[لويس توماس (١٩١٣-١٩٩٣): عالم أحياء وفيزيائي وكاتب أمريكي شهير. اشتهر بعمله في علم الأحياء وعلم الطبيعة، وخصوصاً بأبحاثه حول الميكروبات والأحياء الدقيقة. كانت له أيضاً مساهمات كبيرة في مجال الأدب العلمي. من أهم كتبه "حيوات الخلية: ملاحظات من مراقب مختص بعلم الأحياء"، وهو كتاب يعرض أفكاره حول الأحياء الدقيقة وتأثيرها على فهمنا للحياة. كان توماس معروفاً بأسلوبه الكتابي الذي يمزج بين الدقة العلمية والثراء الأدبي، ما جعله واحداً من أبرز الكتاب في مجال الأدب العلمي].
قِيلَ لنا إن مشكلة الإنسان الحديث تكمن في محاولته للانفصال عن الطبيعة. فهو يجلس في طبقات البوليمر[١] والزجاج والفولاذ، مدلياً ساقيه النابضتين، ناظراً من مسافة إلى الحياة المتقلبة للكوكب الأرضي. في هذا السيناريو، الإنسان قوة هائلة مدمرة، وتُصَوَّر الأرض كمثل شيء هش أشبه بفقاعات تتصاعد فوق سطح بركة في الريف، أو كمثل تحليق الطيور المريضة.
لكننا سنكون متوهمين لو ذهب بنا الظنّ إلى أن هناك شيئاً ضعيفاً في حياة الأرض؛ فمن المؤكد أنها أقوى غشاء يمكن تخيّله في الكون، واحتمالاتها غامضة، ولا يقدر الموت على التغلغل فيها. نحن من يشكّل الجزء الضعيف العابر والمعرّض للخطر كالهدب[٢] فيها. لهذا ليس من المستغرب أن يبتكر الإنسان وجوداً يتصوّر أنه أسمى من بقية الحياة، فقد كان هذا هو الجهد الفكري الذي لم يتوقف الإنسان عن بذله على مر الألفيات. إلا أن هذا الجهد لم ينجح أبداً في خلق وهم أرضى الإنسان في الماضي، والأمر يتكرر اليوم. إن الإنسان موجود في الطبيعة ومتضمن فيها. وجعل علم الأحياء من هذه الحقيقة أمراً أشد وضوحاً في السنوات الأخيرة. غير أن المشكلة الجديدة المعقدة هي كيفية التعامل مع الإدراك المتزايد لمدى تداخلنا مع الطبيعة.
هناك مسألة هامة تستحق النقاش: يمكننا القول بثقة إننا غير موجودين ككيانات مستقلة. فنحن لسنا مصنوعين، كما افترضنا دائماً، من حِزم تم إغناؤها على نحو متعاقب من أجزائنا، بل مُتَقَاسَمون ومُأجَّرون ومُحْتَلّون. وما يوجد داخل خلايانا ويقودها مقدماً الطاقة المؤكسدة التي ترسلنا إلى الخارج لتحسين كل يوم مشرق، هو الميتوكوندريا[٣]، وهذه ليست ملكاً لنا. فقد تبيّن أنها كائنات صغيرة منفصلة، نسل استعماري انحدر من الخلايا المهاجرة بـدائية النواة[٤]، وهي على الأرجح جراثيم بدائية سبحت إلى أسلاف خلايانا حقيقية النواة[٥] واستقرت فيها. ومنذ ذلك الوقت فصاعداً، حافظت على نفسها وطرقها، وتكاثرت بأسلوبها المتفرّد، بالحمض النووي والحمض النووي الريبي[٦] الخاصين بها، والمختلفين تماماً عن حمضينا. تعيش هذه الكائنات بطريقة مشابهة للجراثيم الريزوبية[٧] التي تعيش في جذور البقوليات. من دونها، لن نتمكن من تحريك عضلة واحدة، أو النقر بإصبع، ولن تخطر لنا فكرة. إن الميتوكوندريا سكان مستقرون ومسؤولون، وأختار أن أثق بهم. لكن ماذا عن الحيوانات الأخرى الصغيرة، المكوّنة بشكل مشابه في خلاياي، والتي تفرزني وتوازنني وتجمع أجزائي؟ إن السنتريولات[٨] التي في داخلي، والأجسام القاعدية[٩]، وعلى الأرجح عدد لا بأس به من الكائنات الدقيقة الأخرى التي تعمل داخل خلاياي، وكل منها بخارطته الجينية الخاصة، هي غريبة وضرورية، مثل المن في أعشاش النمل. لم تعد خلاياي الكيانات الأساسية التي نشأتُ معها، بل صارت أنظمة بيئية أشد تعقيداً من خليج جامايكا. أحب أن أفكر بأنها تعمل لمصلحتي، وأن كل نَفَس أتنشّقه هو لي، لكن ربما هي من يمشي عبر الحديقة المحلية في الصباح الباكر، وتشعر بشعوري، وتصغي إلى موسيقاي، وتبتكر أفكاري.
تعزّيني نوعاً ما فكرة أن النباتات الخضراء تواجه المأزق نفسه. فهي قد لا تكون نباتات أو خضراء من دون البلاستيدات الخضراء[١٠] التي تدير عملية التركيب الضوئي وتولّد الأوكسجين لبقيتنا. وكما تبيّن، فإن البلاستيدات الخضراء هي أيضاً كائنات منفصلة لها خارطتها الجينية الخاصة، وتتحدث لغتها الخاصة.
نحمل مخازن من الحمض النووي في نواتنا، التي قد تكون أتت في وقت أو آخر، من انصهار خلايا أسلاف وارتباط كائنات حية متعايشة. إن خرائطنا الجينية كتالوجات تحتوي على تعليمات من مصادر من الأنواع كلها في الطبيعة، وجُمعت للتعامل مع أنواع الطوارئ، وبالنسبة لي، أنا ممتن للاختلاف والاصطفاء، لكنني لا أستطيع الشعور ككيان منفصل كما كنت أفعل منذ بضع سنوات، قبل أن تُقال لي هذه الأمور، ولن يستطيع ذلك أي شخص آخر كما أعتقد.
هناك مسألة هامة أخرى تستحق النقاش: إن تجانس الحياة على كوكب الأرض، الذي يُعدّ أكثر إدهاشاً من تنوعها، يمكن تفسيره بالاحتمال الكبير أننا جميعاً نشأنا من خلية واحدة تم إخصابها بواسطة صاعقة أثناء المراحل المبكرة لتشكيل الأرض. لقد ورثنا من ذرية تلك الخلية الأصلية، التي كانت بمثابة الوالدين البيولوجيين لنا، مظهرنا وجيناتنا. لذا، فإن التشابه بين إنزيمات الأعشاب وإنزيمات الحيتان هو تشابه عائلي. وبدلاً من أن تكون مجرد عوامل للمرض والموت، تبدو الفيروسات الآن وكأنها جينات متنقلة. فالنشوء ما زال لعبة بيولوجية مملة لا نهاية لها، يبقى فيها الفائزون فقط جالسين حول المائدة، لكن القواعد بدأت تصبح أكثر مرونة. فنحن نعيش في ماتريكس[11] راقص من الفيروسات التي تتنقل بحرية، كمثل النحل، بين الكائنات الحية: من نبتة إلى حشرة، ثم إلى حيوان ثديي، وصولاً إليّ، لتعود مرة أخرى إلى البحر. تسحب قطعاً من هذه الخارطة الجينية وخيوطاً من الجينات، مُغذيةً تنوع الحياة كأنها حفلة كبيرة تمرر فيها الوراثة. ربما كانت الفيروسات آلية لنشر أنواع جديدة ومتحولة من الحمض النووي على نطاق أوسع بين الكائنات الحية. إذا كان هذا صحيحاً، فإن الأمراض الفيروسية الغريبة التي يجب أن نركز عليها في الطب يمكن النظر إليها كحادث طبيعي أو نتيجة لتفاعلات طبيعية.
ثمة مسألة أخرى تستحق النقاش: كنت أحاول التفكير بأن الكوكب الأرضي نوع من أنواع الكائنات الحية، لكن هذا غير دقيق، ولا أستطيع التفكير به بهذه الطريقة. فهو بالغ الضخامة، وشديد التعقيد، ويحتوي على كثير من الأجزاء العاملة التي تفتقر إلى صلات مرئية فيما بينها. في إحدى الليالي، وبينما كنت أقود سيارتي في المناطق المرتفعة والغابية من جنوب ولاية نيو إنجلاند، شرعت بالتفكير بهذه المسألة:إذا كانت الأرض لا تشبه كائناً حياً، فكيف يمكن أن نتخيلها؟ ما الشكل الذي قد تكون أكثر قرباً إليه؟ في تلك اللحظة، راودتني فكرة غير تقليدية: ربما تشبه الأرض خلية واحدة أكثر من أي شيء آخر.
[ترجمة أسامة إسبر، المصدر: Phillip Lopate, The Glorious American Essay: One Hundred Essays from Colonial Times to the Present].
هوامش المترجم:
[1]: البوليمر: مركب كيميائي يتشكل من جزيئات متكررة من خلال عملية البلمرة، التي تُعرف بتفاعل كيميائي يحدث بين جزيئين أو أكثر، حيث يتّحدان لتكوين مركب كيميائي يحتوي على جزيئات هيكلية متكررة.
[2]: الهدب: عضية في الخلايا حقيقية النواة على شكل نتوء نحيف ينطلق من جسم الخلية الأكبر بكثير.
[3]: الميتوكوندريا (أو المتقدّرة): جهاز صغير في الخلية يقوم بإنتاج الطاقة من خلال توليد جزيئات ATP، التي تعتبر مصادر الطاقة في الخلية.
[4]: لا تحتوي على نواة حقيقية. بدلاً من ذلك، يكون الدي إن إي موجوداً في منطقة غير محددة داخل الخلية تُعرف بالمنطقة النووية أو النواة الكاذبة.
[5]: تحتوي على نواة محددة بغطاء مزدوج من الأغشية، حيث يتم احتواء المادة الوراثية (DNA) داخل النواة.
[6]: الحمض النووي الريبي (RNA) هو جزيء حيوي يلعب دوراً رئيساً في العمليات البيولوجية داخل الخلايا. يُعتبر RNA جزيئاً مماثلاً للحمض النووي (DNA) ولكن له بعض الخصائص الفريدة.
[7]: الجراثيم الريزوبية: بكتيريا تثبيت النيتروجين التي تعيش في جذور البقوليات وتعمل بشكل تكافلي مع النباتات.
[8]: السنتريولات: عضيات خلوية أسطوانية الشكل تتكون أساساً من بروتين يسمى تيوبيولين، توجد في معظم الخلايا حقيقية النواة.
[9]: الجسم القاعدي: عضي خلوي مترافق مع تشكيل الأهداب والأسواط.
[10]: البلاستيدات الخضراء: العضيات الخلوية في الخلايا النباتية التي تقوم بعملية التركيب الضوئي، وتأتي من بكتيريا خضعت لعملية تعاون داخلي.
[11]: الماتريكس: مجموعة من البيانات المفهرسة التي يمكن الوصول إليها باستخدام أسماء معينة.