جوني منصور: 'الإبادة الجماعية' في غزّة بحاجة إلى توثيق مهني كوثيقة إدانة

[غلاف الكتاب]. [غلاف الكتاب].

جوني منصور: "الإبادة الجماعية" في غزّة بحاجة إلى توثيق مهني كوثيقة إدانة

By : Aws Yacoub أوس داوود يعقوب

في الوقت الذي ما تزال فيه آلة القتل الإسرائيلية تتمدّد بهمجيتها فوق أرض غزّة، وفوق أجساد الأطفال والنساء والشيوخ والشباب من أبناء القطاع المحاصر المنكوب، رغم دخول اتّفاق وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ في 19 الجاري، في هذا الوقت، تواصل مؤسّسات ودُور النشر الفلسطينية والعربية والأجنبية إصدار الكتب عن حرب الإبادة الجماعية، التي راح ضحيتها جراء العدوان الإسرائيلي، نحو 47200 شهيد و111300 إصابة، إضافة إلى آلاف المفقودين تحت الأنقاض، منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وذلك انطلاقاً من قناعة تلك المؤسّسات والدُور أن للكلمة دوراً هامّاً في تسليط الأضواء على ما جرى ويجري في غزّة منذ أكثر من470 يوماً، وكذلك لتحليل أسباب وتداعيات عمليّة "طوفان الأقصى"، وما تلاها من حرب انتقاميّة وحشيّة هي الأطول عمراً فوق جزء من أرض فلسطين التاريخية المحتلّة منذ سنة 1948.

كتاب "غزّة: حجر الزاوية" للمؤرّخ والباحث الأكاديمي الفلسطيني الدكتور جوني منصور، الصادر عن "المؤسّسة العربية للدراسات والنشر" في عمّان وبيروت، 2024، والذي قدّم له المؤرّخ والأكاديمي الإسرائيلي إيلان بابيه، هو واحد من تلك الكتب التي يرى أصحابها أنّ "الكتابة مقاومة".

وعلى ضوء هذا الكتاب، الذي يرى فيه مؤلّفه أنّ "طوفان الأقصى" حدث مفصلي وفارق نتج عنه سلسلة من التحوّلات سواء في المنطقة أو على صعيد العالم برمّته، أجرينا مع الدكتور جوني منصور هذا الحوار.

جوني منصور مؤرّخ وباحث ومحاضر أكاديمي ولد في مدينة حيفا في فلسطين المحتلّة عام 1960. يعمل في حقل التربية والتعليم منذ 35 عاماً، وهو ناشط اجتماعي وسياسي في أطر وطنية مختلفة دخال الخط الأخضر. له إصدارات وأبحاث عديدة تركّز على دراسة تاريخ الشرق الأوسط الحديث، وتاريخ فلسطين والقضية الفلسطينية. 

من مؤلّفاته: "شوارع حيفا العربية" 1999، "مسافة بين دولتين2004، "الاستيطان الإسرائيليّ" 2005، "الأعياد والمواسم في الحضارة العربيّة" 2006، "الخطّ الحديديّ الحجازيّ" 2008، "إسرائيل الأخرى" و"معجم الأعلام والمصطلحات الصهيونية والإسرائيلية"، و"المؤسّسة العسكرية في إسرائيل" (مشترك) 2009، "المدينة الفلسطينيّة في فترة الانتداب البريطانيّ" 2010، "خارطة حيفا العربيّة" 2014، "حيفا، الكلمة التي صارت مدينة" 2015، و"مئويّة تصريح بلفور (1917 – 2017): تأسيس لدولة، وتأشيرة لاقتلاع شعب" 2015. وله قيد الطبع كتاب بعنوان "القدس في المحفوظات الملكية المصرية".


كيف تبلورت فكرة كتابك الأخير "غزّة: حجر الزاوية "؟ ما الهدف الأساسي الذي فكرت به حين شرعت في إنجازه؟

منذ اليوم الأوّل لمعركة "طوفان الأقصى" وأنا أتابع الأحداث كغيري من المهتمين أو ذوي الاختصاص من خلال وسائل الإعلام والصحافة وشبكات التواصل. فقرّرت مباشرة أن أجمع موادَّ متنوّعة ومن وجهات نظر مختلفة حول ما يجري ويتدحرج. وتوفرت لدي مواد بلغات عدّة وتشكيلة كبيرة ومختلفة من الآراء والأفكار، فقلت في نفسي كيف يمكن تجنيدها لخدمة الدفاع عن غزّة. فأنا أمتلك فكراً وقلماً وانتماءً وهذه يجب تجنيدها بالكامل لهذا الغرض. أضف إلى ذلك التصدّي للهجمات المتوحّشة للرواية الصهيونية والغربية الناكرة للحقّ الفلسطيني أوّلاً، والداعية إلى منح "إسرائيل" حقّ الدفاع عن النفس دون الأخذ بقيمة حياة الفلسطينيين في غزّة، والذين نعتهم ووصفهم وزير الحرب الإسرائيلي "يوآب غالانت" بأنهم "حيوانات بشرية". كيف يمكن لآدمي أن يقف مكتوف اليدين أمام عبارة شيطانية وفوقية ومتغطرسة كهذه. لقد تركت هذه العبارة أثرها في نفسي بشكلٍ كبير، ولا زلت إلى يومنا هذا أراها أمام ناظري وأتساءل: إلى هذا المستوى بلغ الاحتلال انحطاطاً مدعوماً من أنظمة الغرب البيضاء؟ 

أعتقد أنّ هدفي الرئيس كان ولا يزال الدفاع عن حقّ الفلسطيني في الحياة أوّلاً وآخراً. وحقّ الحياة مقدّس ورئيس لأي إنسان في العالم. وليس من حقّ أي إنسان أو شعب أو سلطة سلب هذا الحقّ.

ماذا يتضمّن الكتاب من أفكار وطروحات؟

أبرز أفكار الكتاب توفير لمحة تاريخية موجزة للغاية حول خلفيات اندلاع عملية "طوفان الأقصى"، حتى يتسنى للقارئ معرفة الأساسيات وليس التوسع في الموضوع لأنّ يقتضي جهداً آخر مستقبلاً. إلى جانب ذلك إنّ لمشاعر وأحاسيس أهالي غزّة مكانة جد خاصّة. لا يعني ذلك التوقّف للبكاء وذرف الدموع وهذا حقّ إنساني أيضاً، إنّما لفهم الجوانب الإنسانيّة ممن تعرّض ويتعرّض لحرب إبادة على المكشوف وببث مباشر وسط خذلان العرب وصمت دول بأكملها. في حين أنّ الفكرة الرئيسية توفير إطلالة على النقاش والحوار العميق الذي رافق الحرب في نصف سنتها الأوّل. إذ كانت هناك نقاشات وجدالات كثيرة جداً تناولتها وسائل الإعلام والتواصل حول الحرب وكيفية ربط ما يجري مع أحداث من الماضي تكشفت فور اندلاع الحرب على غزّة. ولا بدّ من الإشارة هنا إلى تراجع حضور غزّة في الجوّ العامّ العالمي ابتداءً من صيف 2023. ولكن هذا لم يمنعني من مواصلة معالجة الموضوع.

هل يمكننا أن نعتبر الكتاب تأريخاً لحرب الإبادة الجماعية أم هو توثيق لها؟

الكتاب هو ليس تأريخاً لموضوع الإبادة الجماعية. يوثّق الكتاب تطوّر الحرب الإسرائيلية على غزّة وصولاً إلى مرحلة ما أصبح حقيقة واقعية بكونها حرب إبادية. ولكن موضوع "الإبادة الجماعية" في غزّة بحاجة ماسة إلى توثيق مهني وموسّع كوثيقة إدانة وليس فقط وثيقة تاريخية، وقد نقوم به في المستقبل أو قد يقوم به آخرون من المعنيين بالأمر.

تناولت في الكتاب بالنقاش والتحليل الكثير من المصطلحات التي تنتجها الحروب، منها "الإبادة الجماعية"، و"المناطق الآمنة"، و"التطهير العرقي"... ما الذي استوقفك في قراءة ورؤية الغرب لهذه المصطلحات ببعدها الحاضر والتاريخي؟

هناك نقاش واسع في الغرب بوجه خاصّ حول تعريف مثل هذه المفاهيم والمصطلحات. ورأينا بوضوح تامّ التلكؤ والتواطؤ في كيفية تعريفها من جديد أو تغيير تفسيراتها. كل ذلك يتماشى مع الأجواء السياسية التي تتعلّق بجوهر العلاقة بين حكومات الغرب وبين "إسرائيل". تريد هذه الحكومات الابتعاد كلياً عن استخدام مثل هذه المصطلحات حتى تُبقي "إسرائيل" مصانة منها لأنّ "إسرائيل" تشير دائماً بأنّ شعبها تعرّض لحرب إبادة وتطهير عرقي في الحرب العالمية الثانية، ولا يمكن تشبيه ما جرى في غزّة بمثل ما جرى لليهود وكأن ذلك امتياز لهم فقط. من جانب آخر أردت الكشف عن زيف استعمال مصطلحات مثل "مناطق آمنة" لكونها خدعة متّفق عليها بين "إسرائيل" وأمريكا الداعم بل الشريك الأكبر للمقتلة في غزّة. هذه مصطلحات إيهامية فقط لإسكات من يستيقظ بضميره ليقنع نفسه أنّ "إسرائيل" دولة تتسلّح بالأخلاق. هذا وهم وتلفيق كشفته أيام الحرب وتطوّر مجرياتها. بل حوّلت "إسرائيل" المناطق الآمنة إلى مناطق مجازر لآلاف الفلسطينيين لحثهم وتشجيعهم على النزوح والهجرة من غزّة.

أبرز أفكار الكتاب توفير لمحة تاريخية موجزة للغاية حول خلفيات اندلاع عملية "طوفان الأقصى"، حتى يتسنى للقارئ معرفة الأساسيات وليس التوسع في الموضوع لأنّ يقتضي جهداً آخر مستقبلاً. إلى جانب ذلك إنّ لمشاعر وأحاسيس أهالي غزّة مكانة جد خاصّة فيه

لماذا أردت أن يكتب المؤرّخ والأكاديمي الإسرائيلي "إيلان بابيه" مقدّمة الكتاب؟ وما الذي أضافته، من منظورك؟

المؤرّخ "إيلان بابيه" هو صديق عريق. أعرفه منذ 30 عاماً تقريباً. وتعاونا في ميادين بحثية، إذ صدر لنا "قاموس تاريخ فلسطين" باللغة الإنجليزية، وأيضاً دراسة حول "التضامن في أوقات الأزمات" وغيرها، وكذلك تشاركنا في مواقف نضالية عديدة من أجل الحقّ الفلسطيني والعدالة من أجل الإنسان. "بابيه" معروف عالمياً بمواقفه المناصرة للقضية الفلسطينية، وهو من مناهضي الصهيونية والاحتلال، ومن الداعين إلى الدولة الواحدة، لأنّه يرى أنّ مسارات حلّ الدولتين أو استمرار الاحتلال غير ممكنة بالمرّة. من جهة ثانية، لقد أوضح "بابيه" في تقديمه للكتاب أهمّية الكتابة في ظلّ الحرب من طرف مؤرّخ (يقصدني) عارف بحيثيات الأمور ومجيد للغتين المنطوقتين من طرفي الصراع، إلى جانب أنّ موقفه واضح من مسألة أهمّية بل ضرورة التصدّي للبروباغندا (الهاسبارا) الإسرائيلية من طرف الفلسطينيين لتثبيت الرأي العالمي المؤيد والمناصر للقضية الفلسطينية والداعي لوقف حرب الإبادة المتوحّشة في غزّة. من جهة أخرى أعتقد بكل ثقة أنّ تقديمه ليس للشهرة، فهذا غير وارد في معجمي إنّما لكونه شريكاً في المصير ومؤمن بصدق وعدالة حقّ الفلسطينيين في مقاومة الاحتلال، وهذا الحقّ مكفول بالشرعية الدولية (إن أرادت أن تعترف به).

هل من تحدّيات وصعوبات جابهتك أثناء الكتابة؟

لأنّ الكتاب من أساسه ليس بحثاً تاريخياً بالمطلق وإنّما أقرب إلى الحوار السياسي والفكري والثقافي فإنّ التحديات الرئيسية التي اعترضت طريقي كانت في تفسيرات وتأويلات المحلّلين وكُتّاب المقالات والسياسيين لعدد من الأحداث والمفاهيم المرتبطة بالحرب على غزّة. واجهت أيضاً مسألة كيفية تجنيد مفاهيم لصالح المشروع الصهيوني وتلميعه. كما أنّني واجهت مناهج تحليلية تستند إلى شرعنة الحقّ الإسرائيلي في القتل والتدمير. والأهم بل فوق ذلك مناقشة مسألة (حقّ "إسرائيل" في الدفاع عن النفس) دون أي ذكر للـ "احتلال". وكأن هناك نسياناً أو تخلّياً عن الاحتلال واعتباره شرعياً. وواجهت كغيري تلك المواقف التي ترفض قرارات المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية. علينا مواجهة قوى عملت منذ قرن ولا تزال من أجل تثبيت بقاء المشروع الكولونيالي الغربي "إسرائيل" في المنطقة لتبقى المنطقة ممزّقة ومفكّكة. هذه القوى الغربية ومعها قوى عربية متخاذلة لن تتنازل عن مشروعها في المنطقة، بل ستسعى إلى تثبيته وفرضه بالقوة وعلى حساب شعوب المنطقة، وأوّلها إلى الآن الشعب العربي الفلسطيني.

الكتابة عن فلسطين جزء من المقاومة. بتقديرك، ما الدور الذي يمكن أن تلعبه الكتابة في خدمة القضية الفلسطينية؟ وهل بوسعه أن يغير ما نكتبه من الوقائع الميدانية القاتمة؟ 

الكتابة عن فلسطين والقضية الفلسطينية هي جزء من المقاومة، بل مقاومة من نوع آخر. ليست مسلّحة بالسلاح العادي، بل بالسلاح الفكري والتاريخي والثقافي والإنساني. ومنذ بداية الصراع الصهيوني/العربي ترافقت معه عملية فرض السردية (الرواية) الصهيونية وإنكار الرواية الفلسطينية.

لقد استطاعت الرواية الفلسطينية بفضل مؤرّخين فلسطينيين وعرب وأجانب من جعلها رواية ثابتة وراسخة ومنتشرة في العالم بلغات مختلفة. صحيح أنّ القضية الفلسطينية بحاجة إلى مزيد من الأبحاث والدراسات لتبقى صامدة أمام تيّار جارف من البحوث الصهيونية والداعمة لها، إلّا أنّ وضعنا اليوم أفضل من قبل في هذا المجال. القضية الفلسطينية مستندة على حقائق تاريخية ولا يمكن إخفاؤها أو تحييدها، وهي ضرورية لنصرة ودعم الحقّ الفلسطيني بين المثقّفين والسياسيين أينما كانوا في العالم. وهناك الكثير مما يجب القيام به وعمله. 

وأنا أعتقد أنّ الكتابة سواء في مجال الأدب والروايات والشعر والمسرح والدراسات التاريخية والجغرافية والعلوم السياسية تؤكّد حضور القضية ووجودها، وتوعية الأجيال على أهمّية المعرفة ونقل هذه المعرفة إلى ميادين مؤثرّة عالمياً. فمن يكتب نصوصاً تاريخية يبغي التأثير، لكنّه لا يتوقّع أنّ يحدث التغيير الآني، فالتغيير هو عبارة عن تراكم للأحداث يتأثّر فكرياً وعملياً بما يتمّ طرحه والتعاطي معه.

هل تابعت ما صدر من كتب (فلسطينية وعربية وأجنبية) عن عملية "طوفان الأقصى"، منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأوّل 2023، وما تلاه من عدوان إسرائيلي على غزّة، ربما هو الأكثر وحشيّة وتدميراً في التاريخ الحديث؟ وما تقييمك لهذه الإصدارات؟

طبعاً أتابع بشكل يومي بل ساعة بساعة كل ما يكتب عن معركة "طوفان الأقصى". سواء من مقالات أو تقارير أو كتب أو برامج تلفزيونية. وإن قلت لك ٌنّني سخّرت ما بين 16-20 ساعة يومياً في النصف الأوّل من الحرب لما توقّعت ذلك. وهذا أمر فيه إنهاك للفكر والجسد، ولكن غزّة بحاجة إلى من يتابع شؤونها وأمورها يومياً نصرة ودعماً لها. ما صدر حتى الآن، بما فيه كتابي، وهو من أوائل الكتب عن هذه المعركة، لا يمكنني تصنيفه في باب الكتابة التاريخية، إنّما في باب التحليل السياسي ومقالات الرأي والتعليق. ولكن هذه أيضاً مساهمة قوية وفعالة لوضع اللبنات الأولى للكتابة من الدرجة الثانية في قادم الأيام، وأعني بها الكتابة التاريخية التي تحتاج إلى التأني والحيطة لكونها عميقة التحليل ومستفيدة مما سيتكشف من وثائق ودلائل حول مجريات الأحداث.

كيف يستشرف المؤرّخ جوني منصور مستقبل غزّة بعد نحو 470 يوماً من حرب الإبادة الجماعية الوحشيّة التي شنّها جيش الاحتلال الإسرائيلي ضد القطاع المحاصر منذ سنة 2007 والذي تعرّض إلى سلسلة من الحروب المحتدمة المتلاحقة؟

الوضع الذي تكشف عن غزّة بعد وقف إطلاق النار قاس ومؤلم ومعقد. ولكن أمام إصرار أهالي القطاع على العودة وإعادة بناء ما دمّرته آلة القتل والإبادة الإسرائيلية الوحشيّة، ذلك يطمئن بأنّ هذا الشعب قوي وباق على أرضه في مواجهة آلات القتل والإبادة والتهجير كلها. 

ستكشف هذه الحرب مدى الخذلان العربي عموماً، وأيضاً الفلسطيني والدولي وكيف أنّ الشرعية الدولية والقانون الدولي لم يتمكّن من وقف حرب إبادة بالبث المباشر. تهاوت منظومات أخلاقية عربية وعالمية، ولن يكون هناك أي مساحة للتمسّك بها. عند بوابات غزّة تهاوت منظومات كهذه وغيرها. وعند بوابات غزّة ارتفعت أصوات البقاء والتمسّك به وبالأرض. أهالي غزة بحاجة إلى أمل، والأمل الذي يملكونه خاصّ ومميّز، وسيواجهون الصعاب بصبر وثبات. وهذا ما علمنا إياه تاريخ الشعوب المناضلة. وستكون غزّة أكبر درس في مواجهة شعب أعزل لجيش عات مسنود من الدول العظمى الكولونيالية.

هل من مشروع كتاب جديد تعمل عليه، وما موضوعه؟

أعمل الآن على توسيع مواد كتاب كنت قد بدأت به قبل قرابة 15 عاماً، بعد وقوع الانقسام بين القيادات الفلسطينية وتحديداً بين حركة حماس والسلطة الفلسطينية. توجعت وتألمت كثيراً من الذي حصل. والشعب الفلسطيني يعمل طيلة عقود على تحقيق مشروعه الوطني بإقامة دولة. وها هو الانقسام يصبح مشهداً عادياً! ألا يكفي هذا الشعب أنّه موزع في الجغرافية الفلسطينية وخارجها؟ ألا يكفي أنّ في فلسطين التاريخية تقسيماً بفعل النكبة في سنة 1948 بين فلسطينيي الداخل والفلسطينيين في أراضي الـ 1967؟ رأيت من المناسب تأليف كتاب تحت عنوان: "فلسطين: أرض واحدة لشعب واحد". وكنت أردّد دائماً ولا أزال أنّ الفلسطينيين بحاجة إلى تبنّي سردية واحدة موحّدة لتاريخهم مهما تشتتوا في جغرافيات مختلفة. فالتاريخ واحد لشعب واحد وقع تحت احتلال واستعمار بشع وعليه السعي من أجل وحدته. 

الكتاب سيصدر في هذا العام ليكون تاريخاً واحداً وشاملاً لكل الفلسطينيين، وأساسه التعريف بالشعب الفلسطيني في المائة سنة الأخيرة ونضاله من أجل حرّيته وحقّه في الحياة. ولي أمل قوي، وسأعمل على تحقيق ذلك، في أن يكون هذا الكتاب في متناول كل فلسطيني لأنّه وثيقة توحّد تاريخ الفلسطينيين مهما كانت الظروف التاريخية التي حلّت عليهم.

أخيراً، ما الذي تودّ أن تضيفه في نهاية حوارنا؟

ما أودّ إضافته أنّ من يملك القدرة أو من لديه أي فرصة للمساندة من أجل إبقاء القضية الفلسطينية محور القضايا العادلة في العالم، ألّا يتوانى في توفير إمكانيات سواء في الكتابة أو المسرح أو السينما أو الثقافة وغيرها. وأنّ عليه أن يكون في خضمّ الأحداث وألّا يقف على الحياد. فالقضية الفلسطينية ترفض الحياد وتؤكّد الانخراط والاشتباك الفكري والسياسي وخوض المعارك بأشكالها المختلفة من أجل الوصول إلى الهدف المنشود.


بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬