ رابط بين اضطهادِ المرأة في المجتمعاتِ الذكوريّة والخوفِ منها؟ بحسب فرويد فإنّ التعلّق بالأم، والعلاقة المشوّهة مع الأب، بمعنى المُراوحة في الدوّامة الأوديبيّة، يقودُ الرجل في المستقبل، إمّا لكرهِ المرأة الذي يأخذُ أشكالاً لا حصرَ لها، أو الخضوعِ لسلطتِها، ربما لذلك نجد مجتمعاتِنا مُنقسِمة بين نقضَين، فمن ناحية، هناكَ تقديس للأمومة، وفي نفس الوقت ازدراء واحتقار لكلّ ما هو مؤنّث، أي أنّ مشكلاتِنا تعودُ إلى العلاقة المُبكّرة مع الأمّ، فهي إمّا تُحرّر أو تضع القيودَ في أيدي أولادِها، وإذا كان اكتشافُ الذاتِ ما يعطي لحياتِنا معنى، فهو سيرورة مرهونة بقدرتِنا على التحرّر من كلّ المعوقاتِ والمقولاتِ الجاهِزة التي تكبّلنا، فنحن أحرار بقدرِ ما نتخلّص من عقد الطفولة، وتتحوّل مسيرتُنا في الحياة من ردّ الفعل على الماضي، إلى فعل حقيقي يتّجه نحو المستقبل.
"الحرية تقودُ الشعب" لوحة نفّذها الفنان الفرنسي أوجين دولاكروا عام 1830، تخليداً للثورة الفرنسية التي تعتبر الأساس الذي بُنيَت عليه المجتمعات الغربية الحديثة، تتوسّط اللوحة ماريان، وهي رمز لإلهة الحرية، عاريةَ الصدرِ مليئةً بالحيويّة، بحسب دولاكروا فإنّ ماريان أو بمعنى أدقّ، المرأة الحرّة، هي من سيقودُ الشعبَ إلى الحريّة، دولاكروا هنا يتّفق مع فرويد ويعودُ بنا إلى الأسطورة السومريّة، حيث وضعنا إقصاء اللّيلت على عتبةِ ما يسمى المجتمعات البطريركية الأحادية القطب، والتي نتج عنها تشوّهات في الأنوثة والذكورة على حدٍّ سواء.
في المقابل، يفترض المفكّر والباحث السوري فراس السواح في كتابِهِ لغز عشتار أنّ مريم العذراء هي آخر تجليّات الإلهة الأنثى في ثقاقتِنا، حيث أنّ الإله إيل تحوّلَ في اليهوديّة إلى يهوه مدشّناً مرحلة عبادة الإله الواحد المذكر بطبيعة الحال، وإذا كانت مريم العذراء الإلهة الأنثى الوحيدة المُتبقيّة من المرحلة الأمومية، فإنّني أعتقد أنه كان لها دور البطولة منذ البدء في إتمام الرسالة المسيحية، حيث فتحت قلبَها لبشارة الملاك ميخائيل، وآمنت أنّها تحملُ في أحشائها ابن الله. لقد أصغَت العذراء مريم إلى صوتِ قلبِها وهذا بحدّ ذاتِه بطولة، مع ذلك قلّصت الكنيسة المسيحية دورَها لينحصرَ في صورة الأمّ الحزينة التي فقدت ابنها، أمّا مريم المجدليّة التي كانت أوّل من شهِد وبشّر بقيامةِ المسيح، مُعطيةً الرسالة المسيحية معناها الأعمق، فتميل الكنيسة إلى إنكار مرافقتَها للمسيح، وربما العلاقة الوطيدة التي جمعتها معه، لتحذف بالتالي من اللاوعي الجمعي صورة الأنثى الرفيقة والشريكة، مقابل التقديس لجانب واحد من الرسالة المسيحية، ألا هو "الأمّ الحزينة".
رافقت صورة الأمّ الحزينة الفنّ الكنسي منذ ولادتِهِ، يُقالُ إنّ بعض الكنائس الأكثر تشدّداً منعت في البداية تجسيد العذراء بمفردها، ربما خوفاً من الارتكاس إلى المرحلة الأمومية، مُقابل منحوتات آلهة الخصب والجمال في الحضارات التي سبقت المسيحية، فعشتار الأمّ العظمى ذات الصدر العاري واستدارات الجسد البارزة، كانت في الحضارات القديمة ربّةً للملذّات والحبّ والحرب. يتحدّث فراس السوّاح في كتابِهِ لغز عشتار عن عشتار القمر، عشتار الخضراء، عشتار العذراء، عشتار البغي المقدّسة، عشتار السوداء، عشتار سيدة الأسرار.
يذهبُ البعضُ إلى أنّ الثورة الزراعية ومن ثمّ الثورة المدنيّة، أديا إلى انزياح مركز القوّة والسيطرة نحو الرجل، بغضّ النظر عن الأسباب فإنّ كلّ انزياح يؤدي إلى عدم توازن بين قطبَي الذكورة والأنوثة، سوفَ يُدخل المجتمعات في دوّامة من العقد والأمراض ستعوقُ في مرحلةٍ ما نموّها وتطوّرها، قد تكون نماذج مثل المرأة المُنافقة، والرجل المتسلّط، أحد أشكال التشوّه الناجمة عن هذا الانزياح، نحن في الحقيقةِ أمام صنفيَن من النساء يُسمَح لهما التبختر بحريّة في المجتمعات الذكوريّة، الخانِعاتُ والمُنافقات، أمّا المرأة الحرة، بمعنى تلك التي تدافع عن حقوقِها مُحترمةً حقوقَ غيرها، فسترجَم من مجتمعِ الرجالِ والنساء على السواء.
قد تكون الطبيبة والأديبة المصرية نوال السعداوي نموذج للمرأة الحرّة التي شيطنتها المُجتمعات، إذ تحدّثت جِهاراً عن قضايا تمسُّ صميمَ العادات والمُعتقدات المُجحفة بحقّ المرأة العربية، لقد كانت نوال السعداوي ضحيّةً في طفولتِها لعملية خِتان قاسية، ربما كانت السبب وراء إطلاقِ شرارة طبيبة وأديبة ثائرة، سوف تشعلُ ناراً في هشيم أفكارِنا، ربطت نوال السعداوي اضطهاد المرأة باضطهاد الرجل، في مجتمعاتٍ دكتاتورية قائمة على تراتبيّة سياسية واجتماعية ودينية، كما ربطتهُ بالاستعمار المُتربّص بمنطقتِنا، فخنوع المرأة العربية هو الضمان لخنوع المجتمعات العربية وتخلّفها، وبالتالي سهولة وضع اليد عليها.
"النساء اللواتي يكتبنَ يعشنَ بخطر" هو عنوان لكتاب صدرَ عن دار "فلاماريون" الفرنسية لكل من "لور أديل" و"استيفان بالمان"، يرسم الكتاب بورتريهات لخمسينَ كاتبة غربية، منذ العصور الوسطى حتى العصر الحالي، مُسلّطاً الضوء على الدرب المؤلِمة التي سلكنَها دفاعاً عن حريّتهنَّ، ألم كان يصلُ ببعضهِنَّ حدّ الجنون أو الانتحار، من المُلفِت أنّ العديدَ منهُنّ تنكّرنَ باسمِ رجلٍ، وأحياناً بزَيّ رجلٍ، كي يتمتّعنَ بحريةِ الكتابةِ والتعبير، في مجتمعاتٍ ذكوريةٍ اعتادَت على خنقِ صوت المرأةِ وتحطيمِ صورتِها، على اعتبارِها كائناً أدنى.
ضربَت موجات النسوية التي اجتاحت العالم الجذور الثابتة لثقافتِنا البطريركية، محقّقةً مكاسب كبير للمرأة على الصعد الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، لكنّ بعض تلكَ الاتجاهات سلكَ كذلك طريقَ العنف، وذهبَ حدّ التطرّف في حربِهِ ضدّ الذكورة، ما أدى أو سيؤدي على منوال الثقافة الذكورية إلى إخصاء المجتمعات، وإذا كانت نظرية المجتمعات الأمومية صحيحة، والمجتمعات الذكورية واقعاً اختبرناه، لمَ لا نبحثُ في النهايةِ عن توازن يحفظُ الحقوقَ والواجبات، ويحمينا من مبدأ القوة أو السيطرة الذي حكم مجتمعاتِنا حتى الآن.