[اضغط/ي هنا لقراءة الجزء الثاني].
المقالة بجزئيها عبارة عن نصّ محاضرة بيسان التي أُلقيت في 13 نوفمبر 2024. يستعرض فيها ديدييه فاسان بعض العناصر الواردة في كتابه "هزيمة غريبة. حول القبول بسحق غزة"، الذي نُشر في خريف عام 2024 عن دار النشر "لا ديكوفيرت". وستصدر نسخته الإنجليزية في يناير 2025 عن دار النشر "فيرسو" بعنوان "التخلي الأخلاقي، كيف فشل العالم في وقف تدمير غزة". يمكن الاطّلاع في هذا الكتاب على المراجع التي استند إليها التّحليل الوارد في نصّ المحاضرة.
ديدييه فاسان، عالم أنثروبولوجيا وسوسيولوجيا وطبيب، أستاذ في كوليج دو فرانس، كرسي "القضايا الأخلاقية والتحدّيات السياسية في المجتمعات المعاصرة"، وأستاذ في معهد الدراسات المتقدّمة في برينستون.
ترجمة الشاعر التونسي علي اللواتي.
إنّ في دعوتي لإلقاء هذه المحاضرة بمركز بيسان لشرف كبير ينالني، ومن المطمئن أنّه لا يزال هناك أماكن يتاحُ فيها التعبير بحرية والتأمّل في ما يحدث في الشّرق الأوسط، وبالأخصّ في الأراضي الفلسطينية المحتلّة. ويستند جزء من مداخلتي إلى كتاب "هزيمة غريبة" الذي نشرتُه مؤخرًا بالفرنسية وسيصدر قريبًا بالإنجليزية.
إنّ سلسلة المحاضرات التي ينظّمها مركز بيسان للبحث والتطوير تكتسب أهمية خاصة في وقت أدّى تكميم الأفواه وقمع حرية التعبير فيه إلى الرّقابة الذّاتية وتشويه الوقائع وتقويض الحقيقة بعنف عندما يتعلق الأمر بفلسطين. لم يكن الأمر دائمًا على هذا النحو، ففي العام 1948، أدانت هانا أرندت (Hannah Arendt) وألبرت أينشتاين (Albert Einstein) مجزرة دير ياسين ووصفا مناحم بيغن بـ"الفاشي" في رسالة موجهة إلى صحيفة نيويورك تايمز وقّعها عدد من المثقفين اليهود. وفي العام 1976 انتقد جان أمري (Jean Améry) إسرائيل بسبب احتلالها غير القانوني للضفّة الغربية وغزّة، وفي العام 1984 انتقدها بريمو ليفي (Primo Levi) بسبب مشاركتها في مجازر صبرا وشاتيلا، وكلاهما صهيونيان وناجيان من المحرقة، وأعلنا أنّ على الشّتات اليهودي أن ينأى بنفسه عن دولة لم تعد تمثّله. أمّا اليوم، فإن تلك الشخصيات اليهودية البارزة قد تُتَّهَمُ بمعاداة السّامية لو أنّها اتّخذت الموقف ذاته.
ولقياس الدّرَك الذي انحدرت إليه مجتمعاتُنا، يكفي أن نلاحظ أنّ دعوة المفوّض العام لوكالة الأونروا (وكالة الأمم المتحدة المسؤولة عن تقديم المساعدة والحماية للاّجئين الفلسطينيين) لإلقاء محاضرة بمؤسسة أكاديمية أمريكية حول مستقبل التعدّدية، تثير ردود فعل عدائية. حتى العمل الإنساني أصبح محلّ شُبهة في زمن يقبلُ أن يُبادَ سكّانُ غزّة وأن تُدَمَّرَ منازلهم وبنيتُهم التحتية ومستشفياتُهم ومدارسُهم وجامعاتهم ومعالمهم الدينية بالكامل، وأن تُبْتَلَعَ الضفّةُ الغربية والقدس الشرقية تدريجيًا وبعنف من قِبَلِ المستوطنات والجيش، وأن تُزال قرًى بأكمَلِها في جنوب لبنان وتُسْحَقَ أحياءٌ في بيروت. إنّ هذا القبول بعمليات القتل الجماعي للفلسطينيين وحلفائهم هو ما أحاول تحليله في هذا النّصّ.
لكن ما الذي يجب فهمه من مصطلح "القبول"؟ إنّ لهذا المفهوم بُعدين مختلفين: بُعدٌ أوّل سلبي يتمثّل في عدم معارضة مشروعٍ ما، مما يسهِّلُ تنفيذه. أما الثاني فهو بُعد إيجابي ويتمثّل في الموافقة عليه مما يُكْسِبُهُ دعمًا لتحقيقه؛ ولقد تمّ الجمع بين البُعدين في حالة الحرب على غزة. فعندما يرفض مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة من ناحية فرضَ وقفٍ لإطلاق النار بسبب الفيتو الذي يمارسه أحد أعضائه، أو، من ناحية أخرى، عندما يرفض مجلس إدارة مؤسسة تعليمية عليا إمكانية التّصويت لإدانة تدمير الجامعات وقتل أساتذتها، فإنّها بمثابة موافقة ضمنيّة، في الحالة الأولى، على استمرار المجازر بحق السكان الفلسطينيين وتدمير أراضيهم، وفي الحالة الثانية، على استمرار سحق النظام التعليمي والأكاديمي الفلسطيني. ومن ناحية أخرى، عندما تتالى زيارات رؤساء الدول إلى القدس لتأكيد حق إسرائيل غير المشروط في الدفاع عن نفسها، أو عندما ترسل إليها حكوماتهم كميات هائلة من الأسلحة والقنابل والطائرات، فإنهم بذلك يوافقون بالفعل على عدم وضع أي قيود للعمليات الانتقامية، وعلى تقديم الموارد اللازمة لتنفيذها، حتى وإنْ صرّح القادة العسكريّون والسياسيّون الإسرائيليّون علنًا مبرّرين قتل المدنيين أنه "لا يوجد أبرياء في قطاع غزّة". والجدير بالذكر، بعد اعتراف محكمة العدل الدولية بوجود خطر محتمل للإبادة الجماعية يستوجب الوقاية منه، تحوّل بعض المؤيدين من القبول الفعّال إلى قبول سلبي صامت لكن دون وقف إرسال المعدّات. وطوال الحرب، قامت بعض الدول الغربية بأكثر من مجرد القبول، إذْ منعت كذلك التعبير عن الآراء المؤيدة لحقّ الفلسطينيين في العيش بكرامة، أو حتى لمجرد حقّهم في الحياة من خلال اتهامهم بالتحريض على الكراهية أو تمجيد الإرهاب، أو باعتقال المرابطين منهم في الحرم الجامعي، أو منع آخرين من دخول الأراضي الأوروبيّة
إنّ القبول بتدمير الفلسطينيين في غزة يشكّلُ تنازلاً أخلاقيًّا لا مثيل له منذ الحرب العالمية الثانية وتدمير يهود أوروبا، فهو يتجاوز مجرّد التخلّي عن مصير مجموعة بشريّة - وهو أمر قدّمت السّياسات الواقعية الدّولية مؤخرًا أمثلة عديدة عليه - إلى تقديم دعمٍ فعّالٍ يُسجِّلهُ التّاريخ للقضاء عليها. وللتّهوين من فرادَةِ صِفَةِ الإبادة في غزة والتّقليل من فظاعتها، وبشكل عام لتشويه سمعة من ينتقدون الحرب التي تشنّها إسرائيل، يستشهد البعض بحروب ومجازر أخرى. إنّهم يشيرون ـــ وهم محقّون في ذلك ـــ إلى مآسٍ حدثت في السّودان ودارفور، وإثيوبيا وتيغراي، وميانمار والروهينغا، والصّين والإيغور، وغيرها. وكلّ تلك الحالات مأساوية فعلا، وبعضها قد شهد عددًا أكبر من الضحايا مقارنة بغزة. غير أنّ تلك الحروب أو المجازر لم تظفر بذلك الدّعم غير المشروط من الحكومات الغربية أو بالإدانة المنهجية لمن ينددّون بها مثلما ظفرت به الحرب على غزة، حيث تجاوز حجم الدّمار والإبادة أيّ مقارنة؛ لذلك فإنّ هناك حاجة ماسّة لِفحص الوضع وتحليله على نحو واضح وصريح.
إنّه فحصٌ لاستقصاء ما الذي أدّى إلى أن يصبحَ من المقبول لدى القادة السّياسيين والمفكّرين في معظم الدّول الغربيّة أن تكون حياة المدنيين الفلسطينيين أقلّ قيمة بمئات المرّات إحصائيًّا من حياة المدنيين الإسرائيليين، وأن يُعتَبَرَ الموتُ الذي يتعرّض له أولئك أقلّ جدارة بالتّكريم من موتِ هؤلاء؛ وما الذي أدّى إلى أن يُدانَ طلبُ وقفِ إطلاق النّار الفوري لوقف مجازر الأطفال وقد قُتِلَ منهم الآلاف بالفعل، وجُرِحَ الكثيرون وأُحْرِقوا وبُتِرَتْ أطرافهم وأُصيبوا بصدمات، بأنّه معاداة للسّاميّة، وإلى أن تُمْنَعَ المظاهراتُ واللّقاءاتُ المطالبة بالسّلام العادل، ويُعاقَبَ الأشخاصُ الذين يشيرون إلى تاريخ المنطقة، وأن تُكَرِّرَ معظمُ وسائل الإعلام الغربيّة الكبرى دون تأكيد مستقلّ، الرّوايةَ التي ينقلها معسكر الاحتلال، بينما لا تتوقّف عن التّشكيك في الرّواية التي يقدّمها ضحاياه؛ وإلى أن تفرض السّلطاتُ الحكوميّة والمؤسّسات العلميّة والسّلطاتُ الجامعيّة الصّمتَ على الأصوات المطالبة بتطبيق قوانين الحرب والقانون الدّولي الإنساني، بينما يُسْمَحُ للأصوات التي تتنَصّلُ من تلك القوانين بالاستمرار في الكلام؛ وما الذي أدّى إلى أن يُعْتَبَرَ من قبيل التّحريض على الكراهيّة انتقادُ حكومةٍ تُروِّجُ للتّفوّق اليهودي وتُنْكِرُ وجودَ شعبٍ ويصرّحُ بعض أعضائها المنتمين إلى اليمين المتطرّف بخطابات تُنْكِرُ إنسانيتَه، وإلى أن يَعْمَدَ الكثيرون ممّن كان بإمكانهم التّحدّث أو حتّى المعارضة، إلى غضّ النّظر عن محو أرضٍ وتاريخِها وسكّانها، بل قد يشجّعون على استمرار ذلك. إنّ مثل هذا الانقلاب في القيَم التي تُعلِنها المجتمعات الغربيّة لَيَسْتَحِقُّ فعلا أن يُفْحَص.
ولكنّ المفارقة هي أن يحظى ذلك التّخلّي الأخلاقي للدّول بتبرير باسم الأخلاق. فقد قيل أنّ الدّول الأوروبّية تتحمّل مسئوليّة تاريخيّة تجاه اليهود ويجب عليها ضمان أمنهم، ولقد كان الهجوم في السّابع من أكتوبر عملا وحشيّا يهدّد وجود إسرائيل ذاته وبذلك لم يكن الرّدّ العسكريّ الإسرائيليّ أمرا لا مفرّ منه فقط وإنّما فعلا مشروعا كذلك. أمّا فيما يتعلّق بموت المدنيين الفلسطينيين فهو أمر مؤسفٌ بالطّبع، ولكن الجيش الإسرائيلي الذي يُعتبَرُ الأكثر أخلاقيّة في العالم، قد بذل قصارى الجهد لتفاديه. وفي الواقع فقد اعتُبِرَ تدميرُ غزّة وجزء من سكّانها شرًّا أهونَ من شرّ أعظم منه، وهو اختفاء إسرائيل الذي تسعى إليه حماس. وبناء عليه فإنّ الحديث عن الجرائم التي ارتكبها الإسرائيليون يدلّ على موقف يجاهرُ بأبشع أنواع العنصريّة، أي معاداة السّاميّة. فحتّى ذكر الإبادة الجماعيّة في الحديث عن مجزرة الشّعب الفلسطيني لا يمكن قبوله لأنّ أحفاد شعبٍ كان ضحيّة أكبر إبادة جماعيّة في التّاريخ لا يمكن اتّهامهم بارتكاب إبادة جماعيّة. لذلك ترى أنّ أنصار معاقبة الفلسطينيين جماعيّا يشعرون براحة الضّمير. وفي هذه الحال لا تبدو القيم مقلوبة فقط وإنّما يصبح أساسها غير مستقرّ. وكما لاحظ الكاتب جيمس بالدوين بشأن تدمير حياة المواطنين السّود في الولايات المتّحدة، فإنّه "لا يمكن القبول بأن يكون مرتكبو الدّمار أيضا أبرياء؛ فالبراءة هي التي تشكّل الجريمة".
يقول الشاعر الفلسطيني فادي جودة : "من حين لآخر، تموت اللّغة". إنها تموت اليوم. من الذي بقي على قيد الحياة ليتحدث بها؟ وفعلا فإنّ لغة وصف الحرب التي شُنَّت على غزة بدت ميتة، أو بالأحرى، كان هناك سعي لجعلها تموت بفرض مفردات وقواعد لغوية لتوثيق الأحداث وبتقرير ما يجب قوله وإدانة ما لا يجب قوله، وذلك تحت طائلة أن يشار إلى الشّخص المـُتحدث كهدفٍ للانتقام العام، أو استبعاده من المجتمع الرّاقي أو تجريده من مسؤولياته أو طرده من مؤسسته أو حرمانه من دخله أو سلبه جائزة أو منعه من المشاركة في مؤتمر أو إخضاعه لتحقيق قضائي أو حتى استدعائه للمثول أمام المحكمة. كانت تلك المحاصرة البوليسيّة لِلُّغةِ، وهي أيضًا محاصرة للفكر، تُغَذَّى بتنديدات صادرة عن زملاء وأساتذة ومواطنين وجمعيات تطالب بفرض عقوبات على المخالفين.
ومع ذلك، فإنّ الكلمات مهمّة وطريقة تسمية الأحداث حاسمة؛ فصيغة «حرب إسرائيل-حماس»، مثلا، التي اعتمدتها وسائل الإعلام الغربية الرئيسية للإشارة إلى الأحداث التي وقعت في غزة بعد السّابع من أكتوبر، لا تعكس نوايا القادة السياسيين والعسكريين الإسرائيليين وممارساتهم. فقد دعا رئيس الوزراء إلى الانتقام من "العماليق"، العدو التوراتي الذي كان على إسرائيل، وفقًا للكتب المقدسة، أن تقتلَ منهم بنفس الطريقة "الرّجال والنّساء والأطفال حديثي الولادة والرُّضَّع». وقد أعلن رئيسُ الدّولة أن «الأمّة بأسرها مسئولة»، وقال «سنقاتل حتى نكسر عمودها الفقري»؛ وأشار وزير الدّفاع إلى أنه «لن يكون هناك كهرباء ولا طعام ولا ماء ولا وقود»، لأنها حربٌ ضدّ «حيوانات بشرية» و«يجب علينا التصرّف وفقًا لذلك». وصرّح وزير الأمن القومي بأن من يدعمون حماس «هم جميعًا إرهابيون ويجب تدميرهم»؛ وأعلن نائب رئيس الكنيست أنّ «هدفَنا الـمُشترك جميعا هو مسح قطاع غزة من على وجه الأرض». وشرح ماجور جنرال احتياطي أنه كان من الضّروري «جعل غزّة مكانًا يستحيل العيش فيه مؤقتًا أو نهائيًا»، وأن «يتمّ إبلاغ السّكان أنّ لديهم الخيار بين البقاء والموت جوعًا أو المغادرة»، وهي إعادة صياغة لتصريح الجنرال الألماني فون تروتا (Von Trotta)، المسئول عن الإبادة الجماعية لشعب الهيريرو (Herero) والنّاما (Nama) في جنوب غرب أفريقيا في بداية القرن العشرين. ولقد وصلت إسرائيل القول بالفعل بقصف المنازل والمدارس التي حُدِّدتْ على أنّها مناطق آمنة، وحرمان السّكان من وسائل العيش، ومنع المساعدات الإنسانية لِتُسَبِّبَ مجاعةً هناك، وإطلاق النار على الأشخاص المتّجهين نحو مواقع توزيع الطعام، وتدمير جميع المنشآت الصّحّية لمنع علاج الجرحى والمرضى. لذلك، لم تكن تلك «حرب إسرائيل-حماس»، كما قيل وإنّما كانت حرب الجيش الإسرائيلي لإبادة غزّة.
ولكن ما الدّاعي إلى استعمال عبارة «حرب إسرائيل-حماس»؟ هناك سببان على الأقل لذلك: أوّلهما أنّها تشير إلى عدوٍّ تعتبره معظم الدول الغربية تنظيمًا إرهابيًا ممّا يُشَرْعِنُ استخدامَ أشدّ الأساليب على الأرض. والثاني هو أنّ ذلك يمحو مائة عام من الصّراع ـــ الذي تناوله بالدّرس المؤرخ رشيد خالدي ـــ بين اليهود والعرب، ثم بين الإسرائيليين والفلسطينيين من خلال ربط الرّدود العسكرية الانتقامية بهجمات السّابع من أكتوبر فقط. وقد استخدمت وسائل الإعلام المهيمنة بالفعل هذه العبارة. وإذا استثنينا وكالة الأنباء الفرنسية فإنّ وسائل الإعلام تقدِّم حماس كجماعة إرهابية، وتسميتها بغير ذلك تثير الرّيبة بينما تُعَدُّ تسميتها بجماعة مقاومة مجْلَبَةً للعار، بل قد تنجرّ عنها الملاحقةُ القضائية؛ وقد شرح لي بعض الصّحفيين أنّ هيئات تحرير صحفِهِم أو قنواتهم قد أضافت كلمة «إرهابي» إلى مقالاتهم أو مقابلاتهم. هذا وإنّ جميع التقارير، شفوية كانت أم مكتوبة حول الحرب على غزّة، يجب أن تسبقها جملةٌ تذكّرُ بأنها نشبت «ردًا» على هجمات السّابع من أكتوبر، مع إثبات الإحصائيات حول الضّحايا و الرهائن الإسرائيليين دون الإشارة إلى عقود من العنف ضد الشعب الفلسطيني وإلى خروقات إسرائيل المتكرّرة للقانون الدّولي.
وبحسب الشّاعرة الفلسطينية هالة عليان، فإن «نقطة انطلاق السّرد مهمّة». إنّ الادّعاء بأنّ السّابع من أكتوبر كان بدايةً للحرب في غزّة لا يعني فقط تجاهلا للتّاريخ بل أيضًا إعطاءَ معنًى خاصّ للوقائع ذاتها، كما يترتّب عنه أثَرَان حاسمان بالنّسبة لأولئك الذين يدافعون عن هذا التفسير: أوّلا: أن تبدو أعمال العنف المـُرتَكَبة في جنوب إسرائيل مُتَّصِفَةً بوحشيةٍ خالصة، لا عقلانية ولا مُتَوَقَّعة في آن، مما يسمحُ بتجريد مقاتلي حماس من إنسانيتهم وبتوسيع خطاب الكراهية ومنطق الانتقام، من خلال استعمال مجازيّ، ليشملَ جميع الفلسطينيين. ثانيًا: أن لا تعترفَ الدّولة الإسرائيلية، بناءً على ذلك، بأيِّ مسؤولية في نشوء الأحداث سواءً كان ذلك بسبب عشرات السّنين من قمعها للفلسطينيين وخنقهم، أو بسببِ الإستراتيجية التي استخدمَتْها لتقوية حماس، ذلك التنظيم الذي أوقعها في هذه المحنة. إنّ هذين المنطقين - التّجريد من الإنسانية وادّعاء الخلوّ من المسؤوليّة – هما ما يفسّر وحشية العملية العسكريّة.
إنّ إحدى الأسئلة اللّغوية الحاسمة في هذا السياق هي توصيف أحداث 7 أكتوبر بأنها مذبحة. هذا يعني أنّ الضّحايا قد قُتلوا لأنهم كانوا يهوداً، فهو إذن فعلٌ معادٍ للسّامية، وهي جريمة ضدّ الإنسانية ولعلّها الوصمة الأشدّ التي تُلْحَقُ بمن يرتكِبُها في نظر العالم الغربي، فهي ترتبط بالإبادة الجماعية لليهود التي كان لعدة دول أوروبية ضلعٌ فيها على نحو فعّال. ولم تتردّد حكومة إسرائيل وإعلامها ومواطنوها في الإشارة إلى ذلك بمقارنة الهجوم بالمحرقة واعتبار مقاتلي حماس نازيين، وحتى بارتداء النجمة الصفراء كما فعل السفير الإسرائيلي لدى الأمم المتحدة. وقد تحدّث الرئيس الفرنسي عن "أكبر مذبحة معادية للسامية في القرن الواحد والعشرين". غير أنّ مثل ذلك التّفسير لا يأخذ في الاعتبار حقيقةَ أنّ الهجوم الذي ارتُكبت خلاله جرائم حرب، كان له دلالة أخرى لأولئك الذين قاموا به، وأنّ من المهمّ فهم الأفعال من منظور أولئك الذين نفّذوها. وكما يقول طارق بقعوني: "يجب أن نرى اللّجوء إلى العنف وأن ندركه ـــ دون تبرير له ـــ من منطلق مركز ثقل متجذِّر في الأراضي الفلسطينية، وليس في الغرب". وفي الوثيقة التي تحمل عنوان "روايتنا... عملية طوفان الأقصى"، يبرر قادة حماس هجومَهم بكونه عملاً من أعمال المقاومة، وقد جاء رداً على عقود من الاستيلاء، والاحتلال، والاضطهاد، والإذلال من قِبَلِ إسرائيل، يُضافُ إلى ذلك الحصار المفروض منذ عام 2007، مستهدفًا، مع العقوبات، جميع سكان غزة التي تُعْتَبَرُ "كياناً معادياً"، وكذلك قمعُ الاحتجاجات السِّلمية لمسيرةِ العودة الكبرى في عامي 2018 و2019، التي أسفرت عن مقتل 214 فلسطينياً، من بينهم 46 طفلاً، وإصابة 36100 شخص، منهم 8800 قاصر، وأخيراً الاستفزازات التي مارسها المستوطنون أثناء صلاتهم بالقرب من المسجد الأقصى في 4 أكتوبر - من ذلك أتى اسم العملية. ومن هذا المنظور، يُعتبر ضحايا 7 أكتوبر من ضمن الأعداء؛ لكن الحديث عن هذا التفسير يُقابَلُ بالإدانة، بل بالحظر والملاحقة من قِبَلِ عديد الحكومات والمؤسّسات الأكاديمية ووسائل الإعلام الغربية مما يؤدي أحياناً إلى المساءلة وتوجيه التّهم والاستدعاء للتّحقيق من قبل الشرطة والمحاكمات. وكثيرا ما يُقْصَدُ إلى تشويه عمل الباحثين في العلوم الاجتماعية عند الاستشهاد بجملةٍ لرئيس فرنسي سابق يقول فيها : "عندما تبدأ في محاولة تفسير ما لا يمكن تفسيره، فأنتَ على وشك تبرير ما لا يمكن تبريره"؛ وهو ما يمكن الردُّ عليه بقولة لِجورج أورويل: "من يسيطر على الماضي يسيطر على المستقبل. من يسيطر على الحاضر يسيطر على الماضي"؛ فذِكْرُ المذبحة ونكران المقاومة إنّما يعني فعلاً محوَ تاريخَ فلسطين.
كان لوسائل الإعلام الغربية الكبرى، وخاصة السمعية البصرية، دورٌ مهمّ في توصيف الوضع، متبنّيةً في ذلك ما تعلنه الـ"هاسبارا" وهي التّسمية العبريّة لجهود الإعلام والدّعاية الرّسميّة للحكومة الإسرائيليّة. وغالباً ما قيل إنَّ صمت تلك الوسائل حول ما كان يعيشه سكان غزة يُعزى إلى مشاكل في الوصول إلى حيث تدور الأحداث، حيث كانت القوات الإسرائيلية تقتل الصحفيين الفلسطينيين ولا تسمح بحضور زملائهم الأجانب في الميدان إلا إذا كانوا برفقتهم؛ وكانت تكرّر قطع الاتصال بين الفلسطينيين والعالم الخارجي؛ ومع ذلك فقد حُرِّرَتْ تقارير، وجُمِعَتْ شهادات، وأُنْتِجَتْ صورٌ، لكن لم يقع تداولها خارج وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام البديل وبعض القنوات التّلفزيونية مثل "الجزيرة". وفي الواقع كان التحيّز الإعلامي ناتجاً بشكل رئيسي عن قرارات تحريرية كما أثبتتهُ التحقيقاتُ التي أجرتها "ذا إنتيرسيبت" (The Intercept) في الصّحف الكبرى بالولايات المتحدة. وقد جاء في تحاليل الصّحفيين المستقلّين في "أكرميد" (Acrimed) و"بلاست" (Blast) بفرنسا، أنّ وسائل الإعلام الرئيسية أبدت "تعاطفاً انتقائياً"، حيث نقلت الإذاعة العموميّة قصصاً عن رهائن إسرائيليين أُطْلِقَ سراحُهم، اشتكوا فيها من الجوع أثناء احتجازهم في قطاع غزة المحاصر، دون ذكر أصل شُحّ الموادّ الغذائيّة وأسبابه؛ لكنها لم تذكر المدنيين الفلسطينيين الـمُسَرَّحين من السّجون والمعسكرات الإسرائيلية بعد تعرّضهم للإهانة والتعذيب. وقد تحدّثت عن مخاوف التّلاميذ الإسرائيليين قرب الحدود مع لبنان إذ يضطرّهم دويّ صفارات الإنذار للاختباء في الملاجئ، لكنها تجاهلت قلق أطفال غزة الذين لا مكان لديهم يلجئون إليه من القنابل بعد أن دمّرت القوات الإسرائيلية المدارس التي ادّعت بأنّها آمنة. وقد أجرت وسائل الإعلام الفرنسيّة الرّئيسيّة مقابلات على شاطئ تل أبيب مع هواة ركوب الأمواج الذين شرحوا فيها ممارستهم لتلك الرّياضة من أجل تهدئة قلقهم من الطائرات المسيّرة والصواريخ المــُرْسَلَةِ من إيران؛ لكنها غالباً ما كانت تكتفي بعبارة واحدة للتّذكير بعدد القتلى الفلسطينيين في غزة دون التّوّسّع في الحديث عن تجربة النساء اللاتي لم يعد بوسعهِنّ إرضاع أطفالهن وعن الأطفال الذين ليس لديهم ما يأكلونه. هكذا اختارت معظم وسائل الإعلام الغربية أن تعترف بإنسانيّة الإسرائيليين دون الفلسطينيين؛ لقد أطنبت في الحديث عن "نجاح" العملية العسكرية لتحرير أربعة إسرائيليين كانوا محتجزين في مخيم للاجئين في 8 يونيو 2024 ونقل احتفالات الفرح عند استقبالهم في تل أبيب، مع ذكر عابر لعدد القتلى من المدنيين الفلسطينيين وكانوا 274 قتيلاً من ضمنهم 64 طفلاً و57 امرأة، و700 جريح. كانت وسائل الإعلام الرسمية تتحدث عن "تحرير رهائن"، بينما كان الحادث في وسائل الإعلام المستقلة معروفاً باسم "مجزرة النّصيرات".
إنّ القبول بالحرب ضدّ غزة وبنتائجها المأساوية قد نزع أيّ مشروعيّة أو فاعليّة عمّا يبديهِ أولئك المشاركون في هذا التخلي الأخلاقي من تعلّق بحقوق الإنسان وبالوازع الإنساني - وإن كان من الثّابت أنّ لغتَهم المزدوجة في العديد من المجالات كانت قد أفقدتهم مصداقيتهم ومنذ وقت طويل بما في ذلك في بلادهم ذاتها. إنّ العالم الغربي - أو على الأقل غالبية قادته ومؤسساته - قد قدّم دعماً غير مشروط أو يكاد، ليس فقط لإبادة جزء كبير من السّكان الفلسطينيين، خاصة من أفراد الجيل الذي يشكّلُ مستقبله وأمله، بل أيضاً لمحو كل ما يمثّلُ روح شعب بأسره : المدارس، المكتبات، المتاحف، المقابر، المباني الدينية، المعالم التاريخية، المراكز الثقافية. وقد فعلت ذلك مُحاوِلةً تكميمَ أفواه الباحثين والمثقفّين والطّلاب والفنانين والنُّشطاء والسّياسيين والمواطنين الذين رفضوا المشاركة في تلك الجريمة المستمرّة من خلال الترهيب والوصم بأسوأ الصّفات والعقوبات، بينما كانت القوات الإسرائيلية تعدِمُ الأكاديميين والصّحفيين والكتّاب والشّعراء والأطباء والعاملين في مجال حقوق الإنسان من الفلسطينيين لإخماد صوتهم. لقد نبّه أعضاء المؤسّسات التعليمية والبحثية في فرنسا المسئولين فيها لما يجري محتجّين على صمتهم غير أنّ هؤلاء لم يبدوا التّضامن ذاته مع زملائهم الفلسطينيين كما فعلوا مع زملائهم في أوكرانيا بعد الغزو الرّوسي ومع زملائهم في إسرائيل بعد هجوم 7 أكتوبر، رغم أن الجيش الإسرائيلي كان يدمِّرُ جامعاتِ غزة آنذاك، ويقتل رؤسائها، وأساتذتها، وطلابها، وموظّفيها الإداريين والفنيين. وكما تقول الأنثروبولوجية كاثرين هاس (Catherine Hass) فإنّ هدف الحكومة الإسرائيلية كان "خلقَ وضع لا يمكن إصلاحه في أجسام وعقول الجميع، وصنعَ أجيالٍ من الأمّيين في مجتمع يعتبر التعليم والثقافة أمرين في غاية الأهمّية" لقد كان الهدف هو "جعل فلسطين لا تعطي شيئاً للعالم"، وهو انقلاب إلى الضدّ لِعُنْوان معرضِ معهد العالم العربي الجميل المنتظم بباريس في خريف 2023، تحت عنوان : "ما الذي تعطيه فلسطين للعالم".