(مرفأ للثقافة والنشر، بيروت، 2024)
[علي صلاح بلداوي، شاعر وصحافي عراقي من مواليد 1996، حاصل على البكالوريوس في القانون، ويشتغل في الصحافة الثقافيّة والتصميم الجرافيكي].
جدلية (ج): كيف ولدت فكرة النصوص، ما هي منابعها وروافده ومراحل تطوّرها؟
علي بلداوي (ع. ب.): ديواني الأول، الصادر عن دار مرفأ للثقافة والنشر في بيروت، ليس روايةً ولا نقدًا ولا ينتمي إلى مجال آخر، بل هو مجموعة شعريّة لا تتوقف على ولادة الفكرة لتكون، إنما جاءت حصيلة نصوص كُتبت على مدار سنواتٍ مضت، وجُمعت لتكون "ما أردتُ قولهُ منذ البداية". وبالتأكيد، يستفيد الديوان من الشعريّة العراقيّة والعربيّة ومن التجارب العالمية المؤثرة في هذا الفن، ليجد لنفسه المساحة الخاصة والمتفردة، ويترك أثرًا ملموسًا في النتاج الشعري الإنساني.
(ج): ما هي الثيمات الرئيسية للمجموعة، وما هو العالم الذي تأخذنا إليه النصوص؟
(ع. ب.): تنفتح النصوص على التجارب الإنسانية ومعاناة هذا الكائن الملاحَق من قِبل السلطات المختلفة: سلطة الدين، والدولة، والقبيلة، والأسرة، والمجتمع، وكل ما يمثّل قوّة قهرٍ وتقليصٍ للحريّة التي مُنحت له. يحمل النص حمولاتٍ ثقافيّة مُتعدِّدة ترتبط بطبيعة الحال بكل فردٍ منا، بما يكتنفه من معتقداتٍ وعلاقاتٍ وأفكارٍ تنبع من مكانه وبيئته وتراثه. أما ثيمته الأساسية فهي الإنسان، بوصفه كائنًا بلا قدرة أو سلطة حقيقية أمام القوى الكبرى التي تتحكم في مصيره، سواء أكانت قوى الإنسان ذاته أم قوى أخرى. من هنا، فإن الانحياز الشعري دائمًا موجَّه إليه، نحو معاناته وصراعاته.
(ج): كتابُك الأخير عبارة عن مجموعة شعرية، هل لاختيارك جنسًا أدبيًا بذاته تأثير فيما تريد أن تقول، وما هي طبيعة هذا التأثير؟
(ع. ب.): الكتاب مجموعة شعريّة، وهو أوّل الأعمال المنشورة لي، بعد فترةٍ من الكتابة والنشر في الصحافة. اختياري لهذا الجنس بالكتابة لم يكن إراديًّا، منذ البداية وجدت أنَّني أكتبُ بطريقةٍ حرَّةٍ لا تتقيَّد بقيودٍ مُعدّة مسبقًا وعلى الجميع أن يلتزم بها. ومع تطور التجربة، وكثافة القراءة للتجارب المختلفة، أصبحت الكتابة بهذه الطريقة، هي الأكثر ملائمةً لمفهومي للشعر وطريقة التعاطي معه وكتابته. ومع أنَّ لكلِّ جنسٍ تأثيره في فضائه الخاص، يؤدي دورهُ بالشكل الذي يتعامل معها الكاتب ويطوّره أو يبتدع فيه ما هو جديد، لهذا، فإنَّ الطريقة التي أكتب فيها، هي الوحيدة التي يمكن من خلالها أن أقول ما أريده، كما لا يمكن أن أقوله بطريقةٍ أخرى.
(ج): ما هي التحديات والصعوبات التي جابهتك أثناء الكتابة؟
(ع. ب.): التحديات والصعوبات حاضرة قبل الكتابة، والكتابة تُولد منها، هي تحديات الحياة والظروف المختلفة.
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الإبداعية؟
(ع. ب.): رغم أنَّهُ العمل الأول، إلا أنَّه يحملُ أهميةً ونضجًا كبيرين؛ لأنَّه نتاجَ تجربةٍ واعيةٍ واشتغالٍ بعنايةٍ وحرفيّة. وبالتأكيد لن أندم عليه كما فعل الكثيرون مع كتابهم الأول.
(ج): هل هناك نصوص كانت ذات تأثير خاص، أو قرأتها أثناء إنجاز النصوص؟
(ع. ب.): الكاتب وطوال مسيرته يتأثَّر ويُؤثِّر. الأهم، أثناء إنجاز النص، أن يتمتع بأسلوب لا يشبه سواه.
(ج): هل تُفكّر بقارئ محدّد أثناء الكتابة، صفه لنا؟
(ع. ب.): أفكّر بالذي سيقرأُ النص بعد أن أنتهي منه مباشرةً، هذا القارئ الصارم الذي يسكنني ويراقبني ولا يُعجب بالنّص من أوّل قراءة. هو في الجهة الأخرى من الكاتب، لا علاقة له به، وينتظر نصًا يرضيه فقط.
(ج): ما هو مشروعك القادم؟
(ع. ب.): أعمل على العديد من المشاريع برويّة وهدوء، معظمها مشاريع شعريّة تستحوذ على جلّ اهتمامي. إلى جانب ذلك، هناك مشروع رواية أعمل عليه حاليًا، وأرجو أن أنتهي منه خلال هذه الفترة.
مقتطفات من المجموعة
كُلَّما هَبَّتِ الريح
كُلَّما سَمِعتُ نايًا في الجِوار
تَفقّدتُ حَنْجَرَتي
وكُلَّما أبصَرتُ امرأةً تُسلّي عَتَبَة بابِها بالماء
تَصعَدُ في عروقي اللّهفةُ إليه، وكأنَّه مِنّي.
يَعرِفُني الفَجرُ عندما يستيقظُ مثلَ طفلٍ صغير
فيستلقي على كتفي
تَعرِفُني الشَّمسُ أيضًا،
أقودُها كلَّ غروبٍ إلى بيتِها متعبة.
على يديَّ كبرت الـ"آه، يا وَيْلي"،
وصارت لها عائلةٌ من المَواويل
وعلى مَقربةٍ منّي، شاختِ الأغنياتُ، وهُجِرتْ
وكُلَّما هبَّتِ الرّيحُ تمايلتْ
لهذا
يظنّ
النّاسُ
دائمًا
أنَّني
من
قَصب.
أُربِّيهِ في غُرفتي
أليفٌ هذا النَّهرُ الذي يَصبُّ من لوحة البستانِ
على كتابِ الينابيعِ في المكتبة
ومؤنِسٌ سربُ الحمامِ
يُهاجِرُ من صورتي في الصِّبا
إلى صورتي في غرفةِ البيتِ نائيًا عن العالم.
من هنا،
عبرَ المُشاةُ على الجسرِ إلى زهرةِ الوادي
ومن هناك،
لوَّح العازفون بالقصبِ لميّالِ رأسهِ على عزفِهم،
لا نافخٌ في قِرنِ ثَورٍ يَكسرُ غفوةَ النّائمِ
لا هَلِعٌ يسحبُ العواصفَ من أقدامِها
فيواري ثياب الملائكة
ولا حَجَرٌ يتلبَّسُ خطوةَ الماشي ويُجنُّ فيها.
أليفٌ هذا العالمُ الذي أُربِّيهِ في غُرفتي
وموحشٌ
ذلك
الذي
أراهُ
من
النافذة.
أمتلكهُ فَحسبْ
على صَخرةٍ في مكانٍ لم تَطَأْهُ الأقدامُ بعدُ
بنيتُ بيتًا:
من شُرفتهِ تَلمحُ انحناءةَ الأرضِ البَعيدة
ومن بابهِ الخلفيّ
تُشرِفُ على هِجرة النَّهر
وتلويحِ الغابةِ للرِّيح المُهاجِرة.
رَشَشْتُ عتَبَتَهُ
رغم أنَّ لا أحدَ سَيَعبُرُ فيشمُّ رائحةَ التُّراب.
زَيّنتُ البابَ بالرَّيحانِ
رغم أنَّ لا أحد سيطرقه.
على الطاولةِ في الحديقةِ:
تركتُ الكوبَ يَصّاعدُ منه البُخار
ليصيرَ غيمةً في الأعلى،
وكِتابًا يَشرحُ كيف تعتني بِجدرانِ البيتِ
حينما تكونُ من المدى،
والسَّقْفِ، حينما يكونُ مطرّزًا بالنجومِ البعيدة.
لي بيتٌ بنيتُه هناك
ولا مفاتيحُ تُثبتُ ذلك
إنَّني أمتلكهُ فَحسبْ
وهذا
ما
أردتُ
قَولَهُ
مِنَ
البِداية.