يُعَدُّ يوليوس إيفولا أحد أشهر الفلاسفة التقليديين، وكلمة التقاليد هنا لا تؤخذ بالمعنى المحافظ الحرفي أو كأنها فلسفة كونفوشية، وإنما فلسفة قائمة بذاتها ترتبط بقيمٍ معينة ترسم خيوطاً تمر عبر الحضارات السابقة والأديان وتذم العالم المعاصر لتفريطه بتلك القيم. لم تمثّل هذا الفكر أحزاب سياسية عاصرها إيفولا، إلا أن الحزب الفاشي كان الأقرب للفلسفة التقليدية من أنداده بسبب محاولته استرجاع أمجاد الماضي. في المقابل، لم تدعُ الشيوعية للعودة إلى الماضي المجيد فهي تقوم على تقدم هيغلي للتاريخ، أما الديمقراطية فهي تتعارض مع الحس النخبوي والأرستقراطي الذي كان أساسياً في فكر إيفولا.
لذا، لا يُستهجَن في العالم الغربي ارتباط اسم إيفولا بالحركات الفاشية الجديدة لكنه ربطٌ ناقص، فهو لم ينتسب للحزب الفاشي أثناء ذروة شعبيته كما كتب نقداً له من وجهة نظر فلسفته التقليدية، كما أن هذه الفلسفة التقليدية للعالم المعاصر لا تختلف عن نظرات سياسية نابعة من خارج المركزية الغربية فهي تحترم الفلسفات الشرقية، وخير مثال على هذا هو قرينه في المدرسة التقليدية، الفيلسوف الفرنسي ريني غوينون الذي اعتنق الإسلام وعاش سائر حياته في مصر. رغم ما سبق، على القارئ ألا يظن أن إيفولا كان ليتحسّس من ربطه بالفاشية، لكن لا بدّ من التأكيد على أنه ربط معلول فلسفياً، ولا بد أيضاً من التأكيد على أن المقالة لا تبشّر بمجمل أفكاره ولا تتبرأ منها، وإنما ببساطة تركّز على بعض مقالاته المجمّعة في كتاب بعنوان "ميتافيزيقيا الحرب"، وهي مجموعة مقالات تتحدث عن الجانب الروحي الذي قد يتجلّى في بعض الحروب، وأرى أن حرب طوفان الأقصى تعطي تلك المقالات وزنها بعد حقبٍ من الحروب المادية المجوّفة روحياً.
المحارب المخلّد
"حارب من أجل أرضك واقبل الموت إن دعت الحاجة، فالموت نصرٌ وتحريرٌ للروح".
مقولة قِلطية يقتبسها إيفولا.
تتخطى الفلسفة التقليدية الأقاليم وتجمع العبر من كل أنحاء المعمورة. هي لا تفعل ذلك بالمفهوم الأممي المتعارف عليه اليوم، أي أنها لا تسعى لتسطيح جميع الثقافات، وإنما ترنو إلى كشف "فلسفة أزلية" يمكن استشفافها من بطن الأديان والفلسفات المتعددة. يظهر ذلك جلياً في المقالة التي تتحدث عن قداسة الحرب التي تُستهَل بمعتقدات الروم الأوائل التي دفعتهم للتوسع، والسمة الدينية التي تطبع نظرتهم للعالم، وتنتقل منها إلى معتقدات نوردية تمجّد الموت في الحرب وتَعِد المحاربين بعالم أخروي يحاربون فيه إلى جوار الآلهة. وترسم المقالة رابطاً يجمع كائنات الفالكيري الأسطورية التي تنتقي هؤلاء الأبطال مع كائنات مرادفة من الأساطير الفارسية. يتجلى الفهم الفلسفي الأزلي في عدم التعاطي مع هذه الأساطير كأنها خرافات ثانوية أو تعبيرات خارجية تخفي نوايا مادية شهوانية كما هو شائع في عصرنا الذي يقيس كل شيء بالدنانير والنزعات النفسية، بل كانت تلك المعتقدات عماد البطولة بالنسبة للمحاربين المذكورين وغيرهم.
هنا، يمكننا أن نلمح الخلل الذي يمنع بعض العلمانيين من إدراك مدى اندماج العقيدة الدينية في عقائد المجاهدين، وربما يستاء المجاهدون الموحدون من المقارنة مع المحاربين المشركين مما يستدعي إشكالاً معاصراً يواجهه أي دارس لمقارنة الأديان، لكن الفلسفة الأزلية لا تتعارض مع الإسلام بالضرورة، فالإسلام في صميمه الإيمان بإله واحد وهذا من شأنه تأويل التشابه بين المعتقدات المختلفة على أنها انعكاس مِشكالي لوحدة التجربة البشرية النابعة من توحيد الخالق لهذا الوجود، الشاهد هو استعارة إيفولا للآية القرآنية "وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ" ليتحدث عن مفهوم الخلود المميز للمحاربين المسلمين.
عندما يتحدث إيفولا عن الحملات الصليبية يحترم الطرفين، على الضفة الأوروبية يشير إلى قصور فهم المؤرخين الذين يعتبرون تلك الحملات تمثيلاً للعصور المتخلفة أو أنها حروب جشعة فقط، فيقول إنها في الحقيقة تجسيد لإيمان تخطى الحدود الضيقة مما وحّد أوروبا على هدف بطولي يسمو فوق الفروق. ويعتبر الخصوم المسلمين أنداداً وبطريقة ما أقراناً انطلقوا من مكان آخر ليلتقوا مع الصليبيين بالتسامي البطولي الموازي، ويقتبس من الأحاديث والآيات مفاهيم البطولة والحثّ على الجهاد ويخصص المقالة للكلام عن حديث "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، جهاد النفس"، هذا الحديث ليس صحيحاً لكن إيفولا يأخذه من زاويته الفلسفية الباطنية أي أنه يعيد ترتيب الجهاد إلى نوعٍ خارجي وداخلي ويؤكد على أن الخارجي يسهم في تغذية الداخلي، وينبه -وربما يتنبأ بالصدفة- من القراءة الخاطئة التي تتعاطى مع فكرة جهاد النفس لتبرير حالة من السلم والخوف من المواجهة. بالنسبة لخط حججه يكون جهاد النفس دافعاً للجهاد على أرض الواقع وتشكّل هذه النظرة إحدى النقاط التي يكررها في مقالاته وهي أن المحارب عبر بطولته في ميدان المعركة حتى لو كانت بطولة في اللحظات الأخيرة من حياته فهو يعيش لحظة عظيمة أحسن من حياة ممتدة قضت في الاستهلاكية وترهات مدنية.
يمكننا رؤية الفارق بين تلك الندّية البطولية بين المسلمين والفرنجة وما يحصل اليوم، حيث لا نجد الأساطير إلا في جانب واحد من الحرب. قاتل جنود المقاومة الفلسطينية واللبنانية واليمنية كياناً يحاول قدر الإمكان تجنّب المواجهات المباشرة وتدعمه أقوى دول في العالم مما يعني أن المقاومة عرّضت نفسها لأعلى درجة من المخاطر الممكنة في عالمنا المعاصر، ولم يتوقف الدعم من الغرب بل تفاجأت المقاومة بأن الكيان للمرة الأولى وجد نفسه محاطاً بما أسماه رئيس وزرائه بمحور النعمة، دول عربية مسلمة تحمي ظهره وتغذيه بينما تضيّق على المقاومين وتطعن بالجبهات بشكل مباشر وغير مباشر. مثّل الطوفان إشارة بأن العالم لم يخلُ بعد من البطولة على مستوى الأساطير، ولم ينفع ضد المقاومة كل هذا المدد الذي ما كان ممكناً لولا خنوع باقي الدول والشعوب حتى "الثورية" منها.
للأسف، تنهش رتابة الواقع بمجد الأسطورة، والتمجيد الذي يناله الأبطال ويستحقونه بات يعمل بطريقة مسيئة لهم، إذ تناسى القاعدون الممجدون أنهم لا يقرؤون عن أساطير خلت وإنما عن ملحمة دائرة، وتجاهل الممجدون أنهم إن لم يتحركوا قبل فوات الأوان فقد تصبح هذه الأسطورة بذرة بدلاً من أن تعمل كما سعى أصحابها لأن تكون ذروة، أي أنها ستُلهم الأقوام لاحقاً بعد انتهاء هذه الجولة. وحتى هؤلاء لا يفكرون باحتمالية أن تمسي أسطورة بمعنى الخرافة في المستقبل، إذ أن فظاعة المقتلة التي أتاحتها التكنولوجيا المعاصرة واختلال موازين القوى بفعل الممجدين الخانعين قد تعني أن نداء الطوفان كان آخر نداء يلبيه الأبطال الأزليون، لأن المصير الدامي والمحيط المتفرج قد يثني اللاحقين عن تجربة مماثلة، حتى لو انتهت هذه الجولة فإن مشروع التحرير لم يصل نهايته التي يرجوها المقاومون ولن يصل إن لم يتعلم المؤمنون به الدروس الصحيحة من البطولة والمأساة، أي إن لم يجرِ اليوم ما أسماه أبو عبيدة طوفان الوعي.
تعريف النصر والهزيمة
في مقالة تحمل نفس عنوان الكتاب يستعين إيفولا بنصوص هندوسية ليثري حجته عن عالم غيبي أوحد يحمل قداسة الحروب، مبرراً ذلك بأن مفهوم الصراع بين "الشرق والغرب" لا يمت للتاريخ بصلة، وأن الغرب المعاصر بعيد عن الغرب التقليدي أكثر من بعده عن الشرق. ويختم بالإشارة إلى أن التضحية البطولية ليست مجرّد الاستعداد لرمي النفس في بوتقة المعركة، وإنما هي خطوة على صراط نحو قداسة الحروب في عصر وصل سنام التحضر، هذا الصراط الذي قُطعت حباله في عالمنا المعاصر المتحضر الذي يصوّر الحرب كأنها ضرورة حزينة أو يختزلها بظاهرة سياسية أو طبيعية، كلها تصورات لا مكان لها في تاريخ الحضارات السابقة. وكذلك يمكننا أيضاً أن نلمح ابتعاد "الشرق" اليوم والعالم الإسلامي خصوصاً عن تاريخه واقترابه مع العالم العلماني الاستهلاكي لو تخطينا القشور الفكرية والمظاهر الخارجية.
في مقالات لاحقة يرسم إيفولا نظرية عرقية تبدأ بالرابط الحربي، يتحدث فيها عن إيقاظ الحرب والبطولة جوهراً عرقياً كما لو أنها نار خيميائية تصل إلى الجوهر، لكن سرعان ما يبتعد عن موضوع الحرب ويسهب في نظرته الفلسفية لمفهوم العرق ويتردد بين موضوع البطولة والأعراق. وكما يتوقع القارئ لا يتحدث إيفولا بنبرة الدهماء العنصريين التي تركز على الجانب البيولوجي والسطحي من الأعراق وإنما يتحدث عن العرق بصفته رابطاً متسامياً روحياً. بالطبع، لا يسعى للوصول إلى نتائج عن المساواة ورفض التمييز بما يلائم ذوق الفرد في قرننا، وأقول بالطبع لأن هذا متوقع من فلسفة تقليدية تحترم التراتبية، لكن نظراً لأن القارئ هو ابن عصرنا المؤمن بالمساواة فلا داعي للحديث عن النظريات العرقية التي يؤمن بها عن الشعوب الهندو-آرية أو العرق الآري. ما يهمنا من ذكر التطهير الحربي هو ما ذكره عن بدايات الحملات الصليبية التي لم تنجح بسلاسة مما أجبر المسيحيين حينها على النظر للحرب بمفهومها الروحاني بدلاً من التمسك بالخرافات والماديات.
تراتبية ثانية يشير إليها تكمن بين الطبقات الآتية تصاعدياً: العبيد، الطبقة البرجوازية الوسطى، الأرستقراطية أو طبقة المحاربين، وعلى القمة طبقة روحانية. بالنسبة لإيفولا يمثّل تقدّم التاريخ انعكاساً لانحطاط تدريجي تعيشه تلك الطبقات، والحرب على المستوى الميتافيزيقي تفتق الاحتمالات للمجموعة والمحصلة هي إما تفوّق يمس الجانب الروحي أو انحطاط باتجاه شخصية البرجوازي الصغير، سمته التدجين ومحاولة الاندماج مع القطيع والتثقف الباطل والمثالية الفارغة.
هذه الثنائية بين التفوق والانحطاط، وبناء على التحذير الذي سلف عن احتمالية كون الطوفان آخر دعوة للبطولة الأزلية، ربما يعتبره بعض القراء المتعطشون للنصر النهائي ولاستمرار حلقة البطولة ضرباً من التشاؤم، في المقابل لا يؤمن البعض بأحقية المرور تحت قوس النصر ظناً منهم أن الطريق أسفله مليئة بجثث بريئة، وبدلاً من أن يعتبر الفريقان من البطولة والتضحية عبر فهمها على المستوى الرمزي الأزلي شطح كل فريق في اتجاهات ظاهرها متباعد لكن وجهتها واحدة، وهي وجهة تسود فيها المعتقدات والممارسات المادية التكنولوجية الباردة التي تحسب كل شيء بآلة حساب منفعية وتعتمد على أدنى ما في الإنسان من مشاعر.
الفريقان في نظري يمثلان وجهان للمادية التي لا تستوعب البعد الأزلي للبطولة وتمثل انقلاباً على معاني التضحية، أما الوجه الذي يركز على حجم المأساة فهو يقارن عدد الضحايا ومقتل القادة في حلف المقاومة بمكتسبات الكيان على الأرض، وهي مكتسبات لا يعقل أن نتجاهلها لو احترمنا الواقعية لذا لا داعي للحديث وكأنها وجهة نظر ضعيفة يمكن إزاحتها بسهولة أو بمقولات تتظاهر بالرواقية ومن السهل أن يتلفظ بها من لم يخسر شيئاً في هذه الحرب. هذه النظرة لا ترى معنى في النصر إذا كان بيروسياً ولا بد من احترامها بعد أن يُثبت القائل أنه وصل إلى هذا الاستنتاج احتراماً لأنهار الدماء. يكمن الخلل في أن الكثيرين من أصحاب هذا الوجه كشفوا مبكراً في الحرب أنه استنتاج مسبق وكان همهم طوال الحرب إثبات الهزيمة لاعتبارات حزبية أو عنصرية أو لتعارض مشاريعهم مع مشروع المقاومة والمحور بالأخص، أي أن المسألة لم ترتبط بكم التضحيات لكنهم لن يصرّحوا بذلك، وربما من الأفضل أن يسعى أي نقاش صادق عن نتيجة الحرب أن يفرّق بين النحيب الذي يستحقه الضحايا في كل الجبهات والتباكي وجعل الدموع ذخيرة لإفشاء الهزيمة.
في المقابل هناك طيف من التمجيد الذي يبطن الهزيمة المعنوية، لا بد من التنبه إلى أن عادة الإفصاح عن الهشاشة الذي يتيحه شيوع علوم النفس الفردانية واختلاط مواقع التواصل التي تجعل سيول الوعي تتضارب بالواقع عاملان قد يفضيان دون قصد إلى إعادة صياغة قول "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" إلى قول أن لا صوت يعلو فوق النحيب، وهذا يحصل عبر التشكيك بنجاعة أهداف الأبطال وجدوى المقاومة عبر تمجيدها المفرط. يكمن الخطر في أنها نظرة أكثر منطقية وأقرب للهستيريا التي تصيب من فقد الحبيب، فالبطل بطبيعته شخص استثنائي تجود له العيون، والتضحية في العادة تجد بيتها لدى النخبة وقد تنفع مجموعة عادية أو أقل من عادية. في عالم روائي بطولي يُفهَم هذا مباشرة لكن في عالمنا ولسببٍ ما يحتوي الحوار المتعلق بالبطولات تحقيراً لأبناء المجموعة التي أنجبت الأبطال، وكأن المطلوب هو مجموعةٌ كل فرد فيها بطل، وهذا بذاته يفرّغ البطولة من معناها. بمعنى آخر عند الإكثار بالإشارة إلى أن الأبطال ماتوا لأجل من لا يستحق ينشق مسرب آخر للتفريط بالمنطلقات التي دفعت الأبطال نحو مصيرهم الذي رفعهم إلى القامة الأزلية، فهم وفق هذه النظرة التي تزعم أنها تعطيهم حقهم من النحيب قد ماتوا دون داع، وهذا التمجيد أيضاً يصحبه عصمة تمنع المراجعة الواقعية التي تحتاجها تتمة مسيرة النضال التي سلكها الأبطال. بالإضافة لذلك هناك نوع آخر من الإفراط بالتمجيد الذي سعى بالتعاون مع الصهيونية على تفكيك الوحدة بين المقاومين، وعلى عكس الفريق الأول الطاعن في كل ساحات المقاومة يقوم الممجدون في هذا الفريق بتمجيد طرف للتقليل من طرف آخر مما يصعّب استيعاب الأباطيل في الأقاويل.
بتقديري، تنبع المشاكل من الخلط على درجتين في حالة تغذية متبادلة، الأولى هي الخلط بين من اختار البطولة وإجبار ذلك المصير على الأفراد الذين كان حلمهم حياة طبيعية عادية ولا يعيبهم هذا في شيء، وما يأتي مع هذا الخلط من توقعات ومن هالات. الدرجة الثانية هي أن مجموعات لم يكن الأبطال يضحون من أجلها أصلاً بحكم انبطاحها الكلي للنظام العالمي وإنكارها لكارثة مواقفهم وما يعنيه عن معتقداتهم سوف تَنسِبُ الأبطال لها أو تعمل على تحقير البطولات كي لا تعترف بالحقيقة المظلمة التي كشفها وهج البطولات، وهي حقيقة أن هذه الجماعات المقاومة وحاضناتها هي آخر مجموعات تقاتل النظام المقيت الذي نعيش في ظله الآسن وأن هذا النظام الظالم لا يقوم دون خنوع الباقي.
وعلى سيرة العالم الظالم والمظلم لا بد من العروج على التجويف للروحانية في الطرف المقابل من الحرب، هذا الكيان على الرغم من تقدمه الميداني وإثقاله لكل خصومه بالجراح لم يعطِ للعالم أي بعد روحاني أو بطولي أو حتى رمزي، لا توجد أي قصة بطولية ولو حتى بفبركة على الجانب الصهيوني، ولا يرتبط إسقاط أطنان المتفجرات من السماء بأي سمة أو قدرة بشرية. هناك برودة تكنولوجية منزوعة من الإنسانية ودون الإنسانية لن نجد أي روحٍ كي نتحدث عن الروحانية. لذلك لا تجد مديحاً لمكتسباته إلا من المنبطحين له أو المنتفعين منه، مديح أقرب لموظف صاغر يعظّم من شأن مديره. أقول كل هذا للتحذير من أن الانتصار المحتمل للكيان نذير شؤم على العالم أجمع، فهو انتصار للآلة على الإنسان، ولو كانت هذه هي النتيجة النهائية حقاً فالمسألة سوف تتخطى مع الوقت هذه القضية بعينها، النظرة القاصرة لهذه الحرب بأنها دينية بين اليهودية والإسلام لن تدرك أن اليهودية هي الأخرى لن تسلم من فقدان الروحانية حتى لو كانت لها الكلمة الأخيرة في هذا الفصل. بهذا أعني أن انتصار الطرف المتقدم تكنولوجياً على أسمى البطولات، سواء كان الانتصار فعلياً أم أنه رُسم بأيدي الفريقين المهزومين ظاهراً أو باطناً، يعني انتصار الرموز الرياضية على الرمزية البطولية، فإذا كان العالم بسبب عموم المادية لم يعد أهلاً بالبطولة، فكيف لأي بطلٍ في المستقبل أن يقوم بدوره الأزلي؟ لذا لا بد من التركيز على عدة مواقف في هذه الحرب أثبت فيها المقاومون أن البطولة البشرية تتغلب على الصعاب، الطوفان هو مثال بارز واضح لكن هناك أمثلة في كل الجبهات، المقاوم اللبناني الذي صمد بعد أن فقد هرم قادته وتعرض لأبشع هجمة إرهابية مثال آخر، والمثال الجديد في هذه الحرب هو المقاوم اليمني الذي لم يكترث بتاتاً بالنظام العالمي الذي اتفق على الإبادة.
اختزلت النقاش بهذين الفريقين (الممجدين القاعدين والطامحين للهزيمة) لتغطية مساحة شاسعة لكن هناك وجهات نظر عدة، منها ما يطلب إعطاء الميكروفون للضحايا أنفسهم. وعلى الرغم من احترام وجهة النظر هذه للضحايا ظاهرياً إلا أن القائل بها فهو بالعادة يتجاهل تنوّع الضحايا وتنوّع الآراء مما يعني أن النتيجة لن تكون أمراً متفقاً عليه، ويتجاهل تطور الآراء مع الوقت وانكشاف ما خفي أو بعد تسلسل يكرّس واقعاً دون آخر، علاوة على ذلك فإن بعض أصحاب هذه النظرة لا يقبلون برأي الضحايا لو أجمعوا على ما يخالف رأيهم الشخصي، لكنها وجهة نظر لو آمن بها المرء وأخذها إلى منتهاها المنطقي ستستحق الاحترام، أي لو أسس لرفع مقام كل الضحايا وصنع تراتبية واضحة تعلي من شأن أهل غزة على تفاوت آرائهم بدلاً من التحيز لمن يتفق مع القائل فحسب، لكن إلى هذه اللحظة لا أرى هذه الدرجة من الوفاء وإنما استغلال الضحايا إذا اتفقوا أو تجاهلهم إذا اختلفوا. يكمن الخلل من ناحية منطقية في وجهة النظر هذه في أن الواقع بذاته لا تبنيه الديمقراطية.
الهوس بتعيين النتيجة يعكس علاقة القعود والتفرج لا الارتباط المصيري أو الاكتراث الحقيقي، النتيجة في نظري هي ما زالت قيد الصنع لأن الحرب بالمجمل لم تنتهِ فعلاً، الأصح هو أن نعود للأهداف التي انطلقت الحرب لأجلها ونراجع بواقعية كل عقبة في طريق تحقيقها، لتتم هذه المراجعة على مستوى الفلسفة التي تتخطى كل شيء لا على المستويات الحزبية أو لتصفية حسابات ما قبل الطوفان، والأهم من ذلك يجب أن نصل نتيجة عملية لا تعامل الحرب كأنها مباراة رياضية، فليدرك كل واحد منا أين مقعده على تراتبية الفضائل وما وجب عليه فعله للترقية التي تتخطى معايير الدنيا وبطريقة أخرى معايير الآخرة أيضاً.
على كل حال، ما لم أجده في كل النقاشات احترام عظمة كل ما وقع وإعطائه حقه من الفكر والعمل لتثبيت نتيجة دون أخرى، ربما ما شهدناه مزّق الواقع كما عهدناه ولم يعد هناك معنى للحديث عن "المعايير الدنيوية والأخروية" وكأنها ما زالت بيّنة، عن أي آخرة يتحدث مليار مسلم سني لم يطلقوا رصاصة لوقف الإبادة؟ وما هو تعريف النصر الممكن أصلاً في دنيا اختل ميزان القوى فيها هذا الاختلال الجهنمي؟ هذه الحرب قد فتقت بعداً آخر يفوق كل المعايير ولا يمكن الجزم بأمرها دون فهمه.